فكرة تمثال الحرية على مبنى الكابيتول، الذي تجسده امرأة، تنحدر من تقاليد قديمة جعلت المرأة محور الديانات
الصراع العالمي والحروب المستمرة والمستعرة منذ نشوء البشرية، دائما ما تغطى برداء اقتصادي بأبعاد توسعية، وهذه النظرية وان كانت صحيحة الى حد ما وبخاصة ان الشركات العالمية الكبرى العابرة للقارات، باتت تسيطر على معظم اقتصادات العالم، من شركات الادوية المرتبطة بمنظمة الصحة العالمية مرورًا بشركات النفط واللوبيات المرتبطة بها وصولاً الى شركات الأسلحة المرتبطة بالحكومات في الدول الكبرى والتي تحتاج الى سوق دائمة لتصريف انتاجها الحربي، فيما تبقى خلفية الحروب عند حكام العالم، عقائدية دينية، يحارب فيها البشر بعضهم البعض، فيَقتلون ويُقتلون نيابة عن آلهتهم؛ فالشعب الذي ينتصر على الارض، يكون إلهه انتصر في السماء.
إذاً مآسي البشرية سببها الرئيسي تصارع الأفكار والحضارات والأديان، بدأت عند نشوء المدينة الدولة، فتصارعت هذه المدن في ما بينها، ثم توسعت عند نشوء الأمم، ولم تنفع محاولات توحيد الالهة واختصارها باله واحد مهيمن، وتعود أول محاولة في هذا السياق، للكنعانيين الفينيقيين، الذين عرفوا بعبادتهم الاله الاوحد “إيل” وإن تحقق ذلك نسبيا وليس بالمطلق، إذ بقي بعل وآلهة الطبيعة على اختلافها كما آلهة الحروب والحب والخصوبة وغيرها من صفات بشرية، سائدة، وهذا ما حاولت ايضا القيام به الحضارة الاغريقية بتقديمها الاله “زوس” على ما عداه من ىلهة وضعت في مرتبة أدنى، وكذلك الاله “أودن” عند الفايكينغ، والاله “رع” عند المصريين الفراعنة، و”عشتار” عند الآشوريين والفرس، وهكذا فعل ايضا الهندوس والرومان، بآلهتهم، ليلحق بهم بعد ألف سنة، اليهود بايمانهم بالاله الواحد “يهوه”.
فمن الفلسفة الاغريقية التي نتج عنها امبراطورية فكرية ما ورائية، سيطرت على البحر الابيض المتوسط، عرفت بالهيلينية هلينيك- Hellenic، وهي الحضارة اليونانية، ثم تلتها الهيلنستية- Hellenistic، الذي أنشأها أرسطو، وآمن به تلميذه ومؤسس الامبراطورية اليونانية الإسكندر الأكبر او الاسكندر المقدوني، الذي الى جانب عظمته العسكرية، كان رؤيويا فنشر ثقافة الانفتاح بين مختلف الشعوب التي احتلها، فاختفت تحت قيادته للعالم القديم الحدود والحواجز بين الدول، واشرك الشعوب في الحضارة والثقافة الاغريقية، فأخذ من مختلف الحضارات وأعطاها فامتزجت لترفد الحضارة اليونانية عظمة والامبراطورية القوة، فشكلت دفعاً كبيرا لتقدم البشرية، واستمرت طويلا بعد انهيار الامبراطورية اليونانية مع الامبراطورية الرومانية.
أما وريثة هذه الحضارة في يومنا هذا، فهي الولايات المتحدة الاميركية، أو هكذا ارادها مؤسسوها على الاقل، وعلى رأسهم جورج واشنطن، الذي أطلق إسم العاصمة واشنطن تيمنا به، ويعرفه الاميركيون باسم: “أب البلاد”، بسبب دوره المحوري في تأسيس الجمهورية الاميركية، أما المبادئ التي تأسست عليها الولايات المتحدة فكانت خلفيتها دينية، بسبب تأثر العديد من مؤسسي الجمهورية الأمريكية، ومنهم جيفرسون، جورج واشنطن ماديسون وآدمز، بفكر الفيلسوف جون لوك عن التسامح، وكذلك بأفكار الفيلسوف الفرنسي، مونتيسكيو الذي رأى أن الحاكم ما هو الا خادم يقوم بتنفيذ ما يريده الشعب والذي أعتبره مونتيسكيو هو فوق كل شيء، وأهم شيء، وهذا بالتحديد ما أراده المؤسسين حيث خلعوا سمة القدسية على الأمة وليس الدين. وأعتبروا أنفسهم خداما لتحقيق رغبات وطموحات الأمة.
إذا كان كان للدين موقعا اساسيا في تأسيس الولايات المتحدة، فهذا ناتج عن خوف لدى المهاجرين الجدد الى أميركا من أن تتكرر مآسيهم التي عانوا منها في اوروبا، فبعد الصراعات الدامية التي شهدتها أوروبا ومن خلال حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر، ونتيجة للإضطهاد والملاحقة التي لحقت بأتباعه ” البروتستانت،” قام هؤلاء بهجراتهم إلى العالم الجديد، وهدفهم الأساسي كان إقامة مجتمعات على أسس دينية، تكفل لهم تطبيق شعائرهم ، وممارسة معتقداتهم الدينية، وهؤلاء المهاجرون الأوائل كانوا من البيوريتانيين ” التطهيريين” الذين حملوا معهم التقاليد والقناعات التوراتية، وتفسيرات العهد القديم التي انتشرت في إنكلترا بشكل خاص منذ القرن السادس عشر.
غير أن فكرة تمثال الحرية على مبنى الكابيتول، الذي تجسده امرأة، تنحدر من تقاليد قديمة جعلت المرأة محور الديانات، تسمى فيها المرأة عند الغربيين الملكة الأم، والتي انبثقت من المذاهب الطاوية في الحضارة الصينية، القريبة من الكونفوشية ، فللنساء الصينيات أهمية خاصة في بعض المذاهب الطاوية منذ القرن الرابع،و التي أدركت قدرات النساء على التواصل مع الآلهة، التي كثيرًا ما تمد النساء بآيات ونصوص وحيانية، وهذا ما تمثله المرأة في الديانة المسيحية، التي وضعت السيدة مريم العذراء في مقام متقدم على الرجل، وكذلك فعلت الحضارات القديمة في بلاد الرافدين بتقديس المرأة، فتجلت الأم المصرية الكبرى في شكلها الأبهى كسيدة للطبيعة تحت اسم “إيزيس”, التي تصفها النصوص المثيولوجية والطقسية بالإلهة المتعددة اما عند الباببليين فجاءت الالهة عشتار آلهة الحب والحرب والجمال والتضحية في الحروب على ما عداها من آلهة، وهذا ما قام به المصريون ايضا والتي كان للمرأة مكانة رفيعة في مصر القديمة لم يبلغها الكثير من الرجال، الفينيقيون ايضا في بلاد الرافدين، وكانت تسمى عشتروت لدى الفينيقيين وهي آلهة الخصب والجمال.
ففي بداية تجمع الإنسان القديم في جماعات, كان تنظيم المجتمع يعرف بما أسماه الباحثون بـ”المجتمع الأمومي”، في المجتمع الأمومي أسلم الرجل قيادته للمرأة، لا لتفوقها الجسدي بل لتقدير عميق لخصائصها الإنسانية وقواها الروحية وقدراتها الخالقة، وإيقاع جسدها المتوافق مع إيقاع الطبيعة، في “بابل” و”فينيقيا” لم يستطع الرجل, وحتى فترات متأخرة جداً من تاريخ المجتمع الذكري هناك, أن يضع تحت وصايته حياة المرأة الجنسية قبل الزواج، فكانت بكارة المرأة ملكاً للإلهة “عشتار” لا لزوجها، وكانت تهب عذريتها في المعبد حيث تمارس الجنس المقدس تحت رعاية الإلهة قبل أن تلتزم بالحياة الزوجية؛ فكل الحضارات من “اليابان” شرقاً وحتى مجتمعات “الهنود الحمر” غرباً عثر فيها الباحثون على أساسات المجتمعات الأمومية.
في المحصلة، تعيد الولايات المتحدة، بنظامها السياسي، دور المرأة المحوري في المجتمع ونشوء الأمم واستمرارها، تحت تأثيرات دينية بروتستانتية، نشأت عليها الأمة الاميركية، والتي تحمي بالوقت نفسه الحريات الدينية لجميع مكونات المجتمع الاميركي، ولا تميز بينهم، وبالرغنم ان هناك فصل واضح للدين عن الدولة، بالظاهر، ولكن على عكس ما حدث في أوروبا ، فإن الدين في الولايات المتحدة ، كان الباعث والمحرك للإستقلال، فهو يشغل مكانة كبيرة ومركزية في المجتمع في الثقافة الدينية والسياسية الأميركية، و قد لعب الدين على مدار التاريخ الأميركي “دورا جوهريا في السياسات الخارجية للبلاد، وتجلت بأوجها لدى وصول “المحافظون الجدد” الى البيت الابيض في عهد جورج بوش الابن، كاشفا الوجه الحقيقي للمشروع الاميركي بالسيطرة على العالم، وكذلك يطبع التوجه الديني هذا بالداخل الاميركي الحياة والممارسات السياسية بطابعه؛
يبقى الدين في الولايات المتحدة الى يومنا هذا مرتبطا ارتباطا وثيقا بالسياسة، واذا كان وجه الدولة مدنيا فإن عمق المجتمع الأميركي يلحظ أمرا مغايرا بأن الامة الاميركية متدينة أيضا إلى جانب العلمنة.