إما الرضوخ للوبي البنك المركزي والمصارف والنواب، وإما حماية مصالح اللبنانيين
خطتهم بيع ممتلكات الدولة.. وذلك أيضاً لا يوفر السيولة
يتابع الخبير الإقتصادي شربل قرداحي حديثه لمجلة “فوربس”..
للأسف، الصدمة الاقتصادية والمالية والنقدية والضريبية قوية، لدرجة أنه حتى لو نجح هذا الفريق (مصرف لبنان – المصارف – نواب نافذون) في إسقاط التفاوض مع صندوق النقد وإسقاط خطة الحكومة اللبنانية، فإن مشروعه البديل لن يفيده هو نفسه، وسننتهي بأن نطلب مرة جديدة، بعد فترة، من المجتمع الدولي ومن صندوق النقد مساعدتنا.. وعندها ولو بعد 6 أشهر ستكون الخسائر توسعت والتكلفة باتت أكبر.. اليوم ربما يكون ربع الودائع غير قابل للتحصيل، وسنكون بعد فترة عند خطر خسارة نصف الودائع. للوقت ثمن باهظ، وهو يمر، وللأسف نحن أضعنا الكثير من الفرص. فلو حُلت مشكلة الكهرباء قبل 10 سنوات أو 7 سنوات أو حتى 3 سنوات، وتمكنت كهرباء لبنان من تحقيق فائض مقبول، لكنا تجنبنا هذه الأزمة… اليوم مع خطة الإنقاذ المالي التي وضعتها الحكومة، والتي كانت مستندًا صالحًا للتفاوض مع صندوق النقد، أخشى أنها لن تعود كافية بعد 6 أشهر، وأن يصبح مطلوبًا من اللبنانيين تضحيات أكبر بكثير، وأن يأسفوا لأنهم طيروا خطة التفاوض مع صندوق النقد، وذهبوا إلى حالة بديلة ستكون أسوأ.
– عندما وضعت الخطة كان سعر الدولار عند حدود 3 آلاف ليرة، والدولار اليوم قرب 9 آلاف ليرة.. فهل تحتاج الخطة إلى تعديل؟
· في الوقت الحاضر لا تحتاج الخطة إلى تعديل، لكن الخسائر تتفاقم… الخسائر قدرت عند احتسابها لدى إعداد الخطة بنحو 241 تريليون ليرة.. لكن من ينظر إلى الخسائر؟ إن من يرغب في رفع سعر صرف الليرة أكثر فأكثر يجد أن المسار الحالي مناسب له.. أما إذا كان ضنينًا على مصالح المودعين وحريصًا على الطبقات المتوسطة والفقيرة وحتى الغنية، سيجد أن الأمور تسير على نحو سيئ، وهذا ليس هو المطلوب.
أعود وأكرر.. إذا نجح مخططهم لتطيير التفاوض مع صندوق النقد، لن ينقذوا أنفسهم، والتكلفة على اللبنانيين ستصبح أكبر بكثير، وسنندم جميعًا على إضاعة هذه الفرصة الأخيرة عبر التفاوض مع صندوق النقد.
– في موضوع المفاوضات مع صندوق النقد.. سمعنا رئيسة الصندوق قبل أيام تقول إنها لا ترى سببًا لتوقع انفراج قريب.. هل هناك مفاوضات فعلية؟ هل هناك حائط مسدود؟ ماذا يحصل؟
ذهب فريق الحكومة اللبنانية للتفاوض مع صندوق النقد متسلحًا بخطته وبدعم من شركائه الدوليين.. والصندوق اعتبر أن الخطة الحكومية قاعدة صالحة للتفاوض.. لكن في المقابل، فإن فريق السلطة النقدية الذي لا يؤيد الخطة ولا يريد أن تحصل المفاوضات، كان يرمي في كل مرة أرقامًا مختلفة. وعلى الرغم من حسم الموضوع على أيدي المحاسبين والعاملين في الشأن المالي، ما زلنا نسمع كلامًا عن أن الخسائر مجرد أزمة عابرة ويمكن تجاوزها بسهولة.. وهذا ليس كلامًا حقيقيًا يستند إلى أي وقائع.. والوقت يمر.. لا أعرف ما الذي استندت إليه رئيسة الصندوق لتقول هذا الكلام، لكنها بالتأكيد مطلعة على مسار المفاوضات، وتدرك حقيقة الوضع وأداء الفريق الرافض للمفاوضات، ولعل هذا ما دفعها للتعبير عن حزنها علنًا.
– نحن أيضًا أمام واقع استقالات من الفريق الحكومي المفاوض، فحتى الآن فقد لبنان شخصين من هذا الفريق.. ألا تضعف هذه الاستقالات موقف الحكومة اللبنانية؟
الاستقالات تضعف موقف الحكومة بالتأكيد، لأن المطلوب منها حسم أمرها ومتابعة التفاوض.. في النهاية لا يمكننا التحدث باسم الحكومة، التي يبقى لديها خيار إما الرضوخ للوبي البنك المركزي وعدد من المصارف والنواب، وإما حماية مصالح اللبنانيين ومصلحة القطاع المصرفي الواسع والاقتصاد والمصلحة العامة، لأنه في بلد كلبنان يستحيل أن نرضي كل مراكز القوى والنفوذ.. وفي النهاية كل المجموعات المتضاربة حاليًا ستخسر.
– قبل سنوات رأينا تجربتي اليونان وقبرص، والأخيرة اعتمدت الهيركات أو القص من الودائع بنسبة قاربت 50%، ورأينا تجربة فنزويلا التي قد نذهب إليها في ظل قانون قيصر وكل الأزمات السياسية.. ما الذي سيأخذنا إلى إنقاذ على خطى اليونان وقبرص؟
خطة الحكومة اللبنانية لا تتضمن اقتطاعًا من الودائع.. الهيركات تحدث عند من يعارض الخطة.. وكرر المدير العام السابق لوزارة المال أن عدد الحسابات التي قد يُقتَطع منها لن تتجاوز 936 حسابًا من أصل 2.5 مليون حساب لدى المصارف.. ومن سيكون معنيًا بالاقتطاعات هو عدد محدود جدًا، وهذا العدد لن يخسر من قيمة وديعته، بل سيعيد فقط جزءًا من الفوائد الفاحشة التي حصل عليها، والتي تراكمت عبر الزمن، وهي وإن كانت قانونية فإنها غير مشروعة بسبب الفوائد المرتفعة جدًا فوق مستوى 10 و12 وحتى 20% وهذا لا يجوز.. والأمر الآخر أن هذه الحقوق التي ستُقتَطع لن تضيع لأنهم سيحصلون على أسهم في المؤسسات المصرفية التي أودعوا أو استثمروا أموالهم فيها، وهذا بالطبع طبقًا لمبادئ الاقتصاد الليبيرالي ومبادئ الممارسة المالية والقانونية في كل دول العالم التي تعتمد النظام الاقتصادي الحر… ويمكنني القول إن الخطة الحكومية اتسمت بـ”النعومة” لتحمي اللبنانيين من تأثيرات التصحيح القهري الحاصل حاليًا، خصوصًا عبر سعر الصرف.
ومن الواضح أننا لن نتمكن من تخطي هذه الأزمة من دون مساعدة أصدقاء لبنان، الذين يطلبون منا بوضوح أن نتفق مع صندوق النقد الدولي.. إذًا فصندوق النقد هو ممر إلزامي حتى يتحمسوا ويثقوا بنا، وحتى لا يقيم الدائنون دعاوى ضد لبنان بسبب تخلف الدولة عن دفع سندات اليوروبوند بالدولار الأميركي.. كما علينا أن نتكل على أنفسنا، وأن نبدأ بالإصلاحات التي تأخرنا فيها كثيرًا.. لم يعد بإمكاننا أن نحافظ على امتيازات تكونت منذ 30 سنة خلافًا للمنطق.. لم يعد هذا ممكنًا.. وحتى لو حاولنا المحافظة على الامتيازات، سيعود أصحاب الامتيازات ويخسرونها مجددًا في المستقبل، بعد أن نكون خسرنا وجودنا وحياتنا ومستوى رفاهيتنا…
– رأينا دولًا في المنطقة طلبت مساعدات طارئة من صندوق النقد لمواجهة أزمة كوفيد-19.. لماذا لم يطلب لبنان هذه المساعدات؟
· لبنان ضمن خطة الإنقاذ المالي ذاهب إلى مشروع طموح جدًا، والمساعدة التي طلبها من صندوق النقد توازي 1100% من الحصة المتاحة له من الصندوق، لذلك كان التركيز على هذا الأمر لأنه يتخطى بكثير المساعدة التي يمكن أن يحصل عليها في ملف كوفيد-19، علما بأننا في محادثات متقدمة مع البنك الدولي لمساعدات من نوع آخر، لتمويل الحاجات الاجتماعية الملحة بفعل الأزمة المالية وأزمة جائحة الفيروس. وأذكر أن الحكومة اللبنانية أقرت مساعدات بقيمة 1300 مليار ليرة، لمساعدة الشركات الصغيرة والمواطنين تحت حدٍّ معين من المستوى المعيشي، ليتمكنوا من تجاوز هذه المرحلة.. إذًا فالحكومة اللبنانية اتخذت العديد من الإجراءات بمعزل عن التفاوض مع صندوق النقد.
– مع استمرار طباعة العملة اللبنانية، وما سمعناه عن أن الرقم قد يكون 15 تريليون ليرة.. ما هو الحجم الفعلي للكتلة النقدية بالليرة اللبنانية ؟
15 تريليونًا هو الرقم الذي يعتبر مصرف لبنان أنه قادر على الوصول إليه بالطباعة، وفقا لقانون النقد والتسليف الذي يشير إلى أن حجم الكتلة النقدية بالليرة يمكن أن يصل إلى نصف قيمة احتياطي الذهب والعملات الصعبة.. وهذا منطق غير سليم، لأن ميزانية مصرف لبنان تتضمن -إضافة إلى الذهب والعملات الصعبة- خسائر كبيرة متراكمة من ناحية المطلوبات، صُنِفت مع الزمن ضمن بند الموجودات، وهذا أمر غير سليم.. منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2019 ونحن نرى توسعًا في ميزانية مصرف لبنان، وهو ناتج أولًا عن دفع رواتب موظفي القطاع العام البالغة ما يعادل 1.1 مليار دولار شهريًا.
– هل الكتلة النقدية فعليا فوق 5 تريليونات ليرة؟
· نعم توسعت فوق 5 تريليونات في ظل تدهور الإيرادات الضريبية، ولجوء الحكومة للاستدانة من البنك المركزي لتسديد التزاماتها.. والناحية الثانية سياسة “تذويب” الالتزامات لدى البنك المركزي ولدى المصارف التجارية بالدولار، عبر تسديدها بالليرة اللبنانية من خلال استخدام “قناة” سعر الصرف، التي كلما ارتفعت سدت الثغرة بين موجودات ومطلوبات مصرف لبنان بالدولار.
– هل لديك تقديرات لعجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات لعام 2020؟
· في ما يتعلق بعجز ميزان المدفوعات، طبعًا كما نعرف تراجعت إيرادات لبنان كثيرًا في 2020.. كانت التدفقات السنوية من الخارج تتراوح بين 7 و8 مليارات دولار، وبحسب تقديراتي لن تتعدى تدفقات العملة الصعبة على لبنان 2.5 أو 2.8 مليار دولار كحد أقصى هذا العام، سواء أكانت ناتجة عن الصادرات أم تحويلات اللبنانيين من الخارج.
في ما يتعلق بالميزان التجاري، لا شك أن العجز تراجع كثيرًا، نتيجة تراجع الاستهلاك بفعل الأزمة الاقتصادية وأزمة كوفيد-19.. وفي تقديراتي سيتراوح عجز الميزان التجاري بين 9 و10 مليارات دولار هذه السنة… خصوصا أن تراجع أسعار النفط سيلعب دورًا في خفض فاتورة الاستيراد.
– ما الذي يجب أن تفعله الحكومة اليوم؟
· أنا متأكد من أن لدينا القدرة على الخروج من هذه الأزمة، لكن طريق الخروج يحتاج إلى جرأة وشجاعة، وأن ندرك أن المحافظة على الامتيازات لفئات معينة لم يعد ممكنًا.. وكما قلت، المجموعات التي تكتلت ضد الخطة ستدرك لاحقًا إن نجحت في مسعاها أنها كانت تسبب الضرر لنفسها.. والمطلوب اليوم هو الشروع في تنفيذ الخطة التي سترينا الضوء على نحو سريع جدًا. فبإمكان لبنان أن يعود لسوق الاستدانة العالمية خلال سنتين على أبعد تقدير إذا سار بهذه الخطة، وأن يتفادى الدخول في مشكلات مع الدائنين….
– ماذا عن خطة جمعية المصارف التي تقترح بيع ممتلكات الدولة؟
المشكلة أن بيع ممتلكات الدولة لا يوفر السيولة.. البعض يريد وضع اليد على أملاك الدولة اللبنانية لمصالح خاصة ولتغطية خسائر متراكمة، لكن هذا لن يوفر أي سيولة، والمطلوب اليوم هو التعامل مع الأصول التي تملكها الدولة بطريقة مختلفة، بهدف تنميتها وتوسيعها، وتحويلها إلى قطاعات تنتج عائدات يمكن استخدامها في الصندوق الذي سيعوض المودعين، أو تكون بمثابة إيرادات ضريبية.. وهذه الأصول هي في النتيجة مؤسسات يجب أن تدار بطريقة ديناميكية لتخلق فرص عمل.. لكن طبعًا ليس بالنحو المطروح في خطة جمعية المصارف.. وليس بوضع اليد على أصول الدولة اللبنانية وإعطائها للبنك المركزي، وهو من أكثر المؤسسات خسارة…
في رأيي، إن لم تنجح المفاوضات مع صندوق النقد، لن تكون الحكومة هي المسؤولة.. سيكون المسؤول كل من عرقل وأوقف التفاوض مع صندوق النقد، لأنه يرى أن البديل الذي يطرحه أفضل.. وسنكتشف سريعًا أن لا بديل.. وأن البدائل التي يعملون عليها لخفض سعر العملة لن تأتي بالعملات الصعبة، بل ستأتي بالأسى للبنانيين والاقتصاد الوطني.