هل التوتر مقصود..!!؟؟
– الصحفي أولريك هوغوب: الناس تدرك بأوقات الأزمات حاجتهم لصحافة محترمة.الأمر صار يفوق قدرة المتلقين على التحمل، لا موضوعات الاّ الكورونا.
– رغم التدفق الكبير لأخبار الوباء غموض وتخبّط
منذ بدء التفشي الوبائي لفيروس كورونا المستجد قبل شهور قليلة، بدا من المألوف لكثيرين منّا، أن تنهمر عليهم إشعارات متواصلة بأخر الأخبار عبر الهاتف، وأن يجدوا نقاشات وتغطيات تليفزيونية خاصة وقد حلت فجأة محل برامجهم الرياضية المفضلة، وأن تتكدس تطبيقات مثل “واتس آب” و”ماسنجر” لديهم، بمقالات عن فيروس كورونا، يرى أصدقاؤهم أو أقاربهم، أنه من المهم أن تُنشر على نطاق واسع.
وإذا اخترنا التعبير عن معدل اطلاعنا على الأخبار، أو لنقل استهلاكنا اليومي منها، بالسعرات الحرارية مثلا، فسنجد أن كثيرين منّا اكتسبوا الكثير من “الوزن الزائد” على مدى الأسابيع القليلة الماضية. فمع تحول كورونا إلى وباء عالمي في مارس/آذار الماضي، ازداد معدل تصفح المواقع الإلكترونية الإخبارية بشدة في مختلف أنحاء العالم، وسجلت الشبكات التليفزيونية إقبالا قياسيا عليها كذلك، بما شمل زيادة في عدد المشاهدين الأصغر سنا، ممن يتجنبون عادة نشرات الأخبار المسائية التقليدية. لكن استمرار الأزمة، دفع البعض إلى تفضيل “نظام غذائي إخباري آخر”.
من بين هؤلاء بارال غوش، وهي سيدة أعمال تبلغ من العمر 32 عاما، تقول: “من السهل أن ينسى المرء نفسه وهو يتصفح الإنترنت، متنقلا من مقال لآخر. لقد استهلكني ذلك بالكامل في مرحلة ما، وكان عليّ أن أتوقف“.
وقد وجدت غوش نفسها، غير قادرة عن رفع أنظارها عن المواقع الإخبارية والمحطات التليفزيونية الدولية، لوقت أطول من المعتاد بكثير، وذلك في وقت كانت تحاول فيه متابعة الاستراتيجيات المُطبقة لمواجهة الوباء في دولتين مختلفتين، هما الهند مسقط رأسها حيث تخضع أسرتها لنظام إغلاق صارم ومشدد، والسويد التي تقيم هي فيها، والتي تركت سلطاتها لمواطنيها حرية أكبر في الحركة.
وتعلق غوش على ذلك بالقول: “كنت أشعر بالتوتر، نظرا لمقارنتي المتواصلة، بين ما يحدث هنا وما يجري هناك في بلدي الأم. كما كان القلق يساورني بشكل مستمر بشأن صحة والديْ المُسنيْن، وبفعل التفكير في متى سيتسنى لي السفر لزيارتهما”.
يتفق مع هذه الرؤية، الأسترالي كريس كلانسي (33 عاما). فقبل تفشي الوباء وأثناء فترة البطالة التي يعاني منها هذا الرجل، كان يدمن متابعة الأخبار، عبر مشاهدة الكثير من البرامج التليفزيونية التي تتناول الشؤون الجارية، ومتابعة حسابات الصحفيين على موقع تويتر.
والآن غيّر كلانسي تلك العادات، ويعقب على ذلك بالقول: “كان عليّ منذ تفشي `كوفيد – 19` أن أقلص معدل متابعتي للأخبار، ليصبح في صورة مشاهدة برنامج واحد أسبوعيا، والاكتفاء بإلقاء نظرة خاطفة على بضعة مؤتمرات صحفية، رغم أن هذه المؤتمرات باتت أقل جاذبية للمشاهدة، لأنها تبدو تكرارا للأخبار نفسها مرات تلو أخرى“.
وتفيد البيانات المتوافرة حاليا، بأن غوش وكلانسي لا يمثلان حالة فريدة من نوعها. فرغم أن عدد مشاهدي البرامج التليفزيونية الإخبارية لا يزال أكبر من المعتاد في الكثير من دول العالم، فإن الأعداد في بعض بقاع الأرض بدأت في التراجع. في المملكة المتحدة مثلا، وصل عدد مشاهدي البرامج الإخبارية إلى أدنى مستوى له منذ بدء فرض نظام الإغلاق الكامل في البلاد.
ويتزامن ذلك، مع عودة البرامج ذات الطابع الترفيهي تدريجيا إلى قمة المضامين التليفزيونية الأكثر مشاهدة في أستراليا. وقد أفاد معهد “نيمان جورناليزم لاب” المعني بالصحافة والتابع لجامعة هارفارد، مؤخرا بأن “معدلات تصفح الأخبار على المواقع الإلكترونية الإخبارية في الولايات المتحدة ومختلف أنحاء العالم، باتت الآن مماثلة بشكل كبير لمستوياتها قبل تفشي وباء كورونا”.
وكشفت دراسة أخرى نشرها مركز “بيو” للأبحاث في أواخر أبريل/نيسان الماضي عن أن سبعة من كل 10 أمريكيين، يرون الآن أنهم بحاجة لنيل “استراحة” من متابعة الأخبار المتعلقة بالوباء، وأن أربعة من كل عشرة منهم، يؤكدون أن متابعتهم للأخبار، جعلتهم أسوأ من حيث الصحة النفسية مما كانوا عليه من قبل.
وهنا يقول الصحفي الدنماركي أولريك هوغوب، الذي عمل من قبل رئيسا للتحرير، إن الناس يدركون “في أوقات الأزمات حاجتهم إلى وجود صحافة محترمة. لكن الأمر صار الآن يفوق قدرة المتلقين على التحمل، لأنه لم تعد هناك – في الأساس – سوى الموضوعات المتعلقة بوباء كورونا”.
ويشير هوغوب، الذي أسس مؤسسة “ذا كونستراكتيف إنستيتوت” المهتمة بتشجيع الصحافة المتوازنة التي تنشد إيجاد حلول للمشكلات، إلى أن أهمية موضوع الوباء كقصة خبرية، لا تنفي “حقيقة نفسية معروفة جيدا، تفيد بأن إغراق المرء بأنباء متعلقة بموضوع ما، يقوده إلى أن يعود أدراجه، للاعتناء بقططه، ومشاهدة المسلسلات التليفزيونية، التي اعتاد متابعتها عبر خدمة نتفليكس مثلا”.
كيف تؤثر علينا الأخبار السيئة؟
ويرى خبراء العلاج النفسي أن هناك نزعتيْن سائدتيْن حاليا، في ما يتعلق بالتأثيرات السلبية الناجمة عن متابعة الأخبار الخاصة بوباء كورونا. الأولى تتمثل في الإحساس العام بما يمكن تسميته “إنهاك كورونا”، وهو عبارة عن شعور الكثيرين منّا بالسأم والإرهاق، من الوضع الذي نجد أنفسنا فيه الآن. فرغم التدفق الكبير للأخبار والمعلومات المتعلقة بالوباء، فلا يزال هناك قدر من الغموض، يكتنف المدة التي يُحتمل أن يتواصل فيها تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي، وكذلك الشكل الذي ستأخذه حياتنا في المستقبل.
ويقول المعالج النفسي جون-بول ديفيز، الذي يتخذ من لندن مقرا لعمله، إن ذلك يُخلّف تأثيرا سلبيا، حتى على الأشخاص الذين يرون “أنهم على ما يرام بشكل عام”. ويضيف ديفيز – الذي يعمل كذلك متحدثا باسم مجلس العلاج النفسي في المملكة المتحدة – أنه يود أن يقول للناس: “من المهم أن تشعروا بالشفقة على أنفسكم، وأن تفهموا أسباب معاناتكم، وأن تعلموا أن لا ضير من الشعور بالإنهاك مما يحدث، وبأنكم اكتفيتم منه، إلى حد يجعلكم محبطين إزاءه”.
أما النزعة الثانية المرتبطة بالتأثيرات السلبية للتغطية المكثفة لتطورات الوباء، فهي أن دورة الأخبار المستمرة بلا هوادة، ربما تفاقم الشعور بالقلق أو الاكتئاب، لدى من يعانون من مشكلات – من الأصل – على صعيد الصحة العقلية والنفسية.
ويوضح ديفيز بالقول إن الإنسان القلق يركز أحيانا على أشياء سيئة محتملة ويركز عليها ويبالغ فيها، بدلا من أن يولي تركيزه للأمور المُرجح وقوعها. يعني ذلك أن هذه النوعية من الأشخاص تميل عند قراءة مقال عن التَبِعات الاقتصادية للوباء، إلى التركيز على أسوأ سيناريو ممكن، بالنسبة للتأثيرات المحتملة لهذا على دخولهم الشخصية. ويضيف ديفيز قائلا: “يقول الواحد من هؤلاء `وظيفتي في خطر، وسأفقدها، وساعتها سأعجز عن أن أُعيل نفسي، ومن ثم سأفقد منزلي كذلك”.
بجانب ذلك، قد يكون الأشخاص الذين يعانون من القلق، أكثر عرضة للشعور بالألم الذي كابده من أدت الأزمة إلى أن يفقد أحباءه، أو حتى حياته. ويقول ديفيز في هذا الشأن: “نستعيد الأمور في أذهاننا، بعد حدوثها. لنتخيل ما رآه من عانوا من مثل هذه المشكلات، وكيف كانت مروعة – ربما – بالنسبة لهم. وكل ذلك مؤلم بالنسبة للناس”.
رغم ذلك، ربما لا يكون من السهل على هؤلاء الأشخاص القلقين، التوقف عن متابعة الأخبار، لأن من بين خصائص الشعور بالقلق بوجه عام، كونه يدفع من يحسون به إلى “التحقق من صحة المعلومات التي ترد إليهم، في مسعى منهم لتخفيف قلقهم”.
لكن العكس قد يكون صحيحا بالنسبة لمن يعانون من الاكتئاب، إذ يقول ديفيز إن تعرضهم لقدر أكبر من اللازم من المعلومات المتعلقة بوباء كورونا، يجعلهم يكفون تماما عن متابعتها ولا يبالون بها أيضا. ويشير إلى أن أشخاصا مثل هؤلاء، يلوذون في هذه الحالة بمصادر “خطرة” للتحفيز والتنبيه الخارجي، مثل الإفراط في تناول الطعام أو احتساء المشروبات الكحولية.
عندما تعجز عن الكف عن متابعة الأخبار
من جهة أخرى، هناك عدد لا يستهان به من الأشخاص، ممن يجدون أنفسهم – لأسباب مهنية – مُستنزفين بقدر أكبر من المعتاد، بفعل متابعة الأخبار المتلاحقة. من بين هؤلاء، الصحفيون والمسؤولون الحكوميون والأطباء والعلماء، وأُضيف لهم مؤخرا من يتولون تصنيع المُطهرات والمُعقمات.
ويتعين على المنتمين لكل هذه الفئات، البقاء على إطلاع كامل على التعليقات اليومية المرتبطة بأنباء الوباء، وأحدث البيانات والوسوم المتعلقة به، وذلك على نحو لم يَخْبرُوه من قبل قط. ويحدث ذلك بالنسبة للكثيرين ممن يعملون من المنزل، ويحاولون في هذه الحالة، التعامل بكفاءة مع تلك الحدود الضبابية، التي تفصل بين حياتهم الشخصية ونظيرتها المهنية.
من بين من يواجهون هذه المعضلة، لورين ألين ديروسا، الصحفية العاملة في إسبانيا، التي تتعاون بالقطعة مع وسائل إعلام أمريكية، لتغطية تطورات وباء كورونا لحسابها. وتقول في هذا السياق، إنها تمارس عملها الصحفي رغم أعبائها الأسرية، المتمثلة في “رضيع، وتوأم أكبر سنا وجرو حديث الولادة”.
وتستطرد قائلة “أعاني بشدة لنيل قسط من النوم، نظرا للنشاط الزائد لوسائل الإعلام في الفترة الحالية. رغم ذلك لا أستطيع – لأسباب منطقية – الهروب من الوضع الراهن، بحكم عملي صحفية”.
ويوجب ذلك على ألين ديروسا، العمل خلال ساعات متأخرة من الليل، وهو ما يعود جزئيا إلى فارق التوقيت بين إسبانيا والولايات المتحدة. لكن لذلك فوائد مفاجئة، إذ تقول الصحفية الإسبانية إن هذا هو الوقت الوحيد الذي يتسنى لها العمل فيه “لأنني أكون غير مضطرة لرعاية الأطفال خلاله”.
ويقول المعالج النفسي جون-بول ديفيز، إن من بين عملائه الحاليين (الذين يفحصهم من على بعد بالطبع)، أشخاصا بات يتعين عليهم فجأة، البقاء على إطلاع كامل على آخر التطورات المرتبطة بوباء كورونا، أو آخرين ممن يخصصون أوقاتا طويلة، للحديث مع المتضررين بشدة من الوباء.
ومن المرجح أن يؤدي استماعك لقصص هؤلاء الأشخاص المتضررين – كما يقول ديفيز – إلى تأثرك بها “خاصة إذا كنت تهتم بأصحابها. ويشكل الاهتمام بقصص الآخرين، السبب الذي يحدو بالكثير من الصحفيين للاستماع لها”.
الوصول إلى نقطة التوازن
إذا كيف يمكن للمرء تحقيق التوازن بين تلبيته لاحتياجاته المتعلقة بالبقاء على إطلاع على أحدث التطورات والقواعد والتوصيات – أو الإرشادات الصحية والمهنية الضرورية – المرتبطة بالأزمة الحالية، وتجنب الإصابة في الوقت ذاته بالقلق أو الشعور بالإنهاك الذهني جراء ذلك؟
برأي ديفيز، يمكن أن يُشكّل تصفح عناوين الأخبار مرة واحدة يوميا، هدفا معقولا في هذا السياق، سواء كان ذلك، عبر زيارة مواقع إخبارية على شبكة الإنترنت، أو مشاهدة إحدى النشرات الإخبارية التليفزيونية، أو الاطلاع على بيان حكومي يتعلق بأزمة الوباء.
وقد يتم تقليص ذلك، إلى مرة واحدة أسبوعيا بالنسبة لمن يعانون من معدلات مرتفعة من القلق. بجانب ذلك، من الضروري كما يقول ديفيز؛ أن ينتقي المرء موقعا إخباريا موثوقا به أو وسيلة إعلام تحظى بالمصداقية، من تلك التي تركز على “الحقائق لا على الحدس والتخمين”.
ويقول الصحفي الدنماركي أولريك هوغوب: “ليست كل الصحافة جيدة، لكن هذا لا يعني أن كلها سيئة كذلك. يتعين عليك تبني نهج متشكك وانتقادي حيال وسيلة الإعلام، التي تريد أن ترى أخبار العالم من خلالها، لأن ذلك يشكل فارقا”.
وربما يتعين علينا هنا الاستعانة برأي ليز مارتِن، وهي خبيرة في العلاج النفسي تعمل في لندن، ومن بين زبائنها أشخاص يحاولون السيطرة على مشاعر القلق التي تراودهم بسبب أزمة كورونا، وكذلك نزلاء سجون لا يستطيعون – بسبب الأزمة – استقبال زيارات من أصدقائهم وأقربائهم.
وتتمثل نصيحة مارتِن لمن لا يستطيعون تحمل عبء ملاحقة الأخبار المرتبطة بوباء كورونا على الإطلاق، أو من يجدون ذلك مرهقا للغاية بالنسبة لهم، أن يستعينوا في هذا الشأن بأصدقاء مقربين، لا يتضررون بالقدر نفسه من متابعة تطورات الوباء، طالما كان هؤلاء يتابعون وسائل إعلام موثوقا بها.
وتوضح نصيحتها هذه بالقول: “الناس مختلفون، لذا ربما يكون هناك صديق لك، يستطيع أن يُبقيك على اطلاع مستمر بما يهمك أو لا يهمك (بشأن أزمة الوباء).. ليس خطأً أن يعاني شخص ما من القلق (جراء متابعة الأخبار)، الأمر لا يعدو كونه فروقا فردية بين البشر”.
وإذا عدنا لبارال غوش، سنجد أنها تقول إنها صارت الآن، قادرة على التعامل بنجاح، مع مشكلة الشعور بـ “الإنهاك الذهني” من فرط التعرض للأخبار المتعلقة بوباء كورونا. فقد باتت تكتفي بمطالعة الإشعارات الخبرية التي تأتيها عبر الهاتف في هذا الخصوص، وتعتمد على رفيق حياتها في إطلاعها على آخر التطورات الرئيسية المتعلقة بالوباء، دون أن تتابع مستجداته على المواقع الإخبارية الإلكترونية أو من خلال النشرات الإخبارية التليفزيونية.
في الوقت نفسه، توقفت غوش عن المشاركة في أي محادثات أو نقاشات تتعلق بـ “كورونا”، على بعض منصات التواصل الاجتماعي، وأوضحت لأصدقائها السبب في رغبتها في نيل استراحة، من قراءة المواد المرتبطة بالوباء، أو نشر الروابط الإلكترونية الخاصة بموضوعات تتعلق به.
وتقول إنها لاحظت بعد ذلك تغييرا في الطريقة التي تمارس بها مهام حياتها، وأنها أصبحت “أكثر تركيزا وإنتاجية”. وأدى تقليصها لوقت متابعة الإخبار، إلى أن تتوافر لها فترة أكبر، لممارسة هوايات تساعد على الشعور بالراحة والاسترخاء، مثل قراءة القصص والروايات.
لكن ديفيز يقول إنه يتعين على المرء أن يجد كذلك أشياء ليتطلع إليها في المستقبل، بجانب تحقيقه لأقصى استفادة ممكنة من حاضره. ويوضح ذلك بالقول: “علينا إدراك أن ما نمر به الآن سينتهي، وأنه موقف محدد بمدى زمني ما، وأن الحال سيتغير، حتى وإن كان الوضع لا يبدو كذلك في بعض الأحيان”.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Worklife