عَ مدار الساعة


غاية الصوم نقاوة القلب ومعاينة الله كأب يتقبّل حبّنا.. لهذا يبذل إبليس/ عدوّ الخير ضربه..

🌸 ♰ 🌸
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين للصوم (متى البشير ٦: ١٦-٢١)

لم يتعرّض السيّد المسيح لنظام الصوم عند اليهود، سواء الصوم الجماعي أو الخاص، فإن العيب ليس في النظام، وإنما في روح ممارستهم له. فقد اعتاد اليهود أن يصوموا يوميّ الاثنين والخميس كل أسبوع بخلاف الأصوام السنويّة العامة، والأصوام الخاصة عند حلول ضيقة. وكان يوما الاثنين والخميس هما يومي السوق بأورشليم، فيظهر البعض بثياب غير منسّقة وشعر غير مدهون ليظهروا صائمين أمام الناس وينالوا مجدًا. لهذا يقول السيد: “ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صمت، فادهن رأسك، واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيّة” [16-18].

غاية الصوم هو نقاوة القلب، أو معاينة الله كأب يتقبّل حبّنا، لهذا يبذل عدوّ الخير جهده أن يفسد هذا العمل خلال تسلّل حب الظهور والرغبة في مديح الناس إلينا، فينحرف بالقلب بعيدًا عن الله، ويصير الصوم عملاً شكليًّا بلا روح، إننا لا نصوم من أجل الصوم في ذاته، ولا لأجل الحرمان، إنّما لأجل ضبط النفس وانطلاق القلب إلى الحياة السماويّة.

لا نقرأ قط أن أحدًا سيُلام من أجل تناوله الطعام، إنّما يُدان من أجل ارتباطه به أو الاستعباد له. (الأب ثيوناس)

حب الظهور لا يكون فقط في التغالي والتفخيم في الأمور الجسديّة، بل ويكمن أيضًا في الأمور الوضيعة المحزنة (كالصوم)، وهذه تكون أكثر خطورة، لأنها تخدع الإنسان تحت اسم خدمة الله.

نحن نغسل وجوهنا يوميًا، لكننا لا نُلزَم بدهن الرأس عند الصوم، لذلك فلنفهم الوصيّة على أنها غسل لوجهنا ودهن لرأسنا الخاص بالإنسان الداخلي…

فدهن الرأس يشير إلى الفرح، وغسل الوجه يشير إلى النقاوة. فعلى الإنسان أن يبتهج داخليًا في عقله بدهن رأسه الفائقة السموّ في الروح والتي تحكم وتدبّر كل أجزاء الجسم، وهذا يتحقّق للإنسان الذي لا يطلب فرحًا خارجيًا نابعًا عن مديح الناس…

يكون الفرح داخليًّا أثناء الصوم بابتعاده عن مسرّات العالم وبخضوعه للمسيح.

وهكذا أيضًا فليغسل وجهه، أي ينقي قلبه الذي يعاين الله، فلا يعود يوجد حجاب حاجز بسبب الضعف الناتج عن الضيق (الحزن)، بل يكون ثابتًا وقويًّا وقويُّا لنقاوته التي لا غش فيها.

يقول الرب: “اغتسلوا تنقّوا، اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ” (إش 1: 16)، فتُغسل وجوهنا: “ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، فتغيّر إلى تلك الصورة عينها” (2 كو 3: 18). (القديس أغسطينوس)

لا فائدة لنا من الصوم إلى اجتزناه سدى بدون تأمّل! (القديس يوحنا الذهبي الفم)

إشعياء النبي وهو يقيمهم من هذه الهُوّة (التعلّق بالجسديّات) كان يرفعهم ويجذب عقولهم إلى فوق بإعلان عظمة الصوم، فيدفعهم إلى التهليل الروحاني، ويطرد من أرواحهم الحزن والكآبة، وهو يصيح فيهم قائلاً: “أمِثْل هذا يكون صوم اَختاره، يومًا يذلّل الإنسان فيه نفسه، يحني كالأسلة رأسه ويفرش تحته مسحًا ورمادًا؟!…” (إش 58: 5-9).

لذلك بينما كان ربّنا يُعلن بهاء الصوم وسروره، كان يأمر أيضًا بصوت واضح قائلاً: “وأمّا أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك” [ع 17]. فكان يشير إلى بريق الروح وطهارتها عن طريق الأعضاء الرئيسيّة في الجسم… ربّنا نفسه يأمر أن نغتسل ونتطهّر بامتناعنا عن الشرّ، ومن جهة أخرى أن نتزيّن ونضيء بممارستنا الخير الذي تنيره النعمة الروحيّة! (القدّيس ساويرس الأنطاكي)

العبادة السماويّة

بعد أن قدّم لنا السيّد المسيح الجوانب الثلاثة للعبادة المسيحيّة أراد توضيح غايتها، ألا وهي رفع القلب النقي إلى السماء، ليرى الله ويحيا في أحضانه، محذّرًا إيّانا ليس فقط من تحطيمها خلال “الأنا” وحب الظهور، وإنما أيضًا خلال “محبّة المال” التي تفقد القلب المتعبّد حيويّته وحريّته، إذ يقول السيد: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بلا اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون” [19-20].

من يتعبّد لله بقصد المجد الزمني الباطل يكون كمن جمع كنوزه على الأرض، سواء في شكل ثياب فاخرة يفسدها السوس، أو معادن تتعرّض للصدأ، أو أمور أخرى تكون مطمعًا للصوص. هكذا يرفع قلوبنا إلى السماء لننطلق بعبادتنا إلى حضن الآب السماوي، يتقبّلها في ابنه كسرّ فرح له وتقدِمة سرور، لا يقدر أن يقترب إليها سوس أو لصوص ولا أن يلحقها صدأ!

يقول القدّيس أغسطينوس: [إن كان القلب على الأرض، أي إن كان الإنسان في سلوكه يرغب في نفع أرضي، فكيف يمكنه أن يتنقّى، مادام يتمرّغ في الأرض؟ أمّا إذا كان القلب في السماء فسيكون نقيًا، لأن كل ما في السماء فهو نقي. فالأشياء تتلوّث بامتزاجها بالفضّة النقيّة، وفكرنا يتلوّث باشتهائه الأمور الأرضيّة رغم نقاوة الأرض وجمال تنسيقها في ذاته.]

يُعلّق أيضًا القدّيس أغسطينوس على حديث السيّد:
“لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض”، قائلاً:

لو أخبركم مهندس معماري أن منزلكم يسقط حالاً، أفلا تتحرّكون سريعًا قبل أن تنشغلوا بالنحيب عليه؟! هوذا مؤسّس العالم يخبركم باقتراب دمار العالم، أفلا تصدّقوه؟!… اسمعوا إلى صوت نبوّته: “السماء والأرض تزولان” (مت 24: 35)… استمعوا إلى مشورته!…

الله الذي أعطاكم المشورة لن يخدعكم، فإنكم لن تخسروا ما تتركونه، بل تجدوا ما قدّمتموه أمامكم… اعطوا الفقراء فيكون لكم كنز في السماء! لا تبقوا بلا كنز، بل امتلكوا في السماء بلا هّم ما تقتنونه على الأرض بقلق. أرسلوا أمتعتكم إلى السماء. إن مشورتي هي لحفظ كنوزكم وليس لفقدانها…

ينبغي علينا أن نضع في السماء ما نخسره الآن على الأرض. فالعدو يستطيع أن ينقب منازلنا، لكنّه هل يقدر أن يكسر باب السماء؟ إنه يقتل الحارس هنا، لكن هل يستطيع أن يقتل الله حافظها؟…

الفقراء ليسوا إلا حمّالين ينقلون أمتعتنا من الأرض إلى السماء. إذن فلتعطوهم ما لديكم فإنهم يحملونها إلى السماء… هل نسيتم القول: “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت… لأني جعت فأطعمتموني… وكل ما فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم” (مت 25: 34-40). (القدّيس أغسطينوس)

بهذه الوصيّة يرفع الرب عبادتنا للسماء، محذّرًا إيّانا من “المجد الباطل” ومقيمًا حراسًا عليها، ألا وهي أعمال الرحمة المملوءة حبًا. فالصدقة الحقيقية بمعناها الواسع والتي تضم العطاء المادي والمعنوي، ترفع القلب بعيدًا عن الزمنيّات المعنويّة والماديّة، وتحوّل أرصدته في السماء.

ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح يحدّثنا عن الحب والرحمة في دستوره الإلهي بطريقة تدريجيّة هكذا:

أولاً: قدّم لنا الرحمة كمبدأ عام نلتزم به.

ثانيًا: طالبنا بمصالحتنا لخصمنا، فلا حاجة للدخول مع أحد في منازعات، وإنما الرحمة تغلب (5: 23ـ 26).

ثالثًا: ارتفع بنا إلى ما فوق القانون، فبالحب ليس فقط نترك ثوبنا لمن ليس له الحق فيه، وإنما نقدّم معه رداءنا حتى نربح الخصم بحبّنا.

رابعًا: سألنا ألا نكنز على الأرض، فلا نقدّم أعمال الرحمة للخصم والمضايقين لنا فحسب، حتى لا ندخل معهم في نزاعات بل نكسبهم بالمحبّة، فتكون طبيعتنا هي العطاء بسخاء، كطبيعة داخليّة تنبع عن حنين مستمر لنقل ممتلكاتنا إلى السماء.

إذ يقدّم لنا السيّد هذا التوجيه يُعلن جانبه الإيجابي ألا وهو أنه بالعطاء نحوّل كنزنا إلى فوق في السماء، كما يوضّح جانبه السلبي مهدّدًا أن ما نتركه هنا يفسد بطريق أو آخر فنفقده إلى الأبد.

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أنه يجتذبهم، إذ لم يقل فقط إن قدّمت الصدقة تُحفظ لك بل هدّد بأنك إن لم تعطِ غناك الخ. إنّما تجمعه للسوس والصدأ واللصوص. وإن هربت من هذه الشرور لن تهرب من عبوديّة قلبك له فيتسمّر بالكامل أسفل، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا. إذن فلنُقِم المخازن في السماء.]

📖 كلمات من نور🕯 {روحانيّة الصوم}

قال الربّ يسوع: “أمّا أنت متى صمت، فادهن رأسك، واغسل وجهك، لئلا تظهر للنّاس أنّك صائم، بل لأبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك”. (مت ٦ : ١٧ – ١٨)

أمّا أنت: يسوع يخاطب المؤمن الفرد، لأن الصّوم هو التزام شخصي، وجماعي… إن الربّ يعلّمنا طريقته في الصوم، يريد أن يكون صومنا مثل صومه انقطاع عن العالم، واتجاه إلى الله الآب، الذي لم يعد إلهًا غريبًا بل أبًا، يرانا بعينيه المليئتين بالمحبة والرحمة، لنراه نحن بعين الإيمان.

متى صمت: في الكنيسة مواسم روحية كثيرة نصوم فيها… والمؤمن مدعو إلى صوم شخصي في مناسباته الخاصة، مثلا، قبل نيل الطفل سرّ العماد يصوم أهله وعرابيه، وهكذا قبل نيل بركة الاكليل، وقبل إبراز النذور الرهبانية، ونيل الرسامة الشماسية والكهنوتية والاسقفية.

ادهن رأسك واغسل وجهك: الصوم مع المسيح وباسمه، هو مناسبة فرح لقاء لابن والابنة بأبيهم السماوي. ☝ إنه ليس أزياء للعرض، وليس إضراب عن الطعام من أجل قضيّة مُحِقة، بل إنه علاقة حبّ روحي بين الأبناء والله أبيهم… إنه جلوس في حضنه الحنون ليُشبِع وجودنا الزائل، من وجوده الأزلي والأبدي…
ألا يستحق ذلك فرح عظيم؟

وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك: “الله يراني”. هذا ما اختبره الأخ الطوباوي، اسطفان نعمة. وهذا ما علينا أن نختبره يوميًا في كل حياتنا، وخاصة في زمن الصوم…

المجد والحمد والتسبيح والشكران، لكَ أيها الربّ يسوع المسيح. لأنّك بصومك تدعونا لنقتدي بك ونصوم مثلك. تدعونا إلى أن نقوم عن الرماد الذي يرمز إلى الموت، لنجلس بحضن الله الآب أبينا، لننال منه الحبّ والحياة… الحمد والمجد والشكر لك…

👈 مرّة التقى الربّ بثلاثة اشخاص صائمين. سأل الأول لماذا أنت صائم؟ اجابه خوفًا من نار جهنم.
وسأل الثاني… أجابه، لاربح الجنّة.
وسأل الثالث… أجابه حبًّا بالله! قاله له مبارك صومك. وأنا ما هو دافع وغاية صومي❓

👈 صلاة القلب ❤

يا ربّي يسوع، املأني من روحك القدوس، ليقود مسيرة صومي.

يا ربّي يسوع، اجعل صومي مثل صومك… صوم مبارك. 🕯 🙏

وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح