🌷🌿🌷
تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لحوار المسيح مع الأعمى (يوحنا ٩: ٢٦-٤١) {نور البصر ونور البصيرة}
“فقالوا له أيضًا:
ماذا صنع بك؟
كيف فتح عينيك؟” [26]
عادوا لاستجوابه بطريقة أخرى لعلهم يجدون في إجابته ما يناقض ما سبق فقاله، فيجدون علة على السيد المسيح. أرادوا أن يسألوه عن كيفية تفتيح عينيه لعله استخدم طريقة شيطانية. أما الشاب فضاقت نفسه من أسلوبهم غير اللائق، فلم يجب عليهم، بل رد السؤال بسؤال إن كانوا يريدون أن يتتلمذوا له، حاسبًا نفسه أنه تلميذ يسوع.
“أجابهم: قد قلت لكم ولم تسمعوا،
لماذا تريدون أن تسمعوا أيضًا؟
ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟” [27]
جاءت إجابته تحمل روح الصراحة والشجاعة والشهادة الحية للسيد المسيح، كما جاء سؤاله لهم فاصلاً أن يختاروا أحد أمرين: التلمذة للسيد المسيح كما يتتلمذ هو على يديه، أو وقف الحوار معه. فإنه ليس من مجالٍ للحوار.
ماذا كانت إجابته؟ إذ غلبهم وأسقطهم لم يعد يتحدث في خضوعٍ لهم. إذ كان الأمر يحتاج إلى سؤال وحوار تحدث معهم بحذرٍ حتى يأتي بالبرهان. وإذ غلب ونال نصرة فائقة تشجع ووطأ عليهم.
ألا ترون كيف يتحدث شحاذ بجرأة أمام الكتبة والفريسيين؟ هكذا الحق قوي والباطل ضعيف. إذ يتمسك أناس عاديون بالحق يصيرون ممجدين، أما الباطل وإن استخدمه أقوياء يصيرون ضعفاء.
وما قاله هو هذا: “إنكم لم تلتفتوا إلى كلماتي، لهذا لا أعود أتكلم وأجيبكم بعد، إذ تسألونني بلا هدف، ولا ترغبون أن تسمعوا لتتعلموا، وإنما لكي تسيئوا إلى كلماتي.
بقوله: “ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟” رتب نفسه في صف تلاميذ السيد المسيح، لأن قوله هذا واضح أنه صار تلميذًا للسيد المسيح. عندئذ سخر بهم وضايقهم جدًا. فإذ كان يعلم هذا يضرب بهم بشدة. قاله لهم، لكي يوبخهم بقسوة شديدة. هذا عمل نفس شجاعة تحلق في الأعالي، وتحتقر جنونهم، وتشير إلى عظمة هذه الكرامة (للتلمذة له)، إذ كان واثقًا جدًا، وأظهر لهم أنهم يشتمون من هو مستحق للإعجاب، لكنه لا يبالي بشتيمتهم إليه بل ما يقدمونه توبيخًا هو كرامة له. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
ماذا يعني قوله: “ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟” فمن جهتي أنا قد صرت فعلاً هكذا، أتريدون أنتم أيضًا؟ إنني الآن أرى، أرى بدون ارتياب. (القديس أغسطينوس)
“فشتموه وقالوا:
أنت تلميذ ذاك،
وأما نحن فإننا تلاميذ موسى”. [28]
إذ لم يستطيعوا مقاومة الحق لجأوا إلى لغة الشتيمة. وهذا ما يتوقعه كل من يلتصق بالحق. يقول السيد المسيح: “طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم، وقالوا عنكم كل كلمة شريرة، من أجلي كاذبين” (مت ٥: ١١). حملوا قلبًا مملوء بالكراهية ضد الحق الإلهي، قتالاً، فخرجت كلماتهم كطعن السيف (أم ١٢: ١٨؛ مز ٥٥: ٢١).
في استخفاف قالوا له: “أنت تلميذ ذاك”. إذ لم يكن بعد قد رآه، ولا سمع لعظاته، لكنهم حسبوه تلميذه لأنه يشهد له، أما هو فكان يعتز بأن يكون تلميذه.
كانوا يفتخرون بعلاقتهم بموسى النبي كمعلمٍ لهم، فلا يحتاجون إلى معلمٍ آخر، ولا يطلبون ذلك. سبق أن افتخروا أمام السيد المسيح أنهم أبناء إبراهيم، والآن يعتزون بأنهم تلاميذ موسى، مع أنهم كانوا بأعمالهم وفكرهم غرباء عن إبراهيم وعن موسى. لو كانوا بحق أبناء إبراهيم لرأوا معه يومه وتهللوا (يو ٨: ٥٦). ولو كانوا بالحق تلاميذ موسى لالتصقوا بالسيد المسيح الذي تنبأ عنه موسى، عوض مقاومتهم له.
“نحن نعلم أن موسى كلمه الله،
وأما هذا فما نعلم من أين هو”. [29]
كأنهم يقولون: إننا متأكدون بأن خدمة موسى إلهية، لكن ليس لدينا أي دليل على أن هذا الشخص مدعو للخدمة، فكيف نترك موسى ونتبع شخصًا مجهولاً، غريبًا عن الخدمة الإلهية؟ قدموا ما يبرر اعتزازهم بموسى كمعلم لهمٍ، أن الله كلَّمه، ولم يدركوا أن يسوع هو كلمة الله نفسه المتأنس. موسى كان العبد الأمين المؤتمن على بيت سيده، أما يسوع فهو الابن الوحيد الجنس صاحب البيت (عب ٣: ٥، ٦) الذي يخدمه موسى.
في سخرية قالوا: “وأما هذا فما نعلم من أين هو” [٥٩]. حقًا لم يعلموا وما كان يمكنهم أن يعرفوا من أين هو ما لم يفحصوا أسفار العهد القديم بنية صادقة، ويطلبون من الله أن يكشف لهم عن شخصه. لو فحصوا لأدركوا أنهم في الزمن الذي يأتي فيه المسيا المنتظر، لكنهم كآبائهم في عصر إرميا النبي الذين “لم يقولوا أين هو الرب” (إر ٢: ٦).
لم يقولوا نحن سمعنا أن موسى كلمه الله” إنما قالوا “نحن نعلم” [٢٩]. أيها اليهود، هل أنتم متأكدون مما سمعتموه، إذ تعلمون هذا، بينما تحسبون ما ترونه أقل ثقة مما تسمعونه؟ واحد لم ترونه بل سمعتم عنه، والآخر لم تسمعوه وإنما رأيتموه. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
أهكذا تتبعون العبد وتعطون القفا للرب؟ فإنكم بهذا لستم تتبعون العبد، لأنه هو نفسه يقود إلى الرب. (القديس أغسطينوس)
“أجاب الرجل وقال لهم:
إن في هذا عجبًا،
أنكم لستم تعلمون من أين هو، وقد فتح عيني”. [30]
دُهش الأعمى لإحساسهم بأن يسوع غريب عن الخدمة الإلهية، وقد فعل ما لم يفعله موسى النبي، تفتيح عيني إنسان مولود أعمى. لقد عرفت المدينة كلها بالمعجزة، لأنه كان يستعطي وكثيرون من كل نواحي المدينة رأوه وتيقنوا أنه أعمى طول الماضي، وها هو يقف ويسير شاهدًا بعمل السيد المسيح الفائق.
إن كان الأعمى قد وجد عجبًا في يسوع لأنه فتح عينيه بل وخلقهما برعايته وسلطانه الفائق، والآن يجد عجبًا في هؤلاء القادة العميان أنهم يجلسون على كرسي القضاء ولا يرون الحق الواضح، مع أنه قدم الحقائق التالية:
فتح يسوع عينيه، هذه حقيقة عملية لا يمكن إنكارها.
الله لا يسمع للخطاة (مز ٦٦: ١٨)، بينما هم يقولون أنهم يعلمون بأن هذا الإنسان خاطئ.
الله يسمع للأتقياء الذين يعملون إرادته.
لم نسمع في تاريخ العالم أن أحدًا فتح عيني مولود أعمى، لم يقم حتى موسى بمثل هذا العمل.
إن كان يسوع ليس من عند الله كأنه بلا قوة.
هكذا نصبوا الفخ فوقعوا هم فيه.
“ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة،
ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع”. [31]
جاءت كلمة خطاة هنا في اليونانية hamartooloon لتعني الوثنيين غير المؤمنين يقابلها كلمة theosebees لتعني المتعبد لله. الله لا يسمع لمن يطلب بفمه أن يخلص بينما بقلبه وسلوكه مصمم على الالتصاق بالشر والتلذذ به.
هنا أظهر ليس فقط أنه بلا خطية، وإنما أعلن أنه موضع سرور الله جدًا، ويعمل إرادته. فإذ دعوا أنفسهم “عابدي (متقي) الله” أضاف “ويعمل مشيئته”. كأنه يقول: “إنه لا يكفي أن يعرف الناس الله بل يلزمهم أن يعملوا مشيئته”. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
بعيني الإيمان ترون هذا الأعمى إنه أعمى أيضًا (بالقلب) إذ تسمعونه يخطئ. سأخبركم فيمَ أخطأ هذا الأعمى.
أولاً إنه ظن في المسيح أنه نبي، ولم يعرف أنه ابن الله. لذا نسمعه يجيب من خلال خطأه، إذ قال: “نحن نعلم أن الله لا يسمع للخطاة” [٣١].
إن كان الله لا يسمع للخطاة، فأي رجاء لنا؟
إن كان الله لا يسمع للخطاة، فلماذا نصلي، ونعترف بسجل خطيتنا بالقرع على الصدر؟
أيضًا أين ذلك العشار الذي صعد مع الفريسي إلى الهيكل (لو ١٨: ١٠)، وبينما كان الفريسي منتفخًا مستعرضًا استحقاقاته الذاتية، وقف بعيدًا وبعينين متطلعتان نحو الأرض وقارعًا صدره معترفًا بخطاياه، نزل هذا الإنسان المعترف بخطاياه من الهيكل مبررًا أكثر من الفريسي؟
إذن بالتأكيد يسمع الله للخطاة. لكن الذي نطق بهذه الكلمات لم يكن بعد قد غسل وجه قلبه في سلوام.
لقد عبر السرّ أمام عينيه، لكن لم يتأثر القلب ببركة النعمة.
متى غسل هذا الأعمى وجه قلبه؟ عندما جاء إليه الرب نفسه بعد أن طرده اليهود. إذ وجده وقال له: “أتؤمن بابن الله؟” أما هو فقال: “من هو يا سيد لأؤمن به؟” لقد رآه فعلاً بعينيه فهل رآه بقلبه؟ لا، لم يكن بعد قد رآه بقلبه. انتظروا فإنه سيراه…
أجابه يسوع: “الذي يتكلم معك هو هو” [٣٧]. هل شك؟ لا، فقد غسل وجهه.
لقد تكلم مع “سلوام” التي تفسيرها “المُرسل”. من هو المُرسل إلاَّ المسيح؟… هو نفسه سلوام. اقترب إليه الرجل الأعمى بقلبه، لقد سمع وآمن وسجد، غسل وجهه فرأى. (القديس أغسطينوس)
في الخروج أيضًا الكهنة الذين يقتربون إلى الرب الإله يلزمهم أن يتقدسوا لئلا يتركهم الرب (خر ١٩: ٢٢). وأيضًا الذين يقتربون إلى مذبح القدوس للخدمة لا يجلبوا معهم خطية لئلا يموتوا (خر ٢٨: ٤٣). (الشهيد كبريانوس)
إذ نضع هذه الأمور أمام أعيننا فبكل حرص وتقوى نهتم بذلك في سيامة الأساقفة، فيلزمنا أن لا نختار أحدًا إلا الكهنة الذين بلا عيب والمستقيمين الذين يقدمون ذبائح الرب بقداسة واستحقاق أمام الله. هؤلاء قادرون أن تُسمع صلواتهم هذه التي يقدمونها من أجل سلامة شعب الرب. (الشهيد كبريانوس)
“منذ الدهر لم يسمع أن أحدًا فتح عيني مولود أعمى”. [32]
منذ بدء الأزمنة، قبل عصر الآباء والأنبياء لم يُسمع قط أن أحدًا ما – حتى موسى – قد فتح عيني مولود أعمى.
“لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا” [33].
قدم الأعمى نتيجة صادقة، وهي أنه لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا، لأنه ينبوع كل صلاح. ليس من صلاح يمكن أن يتحقق بدونه.
“أجابوا وقالوا له:
في الخطايا وُلدت أنت بجملتك،
وأنت تعلمنا.
فأخرجوه خارجًا”. [34]
كأنهم يقولون له: “ها أنت قد نلت جزاءً عادلاً، فجئت إلى العالم مشوهًا، بلا عينين، بسبب خطاياك السابقة، ولا تستحق أن تشارك المؤمنين عبادتهم لله، فكيف تمارس دور المعلم للقادة؟ ثم أصدروا أمرًا بحرمانه من الشركة في العبادة لله. إذ لم يكن لديهم القدرة على الرد عليه، استخدموا سلطانهم بحرمانه وطرده.
احتقروه وأهانوه قائلين: إنك لست مثل كل إنسان مولود بالخطية، وإنما “أنت بجملتك ولدت في الخطايا”. أنت فاسد تمامًا، تحمل الفساد في نفسك كما في جسدك، وها هي علامات الفساد قد انطبعت عليك بتشويه جسدك وحرمانك من البصر، هوذا الطبيعة نفسها قد وسمته بالفساد. ولعلهم حسبوا فقره الشديد واستعطائه علامة من علامات الغضب الإلهي عليه بسبب خطاياه.
استخفوا بكلماته وهم في دهشةٍ: كيف يقف هذا الغبي الأمِّي الذي يجهل حتى نور الشمس إذ لم يره من قبل والذي يجلس يستجدي أن يحتل مركز المعلم بالنسبة لقادة الفكر والعلم؟
في كبريائهم رفضوا التعلم خاصة ممن هم أقل منهم رتبةً أو علمًا. مع أن الإنسان الصالح لن يأنف من أن يتعلم كل يوم حتى آخر نسمة من نسمات حياته. يستطيع أن يتعلم حتى من الأطفال الصغار. رفض التعليم هو الغباوة عينها والجهالة!
إذ اقترب جدًا من ضمائرهم لم يحتملوه بل طردوه، ولعلهم طلبوا من الخدم أو الحرس أن يخرجوه ولو بالقوة.
إذ عجز القادة المتعلمون عن الحوار في تشامخ أصدروا الحكم بطرده خارجًا. أخرجوه خارج لكنهم لم يعزلوه عن الشركة مع المسيح. ظنوه غير أهلٍ للعضوية الكنسية اليهودية، ولم يدركوا أنه يتأهل للعضوية في جسد المسيح.
لم يدركوا أنهم بهذا ترتد عليهم الإهانة، فإنه إن كان حسب فكرهم قد وُلد بجملته في الخطايا لأنه وُلد أعمى، فها هو قد بريء من العمى، فيكون من شفاه قادر على نزع الخطايا وإزالتها؛ وهذا من عمل الله.
سُجلت هذه الأمور لكي نقتدي بها.
الرجل الأعمى، الشحاذ، الذي لم يكن بعد قد رأى السيد وقد أظهر جرأة باستقامة قبل أن يشجعه المسيح، ووقف في وجه كل القتلة الممسوسين من الشيطان، الثائرين، الذين أرادوا بكل وسيلة أن يدينوا المسيح. فإنه لم يخضع لهم ولا أعطاهم القفا بل بجرأةٍ أبكم أفواههم، مفضلاً بالأحرى أن يُطرد خارجًا عن أن يخون الحق.
كم بالأكثر يليق بنا نحن الذين نعيش زمانًا طويلاً في الإيمان ورأينا ربوات المعجزات تتم بالإيمان، وتقبلنا بركات أعظم مما نالها هو، إذ انفتحت أعيننا الداخلية، وتعرفنا على إسرارٍ لا توصف، ودعينا إلى كرامة عظيمة كهذه، أقول كم يلزمنا أن نظهر جرأة في الحديث مع الذين يتهمون المسيحيين، ونبكم أفواههم دون أن نخنع في ضعف.
يمكننا أن نفعل ذلك إن كانت لنا جرأة، وكنا مهتمين بالكتب المقدسة ونسمعها بغير إهمالٍ. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
ماذا يعني “بجملتك” هنا؟ حتى إلى عمى العينين.
لكن ذاك الذي فتح عينيه قد خلصه أيضًا بجملته، إنه سيمنحه القيامة عن يمينه ذاك الذي أنار ملامحه.
عندما طردوه استقبله الرب، فإنه قدر ما طرد صار مسيحيًا. (القديس أغسطينوس)
حوار بين المسيح والأعمى
“فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا،
فوجده وقال له:
أتؤمن بابن الله؟” [35]
واضح أن السيد المسيح كان كمن يبحث عنه ليجده. وجده حين طرده الفريسيون، وحرموه من حقه كعضوٍ في شعب الله. وربما خشي والداه من إيوائه لئلا يكون مصيرهم كمصيره. وجده إله المطرودين والمرذولين وأب الأيتام وقاضي الأرامل، والمهتم بمن ليس لهم من يسأل عنه.
قوله: “أتؤمن بابن الله؟” يعادل القول: “أتؤمن بالمسيا”، لأن هاتين السمتين لا تنفصلان (يو ١: ٣٤، ٤٩؛١٠: ٣٦؛ مت ١٦: ١٦؛ مر ١: ١).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح وقد رأى في الأعمى حبه للحق وشجاعته وهبه الشوق إليه قبل أن يعلن ذاته له. هكذا كل من يطلب الحق في جدية ولا يخشى الباطل يجتذبه الحق إليه بالحب ثم يعلن ذاته له.
الذين يعانون من الأمور المرعبة والشتائم بسبب الحق والاعتراف بالمسيح هؤلاء يكرمون على وجه الخصوص…
لقد أخرجه اليهود خارج الهيكل، ورب الهيكل وجده.
لقد عُزل من الصحبة المهلكة، والتقى بينبوع الخلاص.
أهانه الذين أهانوا المسيح، فكرمه رب الملائكة.
هكذا هي مكافآت الحق.
ونحن أيضًا إن تركنا ممتلكاتنا في هذا العالم نجد ثقة في العالم العتيد.
إن صرنا هنا في ضيق نجد راحة في السماء، وإن شُتمنا من أجل الله نُكرم هنا وهناك. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“أجاب ذاك وقال:
من هو يا سيد لأومن به”. [36]
واضح أنه لم يره من قبل، وإن كان قد سبق فسمع صوته عندما أمره بالذهاب إلى بركة سلوام ليغتسل. لقد أكتشف أنه هو الذي شفاه فآمن به.
لم نسمع عن حوارٍ تم بين السيد المسيح والأعمى قبل شفائه، كما حدث مع مفلوج بيت حسدا. يبرر البعض ذلك بأن الأعمى لم يكن بعد قد رأى المسيح، وربما بسبب فقره الشديد وانشغاله بالاستعطاء لم يتحدث معه أحد عن السيد المسيح وأعماله الفائقة. لهذا لم يقل له السيد: “أتريد أن تبرأ؟” كما قال للمفلوج. حينما حُرم الأعمى من الصداقات البشرية وعانى من الشعور بالنقص كما بالشعور بالعزلة، جاءه السيد المسيح يشبع احتياجاته، ويملأ أعماقه بالحب الإلهي.
يؤكد البعض عدم إيمان الأعمى ليس عن عمدٍ، وإنما عن عدم وجود فرصة للسماع عنه والالتقاء به. لهذا بعدما شفاه السيد، وبعد حوارات كثيرة تمت حوله وبعد طرده خارجًا وجده يسوع وسأله: “أتؤمن بابن الله؟” [٣٥]، وجاءت إجابته تكشف عن شوقه للإيمان: “من هو يا سيد لأومن به؟” [٣٦].
قال الأعمى للسيد المسيح: “من هو يا سيد لأومن به”، لأنه لم يكن بعد قد عرفه على الرغم من أنه قد استمد منه الشفاء، لأنه كان ضريرًا قبل أن يجيء إلى المحسن إليه. ولم يقل الأعمى للسيد المسيح في الحال “أؤمن”، لكنه خاطبه على سبيل السؤال، فقال له: “من هو يا سيد لأؤمن به؟” هذا قول نفس تائقة مبتغية إياه جدًا. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“فقال له يسوع:
قد رأيته،
والذي يتكلم معك هو هو”. [37]
لا يحتاج أن يذهب الإنسان بعيدًا ليلتقي معه، فإنه قريب جدًا. وكما يقول الرسول بولس: “لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء، أي ليحدر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية، أي ليصعد المسيح من الأموات، لكن ماذا يقول: الكلمة قريبة منك” (رو ١٠: ٦-٨).
فتح السيد المسيح عينيه لكي ينظر إليه الأعمى ويراه. إن كان تفتيح العينين قد أبهجا هذا الأعمى، فإن رؤيته لابن الله أعظم جدًا من تمتعه بالعينين الجسديتين. رؤيته لابن الله أبهجت قلبه أكثر من كل أنوار العالم. وها نحن بالإيمان نتمتع بالبصيرة الداخلية، فننعم برؤية السيد المسيح، وندرك سرّه كابن الله الوحيد الجنس. حقًا يستطيع أن يترنم مع المرتل قائلاً: “بنورك يا رب نعاين النور” (مز ٣٦: ٩).
“فقال أومن يا سيد وسجد له”. [38]
بقوله “أؤمن” عني “أؤمن أنك المسيا”، مقدمًا دليلاً على صدق إيمانه، أنه سقط وسجد أمامه. لم يره من قبل، ووجد مقاومة شديدة ضده من السلطات الدينية، لكنه إذ اختبر بنفسه تفتيح عينيه آمن بلاهوته وسجد له، ممجدًا إياه كمخلصٍ له. لقد انفتحت بصيرته الداخلية، وتعرف على أسرارٍ إلهية لم يكن ممكنا لأعضاء مجمع السنهدرين أن يدركوها ويؤمنوا بها.
آمن الأعمى واعترف بالسيد المسيح، ولم يكن محتاجًا إلى حوارٍ، إذ تمتع بعمله الإلهي العجيب وبالبصيرة الروحية. ًآمن بقلبه واعترف بلسانه أمام الرب والناس، حتى أمام المقاومين. هكذا صارت القصبة المرضوضة شجرة مغروسة على مجاري الروح مملوءة ثمرًا.
“سجد له”، إذ لم يقدم له تكريمًا كما لإنسان ليعبر عن شكره له، لكنه قدم له سجودًا لائقًا بالعبادة لله. هكذا عبَّر عن إيمانه بالشهادة العلنية دون خوف، والعبادة لله بروح التواضع. لم يروِ لنا الإنجيلي يوحنا لنا شيئًا عن هذا الأعمى بعد هذا السجود، إنما ما هو واضح من قول السيد أنه صار مبصرًا، يتبع النور ويحيا فيه.
سجد الأعمى أمام السيد المسيح، غالبًا في حضرة الفريسيين؛ عندئذ قدم السيد المسيح أمامهم تعليقًا عما تثمره خدمته الإلهية في هذا العالم. ويظن البعض أن هذا الحديث جاء في لقاء آخر مع الفريسيين ليس بعد سجود الأعمى مباشرة.
جاء إلى العالم كمخلصٍ وليس كديانٍ، لكن إذ يرفض الأشرار غير المؤمنين عمله يسقطون تحت الدينونة. خدمته الإلهية أقامت من البشرية فريقين: فريق يعترف بعماه فيؤمن ويقبل النور، وآخر يظن أنه مبصر فيرفض الإيمان ويبقى في ظلمته، وتصير أعمال المسيح دينونة عليهم. هكذا ينقسم العالم إلى مؤمنين وغير مؤمنين، وهذا هو الخط الواضح في أكثر أحاديث السيد المسيح في هذا السفر. صارت أعمال المسيح الخلاصية أو إنجيله حياة لحياة، ويحمل رائحة موت لموت. أشرق على الأمم نور عظيم يهبها حياة وأطلقها من الأسر (إش ٦١: ١)، وأصيب إسرائيل في كبريائه بالعمى فألقي بنفسه في دائرة الموت.
الآن في النهاية بوجهه الذي اغتسل وضميره الذي تطهر عرفه ليس فقط ابن الإنسان كما اعتقد قبل ذلك، بل ابن الله الذي أخذ جسدنا. “فقال: أومن يا رب”… (القديس أغسطينوس)
حوار بين المسيح والفريسيين
“فقال يسوع:
لدينونة اتيت أنا إلى هذا العالم،
حتى يبصر الذين لا يبصرون،
ويعمى الذين يبصرون”. [39]
إنها لحظات عجيبة شدت أنظار الواقفين، سواء التلاميذ أو الجموع أو بعض الفريسيين، فقد سجد الأعمى عند قدمي ربنا يسوع يعلن إيمانه به أنه ابن الله. أقول أنه مشهد سحب أنظار السمائيين وهم يرون إيمان هذا الإنسان الصادق مع نفسه ومع مقاومة أعلى درجات القيادة الدينية للحق. إنه منظر يفرح قلب السيد المسيح، ليس لاحتياجه إلى من يشهد له، ولكن لأنه يود أن يتمتع الكل بالنور السماوي.
لقد سبق فأعلن السيد أنه ما جاء إلى العالم ليدينه بل ليخلصه (يو ٣: ١٧). لكنه إذ يشرق بنوره على الجالسين في الظلمة بنوره يصير المستنيرون علة دينونة للذين أحبوا الظلمة أكثر من النور (يو ٣: ١٩). إنهم يدينون أنفسهم بأنفسهم، لأنهم حتى يتعثرون ويسقطون في الحفرة، إذ هم “عميان قادة عميان” (مت ١٥: ١٤).
نال الأمم الذين جلسوا في الظلمة زمانًا نور المعرفة والبصيرة الحقيقية. أما اليهود الذين تظاهروا أنهم أبناء النور وأصحاب المعرفة الروحية، وأساءوا استخدام طول أناة الله ورحمته، ففقدوا خلاصهم الذي رذلوه، وأصابهم عمى روحي. استطاع الأعمى الأمي أن يتعرف على أسرار إلهية، بينما الفريسيون أصحاب المعرفة جهلوا هذه الأسرار. لم يقرأ الأعمى الكتاب المقدس، ربما سمع في بساطة وإخلاص بعض العبارات الكتابية والقصص الخاصة بتاريخ الخلاص. أما هم ففحصوا الكتب وحفظوا عبارات عن ظهر قلب وتمسكوا ببعض التفاسير، لكن عملهم هذا لم يكن عن إخلاص في معرفة الحق، لذا لم يتأهلوا لإدراك الأمور الواضحة عن المسيا.
سرّ عماهم أنهم يظنون في أنفسهم أنهم مبصرون: يعرفون موسى وأنهم تلاميذ له، يعرفون السبت ويحفظون شريعته، كما يعرفون أن الأعمى قد وَلد بجملته في الخطية.
تحذير خطير! يبصر الذين لا يبصرون [٣٩]،
حسنًا! إنه عمل المسيح، إعلان قوة الشفاء!
ولكن ما هذا الذي تضيفه يا رب؟ “يعمى الذين يبصرون” [٣٩]؟ إنهم اليهود. هل يرون؟ حسب كلماتهم إنهم يبصرون؟ وبحسب الحق لا يبصرون.
ماذا إذن “يبصرون”؛ إنهم يظنون أنهم يبصرون، يعتقدون هذا. إذ ظنوا أنهم يصونون الناموس ضد المسيح… هؤلاء الذين لا يعترفون بعماهم تقسوا بالأكثر… بالحقيقة قد تم القول “يعمى الذين يبصرون”، فإن المدافعين عن الناموس، الأساتذة في الناموس، معلمي الناموس، فاهمي الناموس، صلبوا واضع الناموس.
يا للعمى الذي حصل جزئيا لإسرائيل (رو ١١: ٢٥). ماذا يعني “يبصر الذين لا يبصرون”؟ “إلى أن يدخل ملء الأمم” (رو ١١: ٢٥). كل العالم قد سقط في العمى، لكن جاء لكي “يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون”…
يا للعمى الخطير؟ لقد قتلوا النور، لكن النور المصلوب أنار العميان.
الآن إنه اليوم الذي يميز بين النور والظلمة!
لقد تسلمتم الناموس، وأنتم تريدون أن تحفظوه، لكنكم عاجزون عن ذلك؛ لقد سقطتم من الكبرياء فتروا ضعفكم. اشتاقوا إلى المسيح. اعترفوا له، آمنوا به. لقد أضيف الروح إلى الحرف فتخلصون. فإنك إن نزعت الروح عن الحرف “الحرف يقتل”. وإن قتل، فأين الرجاء؟ “أما الروح فيحيي” (٢ كو ٣: ٦). (القديس أغسطينوس)
يقارن القديس أغسطينوس بين الحرف والروح، فيرى في الحرف عصا اليشع التي سلمها لتلميذه جيحزي حين كان ابن الأرملة ميتًا، لكن لم يقم الميت إلاَّ بحضور اليشع نفسه. هكذا مع نفع الناموس الذي تسلمناه من الله نحن في حاجة إلى حضور الله نفسه، فنتمتع بقوة القيامة.
“فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين وقالوا له:
ألعلنا نحن أيضًا عميان؟” [40]
أدرك الفريسيون أنه يتحدث عن العمى الروحي، فسألوه إن كان يقصدهم بهذا. وقد صدر سؤالهم عن نفوس متكبرة لا تقدر أن تتمتع بغنى نعمة الله.
ما يشغل ذهن الفريسيين هو كرامتهم أمام الناس، والظهور كأصحاب معرفة، يحتلون كراسي التعليم. حسبوا اتهامهم بالعمى بسبب عدم رغبتهم في التعلم هو أشبه بضربة قاتلة. بقولهم: “ألعلنا نحن أيضًا عميان؟” يكشفون عما في أعماقهم، فهم يحسبون الشعب ككل عميانًا أما من يضمهم يسوع مع الشعب الأعمى فهذا ما لم يكن يخطر على بالهم. حسبوا هذا إهانة منه، وخطأ منه لا يغتفر، إذ لم يعتادوا أن يسمعوا كلمة نقد من أحدٍ قط.
قول الفريسيين للسيد المسيح “ألعلنا نحن أيضًا عميان؟” على نحو ما قالوا في غير هذا الموضع: “إننا ذرية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط؛ إننا لم نولد في زنى” (يو 8: 33، 41) هكذا قالوا الآن. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“قال لهم يسوع:
لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية،
ولكن الآن تقولون إننا نبصر، فخطيتكم باقية”. [41]
لو أنهم اعترفوا بجهلهم لما سقطوا تحت الحكم، لكن أفواههم تشهد عليهم، فقد ادعوا أنهم مبصرون، قادرون على إدراك الحق وتمييزه عن الباطل. ادعوا أنهم مبصرون، يرون الحق الإلهي ويفهمون الشريعة والنبوات، لذا أغلقوا على أنفسهم، وصارت خطيتهم باقية.
وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح
📖 كلمات من نور🕯
{نور البصر ونور البصيرة}
🌷🌿🌷
سمع يسوع أن الفريسيين طردوا الشاب الذي شفاه من العمى، فلقِيَه وقال له:” أتؤمن أنت بابن الإنسان؟”. أجاب وقال:”ومن هو يا سيّد فأومن به؟”. فقال له يسوع:”لقد رأيته، وهو الذي يكلمك”. فقال:”أنا أؤمن، يا ربّ”. وسجد له… (يو ٩ : ٣٥- ٣٨).
- عندما شفى يسوع الأعمى منذ مولده، اندهش، وأُعجِبَ بشخص يسوع. نور البصر الذي فاضه الربّ عليه، جعله يصل برؤيته إلى أقصى حدود الرؤية البشرية، أعترف أن يسوع نبيّ مُرسَل من الله. هذا أبعد حدّ تصل إليه نظرة عين الجسد.
- في اللقاء الأول خلق يسوع للأعمى نور البصر. وجعله يختبر إلى أي مدى ينيره نور العيون الطبيعية.
- وفي اللقاء الثاني، نقله يسوع إلى اختبار جديد، هو أن النور الطبيعي لا يجعله يرى وجه الله مباشرة بوجه يسوع، فهداه نور البصيرة وملأه من الروح القدس 🔥 فآمن وسجد له، وصار شاهدًا للنور.
المجدُ والحمدُ والتسبيح والشكران، لكَ أيّها الربّ يسوع المسيح. يا من تَجعلُنا نرى بِعين الجسد بَصماتِك في كل ما خَلقتَ وأبدَعَتَ بفيض مَحبّتِك ❤ الخلاّقة. المجدُ لك، لأنّك تُلهِبُ قلوبَنا بنارِ الشوق إلى رُؤيتِك بِنور الإيمان الغير المخلوق، وتهبُنا هذا النّور لنراك ونَعرِفَك، ونُعلنَ إيماننا بك ☝ ونسجد لك. لأنّنا برؤيتك تَكتَمِل حياتُنا، ويَمتلِئ فراغُنا، ونُصبح من أبناء النّور. الحمد والمجد والشكر لك…
👈 بأي نور انظر إلى يسوع لأعرفه، نور عيني الجسد، أم نور عيني الروح، الذي هو الإيمان❓
👈 صلاة القلب ❤
يا ربّ وإلهي يسوع المسيح، يا من أنرتَ عيني بالنور المخلوق، أروي بصيرتي بنور الإيمان.
يا ربّ وإلهي يسوع المسيح، هبني نعمة الّلقاء بك عبر كلمتك 📖 والفقراء إخوتك…
يا ربّ وإلهي يسوع المسيح، أنا أؤمن بك ☝ وأعبدك 🕯 وأسجد لك. 🛐
👈 نيّة اليوم: يا من أنرت عيني الأعمى، وملأت قلبه وفكره وكل كيانه بنورك الأزلي. نوِّر بصر وبصيرة كل إنسان، لنراك بعين الإيمان، ونصغي بشغف إلى كلمتك 📖 ونسجد لك، ونعبدك.🛐
يا يسوع أنرني بنور دنحك. 🕯