🌷♰🌷
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل اليوم المُقَدَّس
إنجيل القديس يوحنا البشير ٢١: ١٥-٢٥
🌷♰🌷
♱ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبِن وَالرُّوح القُدُس الأِلَه الوَاحِد آمين ♱
﴿ رسالة القديس بولس الى أهل قولوسي ٣: ١-١١ ﴾ وَبَارِك يَا رَب،
١ إِذَنْ إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱبْتَغُوا مَا هُوَ فَوْقَ حَيْثُ ٱلْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ ٱللهِ.
٢ إِفْطَنُوا لِمَا هُوَ فَوْقُ لَا لِمَا هُوَ عَلَى ٱلْأَرْضِ.
٣ فَإِنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللهِ.
٤ وَمَتَى ظَهَرَ ٱلْمَسِيحُ ٱلَّذِي هُوَ حَيَاتُنَا فَأَنْتُمْ أَيْضاً تَظْهَرُونَ حِينَئِذٍ مَعَهُ فِي ٱلْمَجْدِ.
إرشادات عامة
٥ فَأَمِيتُوا أَعْضَآءَكُمُ ٱلَّتِي عَلَى ٱلْأَرْضِ ٱلزِّنَى وَٱلنَجَاسَةَ وَٱلْفُجُورَ وَٱلشَّهْوَةَ ٱلرَّدِيئَةِ وَٱلبُخْلَ ٱلَّذِي هُوَ عِبَادَةُ وَثَنٍ.
٦ لِأَنّهُ لِأَجْلِ هٰذِهْ يَحِلُّ غَضَبُ ٱللهِ عَلَى أَبْنَآءِ ٱلْكُفْرِ.
٧ وَفِي هٰذِهْ أَنْتُمْ أَيْضاً سَلَكْتُمْ حِيناً إِذْ كُنْتُمْ عَائِشِينَ فَيهَا.
٨ أَمَّا ٱلْآنَ فَأَنْتُمْ أَيْضاً ٱطْرَحُوا ٱلْكُلَّ ٱلْغَضَبَ وَٱلسُخْطَ وَٱلْخُبْثَ وَٱلتَّجْدِيفَ وَٱلْكَلَامَ ٱلْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ.
٩ وَلَا يَكْذِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بَلِ ٱخْلَعُوا ٱلْإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ
١٠ وَٱلْبَسُوا ٱلْإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ عَلَى صُورَةِ خَالِقِهِ
١١ حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا خِتَانٌ وَلَا قَلَفٌ وَلَا أَعْجَمِيٌّ وَلَا إسْكُوتِيٌّ وَلَا عَبْدٌ وَلَا حُرٌّ بَل ٱلْمَسِيحُ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ وَفِي ٱلجَمِيعِ.
﴿ إِنْجِيل الۤقِدِّيس يوحنا الۤبَشِير ٢١: ١٥ – ٢٥ ﴾ فَلْنُصْغِ
تفسير معمق من الآباء والقديسين لإنجيل اليوم المُقَدَّس
١٥ فَبَعْدَ ما تَغَدَّوا قالَ يسوع لِسِمعانَ بُطرُسَ يا سِمعانُ بْنُ يونا أتُحِبُّني أكثَرَ مِنْ هَؤلاءِ قالَ لهُ نَعَمْ يا رَبُّ أنتَ تَعْلمُ أنّي أحِبُّكَ. قالَ لهُ ارْعَ خِرافي.
١٦ قالَ لهُ ثانِيَة ً يا سِمعانُ بْنَ يونا أتُحِبُّني. قالَ لهُ نَعَمْ يا رَبُّ أنتَ تَعْلمُ أنّي أحِبُّكَ. قالَ لهُ ارْعَ كِباشي.
١٧ قالَ لهُ ثالِثَة ً يا سِمعانُ بْنَ يونا أتُحِبُّني. فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأنَّهُ قالَ لهُ ثالثَة ً أتُحِبُّني فقالَ لهُ يا رَبُّ أنتَ تَعْلمُ كُلَّ شَيئ ٍ وَأنتَ تَعْلمُ أنِّي أحِبُّكَ. فقالَ لهُ ارْعَ غَنَمي.
١٨ ألحَقَّ الحقَّ أقولُ لكَ إذْ كُنْتَ شابَّا ً كُنْتَ تُمَنْطِقُ نَفسَكَ وَتَذْهَبُ حَيْثُ تَشاءُ فإذا شِخْتَ فَسَتُمُدُّ يَديْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ وَيَذْهَبُ بِكَ حَيْثُ لا تشاءُ.
١٩ وَإنَّما قالَ هذا دالّاً على أيَّةِ ميتةٍ كانَ مُزْمِعاً أنْ يُمَجِّدَ اللهَ بِها. وَلمَّا قالَ هذا قالَ لهُ اتْبَعْني.
٢٠ فالتَفَتَ بُطرُسُ فرأى التِّلميذ َالّذي كانَ يسوع يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ وَهُوَ الّذي كانَ اتَّكأ في العشاءِ على صَدْرِهِ وَقالَ يا رَبُّ مَن ِ الّذي يُسْلِمُكَ.
٢١ فلمَّا رآهُ بُطرُسُ قالَ لِيسوع يا رَبِّ ما لِهذا.
٢٢ قالَ لهُ يسوع إنْ شِئتُ أنْ يَثْبُتَ هذا إلى أنْ أجيئَ فماذا لكَ. أنتَ اتْبَعني.
٢٣ فذاعَتْ هذِهِ الكلِمَةُ فيما بينَ الإخْوَةِ أنَّ ذلِكَ التّلميذَ لا يموتُ. وَلمْ يَقُلْ يسوع إنّهُ لا يموتُ بَلْ إنْ شِئتُ أنْ يَثبُتَ إلى أنْ أجيئَ فماذا لكَ.
٢٤ وهذا التِّلميذُ هُوَ الشّاهِدُ بِهذِهِ الأمورِ وَهُوَ الكِاتِبُ لها وَقَدْ عَلِمنا أنَّ شهادَتُهُ حَق ٌ.
٢٥ وَأشياءٌ أخَرُ كثيرةً صَنَعَها يسوع لوْ أنَّها كُتِبَتْ واحِدَةً فواحِدَةً لما ظنَنْتُ أنَّ العالمَ نَفسَهُ يسَعُ الصُّحُفَ المكتوبَةَ
حديثه مع بطرس
أكد لهم السيد المسيح أنه خالق الجسد والروح. اهتم أن يقدم لهم إفطارًا من صنع يديه لإشباع احتياجاتهم الجسدية، والآن يهتم بالطعام الروحي لإشباع احتياجاتهم الروحية.
تم هذا الحوار بين السيد المسيح والقديس بطرس بعدما تغدّ التلاميذ وشبعوا. وربما تم أثناء الأكل حيث مال السيد نحو سمعان بطرس يتحدث معه. لقد سبق أن التقى السيد المسيح بتلميذه بعد القيامة على الأقل مرتين أو ثلاثة، ولم يفتح معه هذا الحديث، ربما لأن السيد المسيح أراد أن يعطي سمعان بطرس نوعًا من الطمأنينة أن توبته قد قُبلت، وأن ما حدث لن يؤثر على علاقة السيد به. وبعد أن اطمأن سمعان بطرس فاتحه السيد في الأمر. ويرى البعض أن سمعان بطرس لم يشر إلى هذا الأمر خشية أن يعلن له السيد عن ضعفات أو سقطات أخرى ستحدث معه، إذ أدرك أن السيد المسيح يعرف أعماقه أكثر مما يعرفها هو عن نفسه. كان بطرس الرسول محتاجًا إلى هذه الجلسة لترجع إليه الثقة في عمل اللَّه فيه.
“فبعدما تغدوا، قال يسوع لسمعان بطرس:
يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء؟
قال: نعم يا رب أنت تعلم إني أحبك.
قال له: ارعَ خرافي”. (15)
في مبادرة الحنان الشخصية هذه نحو سمعان بطرس العزيز عليه لاستعادته إلى الشركة الكاملة، شركة الذين أصبحوا الآن مختومين بختم القيامة، لم يشر السيد المسيح إلى اسم سمعان الجديد “بطرس” الذي وهبه إيّاه، وكأنه يعيد تجديد العهد معه.
“أتحبني أكثر من هؤلاء؟” يرى البعض أنه يقصد: هل تحبني أكثر من حبك لهؤلاء جميعًا، لكن الواضح أنه يسأله إن كان يظن أن حبه للسيد المسيح أكثر من حب بقية التلاميذ له كما كان يظن قبلاً، حين أعلن أنه مستعد أن يسير حتى إلى الموت، حتى إن أنكره الجميع. لم يجسر سمعان بن يونا في إجابته أن ينطق ويقول: “أكثر من هؤلاء” لأنه خشي أن يحمل في داخله ضعفًا هو يجهله، ولأنه يقدم توبة عما سبق فأعلنه أنه لن ينكره حتى إن أنكره الجميع. تحدث في أسلوب مملوء حياءً وخشوعًا! إذ تعلم القديس بطرس ألا يتكل على ذاته، بل يسلم الأمر بين يدي مخلصه، قائلاً: “أنت تعلم”. إنه لم يعد يثق في شهادته الخاصة، ولم يكن ممكنًا أن يطلب شهادة بقية التلاميذ، إنما طلب شهادة السيد المسيح نفسه العارف القلوب والقادر أن يسند الضعفاء.
لم يسأله السيد عن توبته بخصوص جحده له ثلاث مرات، لكنه اكتفى بالسؤال عن حبه له، فالتوبة في جوهرها هي ممارسة حب للَّه. هذا ما يطلبه السيد المسيح من كل تائبٍ حقيقيٍ. لذلك عندما مدح المرأة الزانية التائبة قال لسمعان الفريسي: “لأنها أحبت كثيرًا مغفورة لها خطاياها الكثيرة” (لو 7: 47).
لكي يرد السيد المسيح سمعان بطرس إلى خدمة النفوس سأله: “أتحبني؟”، فإنه لا يأتمن إنسانًا على هذه الخدمة ما لم يكن قلبه مملوء حبًا لشخص المسيح. لأن ما يقدمه للبشرية لأجل خلاصها، إنما يقدمه للسيد المسيح نفسه. من لا يحب السيد المسيح لن يقدر أن يخدم النفوس ويهتم بخلاصها، لأنه لا يعرف قيمتها، هذه التي مات المسيح عنها، وقدم دمه ثمنًا لخلاصها. استخدم السيد المسيح كلمة “أغاباس”، وهو أسمى أنواع الحب وأكرمه، أما بطرس فخجل من استخدام ذات الفعل لكن بروح التواضع استخدم كلمة “فيليو” وهي تستخدم لمحبة الأصدقاء.
قال السيد المسيح لبطرس: “ارع خرافي” وما ذكر جحوده، ولا عيَّره بما فعله، وكأنه يقول له: إن نفسك التي قلت إنك تبذلها من أجلي ابذلها من أجل غنمي.
توجد بالحقيقة أمور أخرى كثيرة قادرة أن تهبنا دالة لدى الله، وتظهرنا بهيين ومزكين، وأما أكثر الكل مما يجلب إرادة صالحة من الأعالي، فهو الاهتمام بقريبنا في حنوٍ، الأمر الذي طلبه المسيح من بطرس. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
عندما يلبس المائت عدم الموت، والفاسد عدم الفساد، ويُبتلع الموت في نصرة المسيح، عندئذ يصير اللَّه الكل في الكل. عندئذ لا تكون الحكمة وحدها في سليمان، والعذوبة في داود، والغيرة في إيليا وفينحاس، والإيمان في إبراهيم، والحب الكامل في بطرس الذي قيل له: “يا سمعان بن يونا أتحبني؟”، وغيرة الكرازة في الإناء المختار، وفضيلتان أو ثلاثة في آخرين، بل يكون اللَّه بالكامل في الكل. وتفرح صحبة القديسين في كل فرقة الفضائل، ويكون اللَّه الكل في الكل. (القديس جيروم)
“قال له أيضًا ثانية:
يا سمعان بن يونا أتحبني؟
قال له: نعم يا رب أنت تعلم إني أحبك.
قال له: ارعَ كِباشي”. (16)
في المرة الأولى قدم السيد السؤال ليقارن بين نفسه واخوته إن كان يحب السيد أكثر منهم، وإذ تعلم سمعان بطرس روح التواضع ولم يجب في اعتزاز بذاته لم يعد في المرتين الثانية والثالثة يقارنه باخوته.
إن كنا نرعى بخوف، ونخاف على القطيع، فكم يليق بالقطيع أن يخشى على نفسه؟ نصيبنا نحن هو الاهتمام بالرعاية، ونصيبكم هو الطاعة. نصيبنا هو السهر الرعوي، نصيبكم هو تواضع القطيع. إن كنا نحن نبدو كمن نتحدث من مكان مرتفع نضع أنفسنا بخوفٍ عند أقدامكم، إذ نعرف مدى خطورة هذا الكرسي السامي. (القديس أغسطينوس)
إن كان إيمان الرسول بطرس قد اهتز بآلام ربه، فبالدموع المرّة سمع الكلمات الرقيقة “ارعَ غنمي”. (القديس جيروم)
“قال له ثالثة: يا سمعان بن يونا أتحبني؟
فحزن بطرس، لأنه قال له ثالثة أتحبني،
فقال له: يا رب أنت تعلم كل شيء،
أنت تعرف إني أحبك.
قال له يسوع: ارع غنمي”. (17)
في المرتين الأولى والثانية استخدم السيد المسيح كلمة agapas واستخدم سمعان بطرس كلمة philo في الإجابة وهي تحمل الحب الذي فيه دالة بين الأعزاء. وجاء سؤال السيد للمرة الثالثة مستخدمًا كلمة philo. وكأنه في المرة الثالثة يقول له: “أتحبني أيها الصديق العزيز؟”
شغل التمييز بين التعبيرين كتابات الكثير من دارسي السفر، ورأى الكثيرون إن تعبير agapao عامة يشير إلى الحب القائم على تفكير عقلي متزن مع تكريس عملي للحياة من أجل المحبوب، أما Phileo فيشير إلى الحب العاطفي الحامل حنوًا شخصيًا نحو المحبوب. وكأن السيد يسأل تلميذه: هل تكرس حياتك لي؟ فيجيب التلميذ: بكل عاطفتي أحبك.
يميز William Hendrikssen بين التعبيرين قائلاً بأن تعبير agapao هنا كما في بقية الأناجيل بوجه عام يشير إلى الحب بكل كيان الإنسان، الذي يحتل ليس فقط العواطف، وإنما العقل أيضًا والإرادة يلعبان دورًا بارزًا، ويقوم الحب على تقدير الشخص المحبوب وبمسببات واضحة. أما Phileo فيشير إلى عاطفة طبيعية عفوية أو تلقائية، حيث تقوم العاطفة بدور رئيسي أكثر من العقل والإرادة. بهذا يمكننا التمييز بين التعبير، فالسيد المسيح في السؤالين الأولين يسأل بطرس إن كان يحمل نوعًا من الحب السامي والغني بالعاطفة مع التعقل والإرادة الحية، وقد جاءت إجابة بطرس أنه لا يدَّعي الحب في هذه الصورة الرائعة، لكن ما هو متأكد منه أنه يحمل عاطفة قوية أصيلة نحو السيد، وإن كانت أقل من الحب الذي طلبه السيد.
يرى C. H. C. MacGregor إن الفعل الأول يشير إلى وجود تقدير واحترام بين الطرفين، والثاني يشير إلى وجود عاطفة شخصية بين عضوين في ذات الأسرة.
حزن القديس بطرس إذ تذكر بالسؤال الثالث جحوده ثلاث مرات، لأن تذكار الخطايا حتى التي نلنا عنها الغفران مؤلم للنفس. ولعله حزن خشية أن يكون سيده يرى في داخله ضعفًا لم يعلم هو به، كما سبق فحدث قبلاً حين أعلن أنه مستعد حتى إلى الموت معه.
دعاه لسيد المسيح ثلاث مرات أن يرعى غنمه، ويهتم بهم خلال حبه لصاحب القطيع. وقد شبه السيد الرب نفسه بالراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10: 11). كما يقول عنه إشعياء النبي: “كراعٍ يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات” (إش 40: 21).
ليكن دور الحب هو الذي يطعم خراف الرب… من كان لهم هذا الهدف في رعاية خراف المسيح أن تصير الخراف كما لو كانت ملكًا لهم وليست ملك المسيح، فإنهم يُدانون على محبتهم لذواتهم لا للمسيح، والرغبة في الافتخار أو نوال سلطانٍ أو مالٍ وليس عن حب للطاعة والخدمة وإرضاء الله… ماذا يعني هذا إلا إن كنت تحبني فلا تفكر في أن تطعم ذاتك بل غنمي بكونها خاصة بي، وليست خاصة بك؛ أطلب مجدي فيهم وليس مجدك أنت؛ أطلب سلطاني لا سلطانك؛ أطلب ربحي وليس مكسبك أنت، لئلا تجد نفسك تتبع الذين ينتمون إلى الأيام الخطيرة المحبين لذواتهم، وكل ما يتبع ذلك في بداية الشرور هذه؟ (القديس أغسطينوس)
بالتأكيد إذ أنكره ثلاث مرات، اعترف به ثلاث مرات. لقد أنكر وكان الوقت ليلاً والآن يعترف والوقت نهار. (القديس أمبروسيوس)
أية خطايا يمكن للندامة أن تفشل في غسلها؟ أيّة وصمات راسخة لا يمكن لمثل هذه الدموع أن تغسلها؟ باعتراف بطرس الثلاثي مسح إنكاره الثلاثي. (القديس جيروم)
“الحق الحق أقول لك لما كنت أكثر حداثة كنت تمنطق ذاتك،
وتمشي حيث تشاء،
ولكن متى شخت فإنك تمد يديك وآخر يمنطقك،
ويحملك حيث لا تشاء”. (18)
بعد أن رد السيد المسيح القديس بطرس إلى رسوليته عاد يخبره عن استشهاده، وبقوله: “الحق الحق” ليؤكد أن ما ينطق به أمر خطير وهام، له وقاره، وأنه بالتأكيد سيتحقق.
إذ كان في حداثته يتمتع بالحرية حيث يمنطق نفسه متى شاء، ويسير كيفما أراد، خلال هذه الحرية يسلم نفسه في يدي مخلصه، ليمنطقه السيد ويحمله حسب مشيئته الإلهية وليس حسب فكر سمعان أو غيره من المؤمنين. إنه يخضع بإرادته لإرادة اللَّه لكي يتمجد اللَّه حتى في موته. إنه بهذا يُسر بالآلام حتى الموت إذ يمجد اللَّه، شاهدًا للحق الإلهي.
يرى Wetstein في تعبير “تمد يديك” إشارة إلى ما كان معتادًا في روما عند صلب شخص أن توضع رأس الشخص في النير وتُبسط يداه وتشدّان حتى النهاية، ويسيرون به في شوارع المدينة التي يصلب فيها.
إنه يمنطقه آخر بالسلاسل الحديدية ويحملونه إلى حيث لا يشاء، ليس لأنه لا يريد أن يُصلب من أجل حبه للسيد المسيح، وإنما لأنه يود أن يعيش ليكرز ويخدم.
أوضح السيد المسيح لبطرس الرسول حال موته، لأنه إذ كان بطرس الرسول يريد دومًا أن يوجد في الأخطار والمصاعب من أجله، قال له: أطمئن فإنني من هذه الجهة أتمم شهوتك، حتى حين تصير شيخًا تقاسي المصاعب التي لم تقاسيها لما كنت شابًا.
ماذا إذن “حيث لا تشاء؟” يتحدث عن المشاعر الطبيعية، وضرورة الجسد، وأن النفس تفارق الجسد لا إراديا. حتى وإن كانت الإرادة ثابتة، إلا أنه توجد الطبيعة في ضعف… فتعبير “حيث لا تشاء” يشير إلى الشعور الطبيعي. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
هكذا كانت النهاية التي بلغ إليها ذاك الجاحد (لسيده) ألا وهو الحب. لقد صار في تيه بجسارته، وانطرح بجحوده لسيده. اغتسل ببكائه، وتزكى باعترافه، وكُلل باحتماله الآلام.
هذه هي النهاية التي بلغها أن يموت بحبٍ كاملٍ من أجل اسم ذاك الذي وعده أن يموت وذلك في جسارة. لقد فعل ذلك عندما تقوى بقيامته (قيامة المسيح)، الأمر الذي وعد أن يفعله ولم يكن بعد ناضجًا. فإن الترتيب اللازم هو أن يموت المسيح أولاً من أجل خلاص بطرس، وبعد ذلك يموت بطرس من أجل الكرازة بالمسيح. (القديس أغسطينوس)
“قال هذا مشيرا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يمجد الله بها،
ولما قال هذا قال له: اتبعني”. (19)
إنكار بطرس للسيد المسيح ثلاث مرات هزه في أعماقه، لذلك أراد السيد أن يهبه روح الرجاء المفرح، فأكد له أنه سيمجد الله، ليس فقط في سلوكه كما في كرازته، وإنما حتى آخر نسمة من نسمات حياته، إذ يمجد الله في موته. حتى يستطيع أن يترنم: “إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت؛ إن عشنا وإن متنا فللرب نحن” (رو 14: 8).
تحقق استشهاده بعد 34 عامًا من هذا الحوار، وكان ذلك لمجد اللَّه، إذ حسب الرسول نفسه غير أهلٍ أن يُصلب كسيده، لذا طلب أن يُصلب منكس الرأس كما جاء في يوسابيوس وبرودنتيوس Prudentius والقديسين يوحنا الذهبي الفم وأغسطينوس.
الآن لا حاجة لنا أن نخاف بعد من العبور من الحياة الحاضرة، لأنه في قيامة الرب صار لنا مثلاً قويًا للحياة القادمة. الآن ليس لك يا بطرس أن تخاف الموت بعد، فإنه يعيش ذاك الذي حزنت عليه حين مات، والذي في حبك الجسدي حاولت أن تمنعه عن الموت من أجلنا (مت ١٦: ٢١-٢٢). (القديس أغسطينوس)
لم يقل: “مزمعاً أن تموت”، بل قال: “أن يمجد الله بها”، حتى تتعلموا أن التألم من أجل المسيح هو مجد وكرامة للمتألم. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
إذ قال السيد المسيح لبطرس “اتبعني” يبدو أن السيد بدأ يتحرك فتحرك وراءه بطرس، لكنه التفت حوله فوجد يوحنا أيضًا يتبعه. غالبًا ما حورب بنوعٍ من حب الاستطلاع، إذ أراد أن يعرف إن كان يوحنا أيضًا سيستشهد أيضًا معه.
حديثه عن يوحنا
“فالتفت بطرس ونظر التلميذ الذي كان يسوع يحبه يتبعه،
وهو أيضًا الذي اتكأ على صدره وقت العشاء،
وقال يا سيد من هو الذي يسلمك؟” (20)
لم يذكر القديس يوحنا اسمه، ربما لأنه حسب نفسه ليس أهلاً أن يُذكر اسمه في الإنجيل المقدس. وفي نفس الوقت لم يكن ممكنًا أن يتجاهل حب السيد المسيح الخاص نحوه.
يرى القديس أغسطينوس أن يوحنا أكثر التلاميذ تمتعًا بحب المسيح له لأنه كان بتولاً، وعاش في طهارة منذ صبوته.
“فلما رأى بطرس هذا قال ليسوع:
يا رب وهذا ما له”. (21)
يرى البعض أن بطرس الرسول كان محبًا للاستطلاع، اهتم في ذلك الوقت بالأحداث حتى التي تخص الآخرين، أكثر من تركيزه على التزاماته كتلميذ للسيد المسيح.
إنه لسرّ عظيم للحب الإلهي أنه حتى في المسيح لم يكن يوجد استثناء من جهة موت الجسد. ومع أنه رب الطبيعة لم يرفض قانون الجسد الذي أخذه. إنه من الضروري لي أن أموت، ولكن ليس بالمهم له ذلك. (القديس أمبروسيوس)
قدم فيما بعد إلى معلمه سؤالاً من أجل غيره، وكان يوحنا الرسول صامتًا وبطرس الرسول يتكلم، فأوضح هنا الحب الذي أخلصه له. لأن بطرس الرسول كان يحب يوحنا الرسول حبًا شديدًا، وهذا واضح من أفعاله فيما بعد، ويتبين في الأناجيل وفي أعمال الرسل ائتلافهما وارتباطهما. وإذ أراد بطرس الرسول أن يأخذ يوحنا الرسول شريكًا قال للسيد المسيح: “يا رب وهذا ما له”، أي أما يسلك الطريق التي لي بعينها؟ (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“قال له يسوع:
إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء، فماذا لك؟
اتبعني أنت”. (22)
يرى البعض أن السيد المسيح أراد توضيح أن القديس يوحنا سوف لا يموت شهيدًا مثل القديس بطرس. يقول المؤرخون القدامى أنه التلميذ الوحيد من بين الاثني عشر الذي لم يستشهد.
بقوله: “حتى أجيء”، لا تعني أنه لن يموت حتى مجيء السيد المسيح الثاني، وإنما هو نوع من التوبيخ للقديس بطرس على حبه للاستطلاع وانشغاله بأحداث المستقبل عوض الاهتمام بالعمل الكرازي. يرى آخرون أنه يعني بطريقة خفية أنه لن يموت حتى يتم تدمير أورشليم على يد تيطس الروماني. كثيرون ظنّوا أن كلمات السيد المسيح هنا تشير إلى أن يوحنا يعيش حتى يأتي السيد ليدين أورشليم ويحكم بخرابها. فالقديس بطرس استشهد عام 67 م، أي سبع سنوات قبل خراب أورشليم، بينما بقي القديس يوحنا حوالي 30عامًا بعد خرابها.
يرى القديس أغسطينوس وغيره أن هذه العبارة تعني: إن أردت أن يبقى يوحنا إلى يوم مجيئي وآخذه معي خلال موت طبيعي، فماذا لك؟ اتبعني لتحمل أنت صليبك. وقد جاء التاريخ يؤكد أنه التلميذ الوحيد الذي تنيح بموتٍ طبيعيٍ وليس بالاستشهاد، وأنه بقي حيًا حتى استشهد الكل.
ظن البعض أن بطرس الرسول كان منفردًا مع السيد المسيح وهما يتحدثان معًا، وإذ كان يعلم مدى دالة القديس يوحنا عند السيد المسيح ظن أنه سيلحق بهما وهما يسيران ويتحدثان، لكن السيد أوضح له أن يترك الأمر في يديه، فقد يترك يوحنا حتى يعود إليه بعد نهاية حديثه مع بطرس.
قال بطرس الرسول هذا القول مهتمًا بيوحنا الرسول جدًا، ولم يرغب أن ينفصل عنه، فأراه السيد المسيح أنه مهما أحبه لا يصل إلى حبه هو له، وقال: “إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجئ فماذا لك؟ اتبعني أنت”. ولما كان بطرس الرسول دائمًا حارًا في مثل هذه المسائل، مندفعًا فيها، قطع السيد المسيح حرارته أيضًا، وعلمه ألا يبحث خارج الحد، وقال له: “إن كنت أشاء أن يبقى حتى أجئ فماذا لك؟”
إنه يعلمنا ألا نحزن ولا نتضايق ولا نكون فضوليين نسأل خارج ما يبدو صالحًا بالنسبة لنا. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“فذاع هذا القول بين الاخوة أن ذلك التلميذ لا يموت،
ولكن لم يقل له يسوع انه لا يموت،
بل إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء فماذا لك؟” (23)
إذ طال عمر القديس يوحنا فعاش حتى استشهد كل التلاميذ ظن المؤمنون أنه لن يموت حتى مجيء السيد المسيح الثاني، إذ فسّروا كلمات السيد بتأويلها على غير ما تحتمله الكلمات، لكن القديس يوحنا صحح مفهومهم وأكد أن السيد لم يقل هذا.
يرى البعض أن الرسولين بطرس ويوحنا هنا يشيران إلى الحياة العاملة والحياة المتأملة في الكنيسة. فمن يمارس التأمل لن يلحق به الموت كالحياة العاملة، إنما يدخل به الموت إلى الكمال، خاصة عند مجيء الرب حيث لا توجد أعمال كرازية أو صدقة بل حياة تسبيح وتأمل في الرب.
لا يوجد شيء يخيفنا من الموت، ليس ما يحزنا، سواء إن كانت الحياة التي قبلناها بالطبيعة تؤخذ منا أو نقدمها ذبيحة من أجله كواجبٍ نلتزم به، سواء بسبب الدين أو لممارسة فضيلة ما، ليس منا من يرغب أن يبقى هكذا كما هو الحال حاليًا. هذا ما قد ظُن أن يوحنا قد وُعد به، لكن لم تكن الحقيقة هكذا… هو نفسه أنكر في كتاباته أنه قد وُجد وعد أنه لا يموت. من هذا المثل لا يليق بأحدٍ أن يتمسك برجاءٍ فارغٍ. (القديس أمبروسيوس)
يرى القديس أغسطينوس أن ما ورد هنا بخصوص الرسولين بطرس ويوحنا يحمل معنى رمزيًا. فالقديس بطرس يمثل المؤمن في جهاده على الأرض وشهادته للسيد المسيح خلال محبته له. لهذا كان بطرس أكثر التلاميذ حبًا للسيد، وقد سأله السيد: “يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء؟”، أما القديس يوحنا فيمثل المؤمن وقد تمتع بالمجد الأبدي في الحياة الأخرى، فلا يسأل: أتحبني؟ وإنما يُمتص كل كيانه في حب المسيح له، فبينما كان بطرس أكثر التلاميذ حبًا للسيد، كان يوحنا أكثر التلاميذ محبوبًا من المسيح، فدعا نفسه: “التلميذ الذي كان يسوع يحبه”. دُعي بطرس من السيد: “اتبعني” حيث يلتزم المؤمن المحب للسيد المسيح أن يترجم حبه إلى شركة آلام مع المسيح، فيتبعه حتى الصليب. وقال السيد المسيح عن يوحنا: “إن كنت أشاء أن يبقى إلى أن أجئ” حيث لا يستطيع الموت أن يتسلل إلى المؤمن في مجده الأبدي. الأول يتبع المسيح بالإيمان، والثاني يتمتع بمجد القيامة عيانًا.
“هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا،
وكتب هذا،
ونعلم أن شهادته حق”. (24)
يسجل الكاتب بوحي الروح القدس إنه تلميذ للرب يكتب بشهادة صادقة عما رآه بنفسه وسمعه من السيد المسيح، وجاءت شهادته تعلن عن الحق.
“وأشياء آخر كثيرة صنعها يسوع،
إن كتبت واحدة واحدة،
فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة. آمين”. (25)
يرى البعض أن هاتين العبارتين (24-25) سجلهما من استلموا السفر من يد الإنجيلي يوحنا ليؤكدا أن السفر هو من شهادة هذا التلميذ الموثوق فيه.
كما لاحظنا في المقدمة أن هذا السفر كثيرًا ما يكرر كلمة “العالم” لتأكيد أن المسيح مخلص العالم كله وليس اليهود وحدهم.
المعجزات والآيات التي صنعها السيد المسيح أكثر من أن تُحصى، ومع كثرة عددها أيضًا تنوعّها. لهذا يرى بعض الدارسين أنه يمكن تفسير العبارة حرفيًا، فإن إلهنا غير المحدود يقوم بأعمال ظاهرة وخفية غير محدودة، لن يستطيع العالم أن يسجلها بأكملها.
ليس غاية الكتاب المقدس حصر أعمال السيد المسيح وكلماته، وإنما الكشف عن شخصه وسماته وأعماله في حياة المؤمن. وقد سجّل الإنجيليون الآخرون عبارات تكشف عن كثرة أعمال السيد المسيح المعجزية (مت 4: 23-24؛ 9: 35؛ 11: 1؛ 14: 14، 36؛ 15: 30؛ 19: 2 الخ). كمثال القديس بولس اقتبس عبارة من أقوال السيد المسيح لم ترد في الأناجيل الأربعة (أع 20: 35). فما سجله العهد الجديد عن شخص السيد المسيح وأعماله وكلماته كان كافيًا لتمتع الكنيسة بشخصه وفكره وأعماله.
أساء بعض النقاد فهم هذه العبارة، غير أن كثير من الدارسين سجّلوا لنا أن مثل هذه التعبيرات هي تعبيرات شرقية وُجدت في كتابات كثيرة ولم تُنتقد، واستخدمها أيضًا كتّاب غربيون. مثل هذا العبارة التي تحمل نوعًا من المبالغة هي تعبير سائد استخدمته أيضًا الأسفار المقدسة. مثال ذلك ما قاله الجواسيس “رأينا هناك الجبابرة بني عناق من الجبابرة، فكنا في أعيننا كالجراد، وهكذا كنا في أعينهم” (عد 13: 13). “كبرت الشجرة وقويت فبلغ علوّها إلى السماء، ومنظرها إلى أقصى كل الأرض” (دا 4: 11). “شعب أعظم منا وأطول منا، مدن عظيمة محصنّة إلى السماء” (تث 1: 28). وجاء في يوسيفوس المؤرخ عن يعقوب أنه نال وعدًا بأن أرض كنعان تكون له ولنسله الذين يملأون الأرض كلها التي تشرق عليها الشمس، سواء على الأرض أو في البحر. وفي الغرب جاء عن شيشرون أن طاقات الشعب الروماني بالكاد يضاهيها المجد الذي في السماء، وأنه بالكاد كوكب الأرض يحتويها.
لسنا نفترض أنه يتحدث بخصوص المساحة المحلية للعالم أنها لا تستطيع أن تحويها، لأن كيف يمكن كتابتها إن كان العالم لا يقدر أن يحويها أثناء الكتابة؟ لكن ربما أن هذه الكتابات لا يمكن فهمها حسب طاقات القراء. (القديس أغسطينوس)
“يا ربّ، إِلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ عِندَك” (يوحنا 6: 68)
وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح
ملاحظة: المرجع الذي نأخذ منه نصوص الانجيل المُقَدَّس هو النسخة المعتمدة في الكنيسة الكاثوليكية جمعاء والمدقق في تعابيرها كلمة كلمة: الكتاب المقدس الفولغاتا BIBLIA SACRA VULGATA.