لسنا أمام أزمة بل أمام حرب ضروس .. والبلد نحو خيار الشرق مرورًا بالمشرق
من اسلوب الفطنة وقول “أنا ملزم بمحبّة الجميع، من يحبني ومن لا يحبني” الى.. ما قبل كلمة الرئيس وما بعده شيء آخر: معركة التحرر بدأت
خطاب رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون البارحة كان مفصليًّا بكلّ ما للكلمة من معنى، إذ يسوغ الاعتبار بأنّ ما قبله شيء وما بعده شيء آخر.
تقييم الخطاب ينطلق من الشكل. لقد بدونا أمام رئيس آثر التحوّل النوعيّ بوضوح صوته وفخامة العبارات وصراحة الأفكار وشفافية الرؤى، ولغة مديدة ومليئة بالشواهد خالية من الشوائب أو الأخطاء الإعرابيّة، تحوّل من الدفاع إلى الهجوم. كان الرئيس مهجوسًا من وصول البلد خلال 17 تشرين الأوّل 2019 أو قبلها من خلال حادث قبرشمون المفتعل إلى فتنة، فكان يعالجها بالفطنة، ويغسلها بينابيع الحكمة. الفطنة والحكمة منهجيّتان اعتمدهما في خطابه السياسيّ حتى لا ينفجر لبنان بمجموعة فتن كان يراها متصاعدة حتى الثمالة بالجنون. موقعه الدفاعيّ لم يبطل عنده الثوابت الجوهريّة، ولم يلغ رؤيته الإصلاحيّة.
فضّل في السابق أن يتصرّف كأب للجميع باحتضان بليغ، حتى للذين ناصبوه العداء منذ الابتداء، لدرجة أنّه قال مرّة لصديق له: “أنا ملزم بمحبّة الجميع، من يحبني ومن لا يحبني ولذلك أنا أستقبلهم وأتحاور معهم بانتباه كليّ من أجل بناء لبنان الدولة والكيان، والاستبقاء على الحالة التواصليّة حيّة”.
في الليتورجيا التي تعتمدها الكنيسة الأرثوذكسيّة خلال خدمة أناجيل الآلام، وردت عبارة دقيقة عن يهوذا الإسخريوطيّ، “أمّا يهوذا المخالف الشريعة فلم يشأ أن يفهم”، وتتكرّر العبارة إيّاها أكثر من ستّ مرّات متتالية، وهذا، للتدليل على شناعة وقباحة خيانته. إستعارة العبارات واردة في معظم الأدبيات الإنسانية والسياسيّة، سواء بين الأصدقاء أو العائلات وهي قائمة في الحكم والسياسة. ذلك أنّ عالم السياسة يحتمل كثيرًا الخسّة والحقارة ودناءة النفس والسرقة واستعذاب المصالح النتنة.
لم يفهم من ناصب ميشال عون الخصومة والعداوة، بأن استثنائيّته التمعت من كونه رجل المحبّة بامتياز. قد لا يطلب من خصوم ينتمون إلى طوائف أخرى فهم المعاني بهالتها الصادقة والبهيّة، ولكن كيف لم يفهمها من يذوق مع ميشال عون الإيمان عينه، وقد شاء زيارته بحب في السّجن؟
لقد قفز ذلك الرجل إلى موضوع التحقيق الجنائيّ خلسة، ولم نره في السابق يناصر التيار الوطنيّ الحرّ في مواجهته الشرسة مع تلك المنظومة الفاسدة التي أشار إليها الرئيس في خطابه، ليتحالف معه لكشفها وفضحها على الرغم من الخلاف الاستراتيجيّ القائم بينهما. هذا يدلّ على أنّ المشهد مأخوذ إلى رهانات تفعل فعلها على أرض الواقع، وهي مرتبطة بالمعركة على رئاسة الجمهوريّة. يظنّ الدكتور سمير جعجع أنّه بذلك الفعل، بضع جبران باسيل بوجه رياض سلامة، وهو من المساهمين في الوشاية عليه في الإدارة الأميركيّة، فيعمد على ضرب الاثنين ببعضهما والانقضاض عليهما، بظنّ أن سليمان فرنجيّة هو الخاسر الأكبر. هذا يعني بأن الرجل يجاهد لاستخراج اللحظة لفرض مساحة فتنويّة في الدائرة المسيحيّة-المسيحيّة، وبتحريض أميركيّ… لكنها لن تكون ناجعة.
نعود إلى خطاب الرئيس لنشير بأنّ النقلة النوعيّة والجذريّة في الشكل والمضمون من الدفاع إلى الهجوم أتت في لحظة بدأت المنطقة فيها تتحفّز وتتحضّر لمصيرها الجديد بفعل اتجاهها نحو التطبيع وانشدادها إليه. كان الرئيس هنا متوجّعًا على صفقة تمّ فيها بيع القدس والجولان، وكان لبنان أوّل المدافعين “عن هذا الحقّ القوميّ”، وقد أشار إلى ذلك بلغة عقيديّة وغير سياسيّة أو تسوويّة.
لقد أدرك فخامته، بأنّ تداعيات التطبيع متداخلة ومنسابة إلى الداخل اللبنانيّ. وبالتالي، فإنّ الأزمة الماليّة والاجتماعيّة والاقتصادية التي يعيشها لبنان وغير المسبوقة من قبل، كما تعيشها سوريا وجوديّة بالكامل. في الأساس لسنا أمام أزمة بل أمام حرب ضروس مستعرة تخوضها أميركا وتقودها بأذرعها الداخليّة، وقد تسربلت لبوسًا وجوديًّا لأنّ شلّ البلد بواسطة الدولار-الشبح، من شانه حتمًا وبالضرورة أن يقود إلى نهاية الكيان النهائيّ، أو نهاية نهائيّة الكيان.
حاول الرئيس هنا، مخاطبة الجميع بمسؤوليّة ومحبّة منذ 17 تشرين الأوّل ودعاهم إلى زيارته للتداول معه في المشاكل التي تعترض مسيرة الحكم في لبنان، فلم يلبّوا دعوته الكريمة. ومنذ ذلك الحين انكشفت الحجب. انطلق حاكم مصرف لبنان وبرعاية أميركيّة مطلقة للعب بسعر صرف الدولار من بعدما تمّت سرقة الودائع من المصارف إلى الخارج. حاول الرئيس استيعاب الوضع من جديد فدعا إلى اجتماعات متتالية مع حاكم مصرف لبنان والمصارف ومن ثم ألّف لجنة حكوميّة ومصرفيّة لتدارك الوضع والأزمة ودعا من ثمّ إلى طاولة حوار، ليتبيّن، وفي الواقع، بأنّه، هو المستهدف مع حزب الله داخليًّا، من تلك المنظومة. لقد بات لزامًا القول هنا، بأنّ الاختلافات الني نشأت بين التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله، كانت بسبب إلحاح التيار العلنيّ والضمنيّ على الحزب باستدراك الوضع، من جهة الرئيس نبيه برّي، وقد كانت له اليد الطولى في جعل شركة Alvarez & marshal تنسحب من الطريق إلى جانب سعد الحريري ورياض سلامة ووليد جنبلاط. وتفيد معلومات، وفي هذا السياق، بأنّ الأميركيين وبواسطة مايك بومبيو وديفيد شينكر ودوروثي شيا، ظهروا الدعاة الأساسيين والرعاة الفعليين خفية للالتفاف على العهد بالدرجة الأولى وبصورة شخصيّة على العماد ميشال عون، وعلى حزب الله.
أهميّة الخطاب البارحة أنّ فخامة الرئيس لم يستعمل أسلوب التوريّة. بل على العكس تكلم على منظومة الفساد الممسِكة والمتماسِكة ولكنها الممسَكة من الخارج. فحوى الكلام على المعركة غير المتكافئة يشير على الإمساك والتماسك بالممسَك به والممسِك، وبرأي واضح الممسِكين والممسَكين واحد. إنّها المواجهة القصوى، والمعركة بهذا المعنى هي بين عهد أخذ على عاتقه الهجوم بعدما حاول احتواء الأزمة بمنطقيّ الدفاع والإقناع الهادئ ومنظومة مؤلفة داخليًّا من الرئيسين نبيه برّي وسعد الحريري ووليد جنبلاط وفؤاد السنيورة ورياض سلامة، يدعمها روحيًّا وبكلّ قوّته البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، وهي مدعومة من الإدارة العميقة في أميركا والغرب بصورة عامّة والخليج وإسرائيل بدورها غير بعيدة عن الدعم من خلف الإدارة الأميركيّة… هذه المعركة هي الأخيرة في لبنان إمّا يتحرّر لبنان ويقف على قدميه وإمّا نكون، وكما أوردنا، أمام نهاية نهائيّة الكيان.
إلى أين من هنا؟
لقد بات واضحًا بأنّ الورقة الإصلاحية الماكرونيّة قد انتهت. والأبلغ من ذلك، بأنّ مسألة تأليف الحكومة قد طويت. يسوغ لنا كملاحظة بنّاءة القول بأنّ طوي صفحة التأليف غير مرتكز على انتظار ردود فعل الخارج، بل على ما فهمناه بأنّ هذا الخارج عينًا بدا بقوّة معرقلاً. لقد بات واضحًا في عقل العهد وعندنا جميعًا، بأنّ الأميركيين، ومن خلال زيارة وزير الخارجية الأميركيّة مايك بومبيو إلى فرنسا أبطلوا السعي الفرنسيّ لتأليف حكومة متوازنة برئاسة سعد الحريري، وفي الأصل لم ينطق الحريري يومًا بالرؤية الفرنسيّة إلاّ لمامًا بل بالرؤية الأميركيّة. كما بات واضحًا أيضًا، بأنّ الأميركيين كانت لهم اليد الطولى بإيقاف التحقيق الجنائيّ والانسحاب من لبنان كما طلبوا بواسطة الفرنسيين سحب شركة توتال وجعلوها تزعم بأنّ النتائج الصادرة عن البلوك 4 لم تثبت وجود الغاز، فيما معظم الدراسات أثبتت وجوده. أميركا الموعزة بوقف التحقيق الجنائيّ بقوّة فعّالة، لا تزال تحتاج بقراءتها إلى هذه المنظومة.
المعركة التي يخوضها الرئيس ويخوضها معه المخلصون ستزداد شراسة. ويكشف بعضهم بأنّ معاني التكافؤ فيها بإمكانه أن يظهر شديد الصلابة بالتفاف الجميع حول فخامة الرئيس لا سيّما القواعد الشعبيّة. وتقول معطيات بأنّ حزب الله سيكون جزءًا استراتيجيًّا من تلك المعركة لأنه يأبى الاختراق في بيئته. والخطوة التي تجعل التكافؤ في المعركة صلبًا وأكثر اقتحامًا، اتجاه البلد نحو خيار الشرق مرورًا بالمشرق، لقد أكّد الرئيس في كلمته هذا الاتجاه بإشارته إلى حلّ أزمة النازحين في موقعها الصحيح.
في عيد الاستقلال الذي حرمنا من بهجته، والمتآكل بفساد الفاسدين، ضرب الرئيس بيده على الطاولة. لقد انتظرناها بشوق وسمعناها بشغف وفرح. الأهم بأنّ معركة التحرر من الفساد بدأت ولن نتوقف حتى تبيان الحقّ وتأمين النصر الكامل.
المصدر: tayyar.org