لم تتأخر مفاعيل الانتصار المدوّي في حلب بالظهور ومع الباصات الأخيرة التي أخرَجت مَن تبقى من فلول المسلحين من حلب كان اجتماع ثلاثي في موسكو جمع إلى روسيا إيران وتركيا للبحث في إطار او خريطة طريق لحلّ الأزمة السورية التي يصرّح الجميع بأن لا خروج نهائي منها، إلا بالحلّ السياسي الذي يفصل بين الإرهاب المستوجب الملاحقة حتى الاجتثاث والإصلاح السياسي المستوجب الدرس والعمل بما يناسب سورية وشعبها منه.
لم يكن لثلاثي موسكو أن ينعقد ويخرج بمثل هذا الإعلان أو التفاهم لو لم يكن معسكر الدفاع عن سورية ضرب ضربته الاستراتيجية التاريخية في حلب، فقصم ظهر الإرهاب فيها، وقبر أحلام الطامعين بسورية، وحثّ التراب على مشاريعهم، وبالتالي لولا حلب لم يكن لتركيا أن تذهب الى موسكو وهي التي شكلت في العدوان على سورية العامل الأساسي من الوجوه كلها، فكانت هي المدير الإقليمي والراعي المباشر، وكانت القاعدة الرئيسية التي بدونها ما كان للعدوان ان ينطلق او يستمرّ، فتركيا امتلكت وحرّكت او سهّلت على حدّ ما بات مسلّماً به ما نسبته بين 65 إلى 75 من أوراق العدوان. وعندما تخرج تركيا من معسكر العدوان لتشكل الرأس الثالث للمثلث في موسكو الذي سيرعى حلّ الأزمة يكون منطقياً أن نقول إنّ الأزمة في سورية، وضعت على عتبة الانطلاق الى الحلّ. فهل هذا صحيح؟
قد يكون الجواب البديهي إيجابياً على التساؤل هذا، خاصة أنّ إيران وروسيا تمثلان الطرف الآخر في المواجهة، أيّ معسكر الدفاع عن سورية. وإذا توافق مَن يتحكّم بمعظم أوراق العدوان مباشرة أو غير مباشرة مع مَن يمارس الدفاع المشروع عن النفس والحلفاء، إذا توافقوا على إطار الحلّ يكون عندها الحلّ في متناول اليد وتبقى المسألة مسألة وقت للبحث في التفاصيل ووضع الآلية التنفيذية والاتفاق على الإجراءات العملية.
وهنا ومن غير أدنى شك نؤكد أنّ من مصلحة معسكر الدفاع أن تتوقف المواجهات في الميدان ويتوقف العدوان ويطبّق إعلان موسكو بروحيته دون تحريف، فيكون عندها انتصر المدافع في دفاعه وفقاً لمبادئ انتصار المدافع، وعندها يتمّ الانتقال الى السياسة ويكون الاحتكام الى الحق والمصلحة الوطنية السورية على طاولة التفاوض السياسي. وهو ما نادت به سورية منذ اللحظات الأولى لبدء العدوان عليها. وإنّ ما ورد في إعلان موسكو من مبادئ تؤكد هذا الأمر لأنّ الإعلان يستجيب لكلّ مطالب سورية خاصة في وحدة أراضيها وعلمانية الدولة وأن تكون لكلّ أبنائها والسيادة السورية تامة وأخيراً. وهنا المهمّ في الميدان التزام الجميع يعني التزام تركيا بمحاربة الإرهاب المتمثّل بداعش والنصرة ومَن ارتبط بهما تحالفاً أو تبعية أو مبايعة.
ولكن هل من مصلحة تركيا أن تسير قدماً بتنفيذ إعلان موسكو الذي لا يحقق لها أقله في الظاهر شيئاً من الأهداف التي قامت بالعدوان على سورية لأجلها؟ ثم أين موقع مَن تبقّى من مكونات العدوان في الإعلان خاصة أميركا وفرنسا وبريطانيا والسعودية وقطر من المسألة؟
بداية نقول إنّ من الحكمة والمرونة أن اعتُمدت لإعلان موسكو صيغة وهيكلية مفتوحة تتقبّل أطرافاً جدداً، ولكن هل من يلتحق؟
نحن لا نرى سهولة الآن في التحاق البعض مثل أميركا والأوروبيين بصيغة لم يكونوا هم منشئوها، خاصة أنهم ينظرون الى أنفسهم أنهم الأصل، أما قطر والسعودية، فأعتقد أنّ التحاقهما بالإعلان لا يمكن ان يحصل دون إيعاز أو ضوء أخضر أميركي. فهذه الكيانات لا تملك قرارها وليست مستقلة في خياراتها. وبالتالي لا نرى فرصاً كبيرة لتوسع ثلاثي موسكو صاحب الإعلان.
أما عن تركيا، فإننا نعتقد أنها اضطرت للدخول في هذا المثلث وتبني هذا الإعلان لأسباب تتعلق بمخاوفها وهواجسها الذاتية المتصلة بوحدة أراضيها، ثم رغبتها في احتواء هزيمتها في الميدان بسقوط الإرهاب الذي رعته واحتضنته في حلب. وقد كانت حلب بذاتها كما وصفها الرئيس الأسد مقبرة أحلام السلطان والمقصود هنا الرئيس التركي أردوغان. وبالتالي ترى تركيا انّ الإعلان الذي تبنّته في موسكو يشدّد على وحدة الأراضي السورية أيّ يقطع الطريق على الأكراد في كيان يكون مصدر تهديد لوحدة الأراضي التركية، ثم أنها وجدت في الدعوة إلى وقف إطلاق نار شامل في سورية فرصة تحتاجها لالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الإرهابيين بعد انهيارهم وهزيمتهم النكراء في حلب. أيّ أنّ تركيا نالت في إعلان موسكو مطلبين هامّين يستحقان أن يجعلاها تنضمّ الى روسيا وإيران في رعاية وضمان الحلّ السلمي للأزمة السورية.
ولكن هل تركيا مستعدة أيضاً للقيام بأعباء ومهمات فرضها إعلان موسكو عليها ضمنياً خاصة لجهة التضييق على الإرهاب وإقفال حدودها بوجهه؟ والكلّ يعرف أنّ تركيا إذا أقدمت على ذلك تحلّ فوراً نسبة 75 من مخاطر الإرهابيين وتساعد في معالجة ما تبقى من مخاطر. فهل تركيا مستعدّة لذلك؟
قبل الإجابة نتوقف عند أمرين الأول إصرار الدوائر الغربية على القول بأنّ إنهاء أزمة حلب لا يعني إنهاء أزمة سورية، وأنّ أمد الصراع طويل. هذا ما أجمع عليه الأميركي والبريطاني والفرنسي والألماني، والثاني ما تمّ تسريبه بالأمس عن إرسال بريطانيا خبراء عسكريين إلى سورية انتقلوا الى إدلب عبر تركيا من أجل إعادة تنظيم المسلحين الذين أخرجوا من حلب. ما يعني أنّ الغرب لم يسلّم بالهزيمة وأنه ماضٍ قدماً في حرب الاستنزاف لإطالة أمد الصراع. ومع هذه النتيجة نعود ونسأل أين موقع تركيا من المسألة؟ هل هي مع حلّ وفقاً لإعلان موسكو أم مع حرب استنزاف، وفقاً للمعلن والمضمر من المواقف الأوروبية، أم هي في موقع وسطي بينهما؟
للإجابة هنا يجب أن نذكّر بموقف ترامب الذي سيتولى السلطة الأميركية بعد شهر من الآن، وهو كما أعلن سيهتمّ في سورية بمحاربة داعش وإقامة مناطق آمنة بأموال الخليجيين، وليس معنياً بمسألة مَن يحكم سورية. كما نذكّر بموقع تركيا المميّز في الحلف الأطلسي وهو موقع لا يسمح لها أن تذهب بعيداً في سياسات تناقض سياسة أعضاء الحلف الرئيسيين حيال مسألة بخطورة المسألة السورية، وليس منطقياً القول او الاعتقاد بانّ تركيا تدير ظهرها للحلف الأطلسي لتحالف خصوماً ومنافسين تاريخيين وتقليديين له مثل إيران وروسيا.
على ضوء ذلك نستطيع أن نقول إنّ تركيا لم تأت الى موسكو بقناعة ويقظة ضمير لوقف عدوانها على سورية، كما أنها لم توقّع إعلان موسكو بعيداً عن مواقف الغرب عامة وأميركا خاصة، بل كما أعتقد جاءت بعلم وتنسيق لا بل وبتكليف منهم من أجل أن تستحصل على أوراق ووقت يلزم الغرب في فترة الفراغ السياسي الذي يعانيه خلال المرحلة الانتقالية في أميركا، وإذا استطاعت أن تستحصل فقط وقف إطلاق النار وإطلاق يدها في الشمال السوري ضدّ الأكراد الذين يهدّدون وحدة تركيا فيكون ذلك كافياً لها. أما ما يطلب منها من قتال الإرهاب أو التضييق عليه، فإنها تستطيع أن تماطل او تراوغ فيه وسيكون الاختبار الأول في إدلب التي تسيطر عليها جماعات تدين معظمها بالولاء لجبهة النصرة.
لقد جاء إعلان موسكو نتيجة مباشرة لسقوط الإرهاب في حلب، وانه تكريس لانتصار معسكر الدفاع عن سورية الانتصار الذي أملى على تركيا الانضمام الى هذا الإعلان لتحتفظ بأوراق لها وتؤمّن مصالح تعنيها، أما التنفيذ والالتزام التركي فيبقى موضع شك من قبلنا، فتركيا لا تغامر باعتماد مواقف بعيدة عن الغرب، ولهذا نرى أنّ إعلان موسكو أقرب الى وثيقة ربط نزاع منه إلى اتفاق يعتبر عتبة الطريق الى الحلّ، ولكنه وفي الأحوال كلها يشكل كسباً لمحور المقاومة ومعسكر الدفاع عن سورية ويشكل إطاراً صالحاً لتصحيح البيانات والقرارات الدولية السابقة حول سورية.
ولكن وحتى يُستثمر إعلان موسكو جيداً، نرى أن يطبّق بروحيته وخلفيته القائمة على فصل محاربة الإرهاب عن العمل السياسي وأن ينخرط الجميع في مكافحة الإرهاب ومَن يستنكف يستبعد عن طاولة التفاوض حول الحلّ السياسي، وإما وقف إطلاق نار شامل يمكّن المسلحين من إعادة تنظيم الذات والاتجاه إلى حرب استنزاف طويلة فينبغي التحسّب لها وبحرص شديد.