كلمة النائب آلان عون – جلسة مناقشة الموازنة 2020
دولة الرئيس،
دولة رئيس الحكومة،
قد تكون تلك الجلسة تنعقد في أصعب الظروف التي ممكن لنائب أن يشارك أو يتكلّم فيها، لأن أخطر ما يحصل اليوم هو أن لغة الحوار فقدت مع الشارع والمعترضين، ولغة الإصغاء لاقت المصير نفسه.
رغم ذلك, من الضروري المحاولة لعلّه يمكن للكلام أن يكون له وقعّ ويخرق جدران الأحقاد وعدم الثقة والرفض الكامل لكل الطبقة السياسية التي ذهب ضحيتها الصالح بضهر الطالح.
نجتمع اليوم لنناقش موازنة كان متأمّلاً لها أن تكون سابقة وإنجاز من خلال تصفير العجز كما خرجت من الحكومة السابقة في ايلول الماضي، فإذا بالواقع كما الوقائع تنسف كل الإيجابيات والتفاؤلات وتعيدنا الى موازنة مع عجز كبير (بسبب إنخفاض توقّعات الإيرادات) جهدت لجنة المال والموازنة مشكورة كالعادة لتخفيضه ونجحت نسبياً بذلك فحجّمته وخفَفت من أضراره الجسيمة ولكن بقي أمامنا عجزّ متوقَع سيكون لنا مشكلة كبيرة في تمويله.
أقول هذا الشيء لأننا علينا أن ندرك أن ما قمنا به من تخفيضات في الإنفاق أكان في موازنة 2019 أو موازنة 2020 بلغ حدود قصوى في تقليص نفقات التشغيلية والإستثمارية للدولة ورغم ذلك نواجه عجز سيفاقم دين الدولة ويغرقنا أكثر وأكثر في الدوّامة القاتلة التي أهلكت إقتصادنا وإكتشفنا اليوم أنها تستنزف مدخّرات وجنى عمر اللبنانيين التي أصبحت في دائرة القلق على مصيرها لأنها تستعمل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لتمويل نفقات الدولة.
أنا أفهم أن الدولة تتموّل من ضرائب يدفعها المواطنون لتغطية نفقاتها وهذا طبيعي جدّاً إنما عندما يصبح تمويل الدولة يستنزف أصول ودائع اللبنانيين في المصارف ومن دون إستإذانهم، فهي بذلك تتجاوز خطوط حمراء!
هذه حقائق أنا مضّطر أن أتكلّم عنها ولو كنت أعرف بتفاصيلها قبلاً لكنت طبعاً أثرتها في مناقشات الموازنات السابقة ولكنني كنت كمعظم اللبنانيين مسحوراً بنظام مالي إعتقدناه نظاماً صلب كالحجر فإذا به يتحوّل من ليلة الى ضحاها الى نظام ركيك كالورق!
لا أقصد بما أقوله أن المصارف اللبنانية ليست جيّدة وهي كانت وستبقى من الأفضل في المنطقة ويمكنها أن تستعيد ثقة الناس بها وتستعيد دورها المحرّك للإقتصاد، أنما هذا سيتطلّب أولاً الإعتراف بالمسؤولية المشتركة مع السياسيين في إيصال الواقع المالي الى ما هو عليه وثانياً سيتطلّب منها الإنخراط بالخطة الإنقاذية وإجراءاتها وتحمّل حصتها من الخسائر التي حصلت.
لماذا يتحمّل النظام المصرفي بركنيه (مصرف لبنان والمصارف الخاصة) المسؤولية؟ لأن من واجبه أن يأخذ كل الإحتياطات والضمانات اللازمة قبل السماح للدولة بهذا الحجم اللا مسؤول من الإستدانة من دون أي ضوابط، وقبل المغامرة بتوظيف ودائع الناس بتوظيفات فوائد مغرية تبيّن أنها تستنزف لتمويل إنفاق غير مسؤول للدولة اللبنانية…. ولو دقّ ناقوس الخطر قبل سنوات قليلة الى الوراء وإتّخذت إجراءات صارمة كما يأخذ اليوم، كنّا بوضع أفضل بكثير على مستوى الإحتياط الموجود والسيولة…. وكنا على الأقل أجبرنا على تخفيض نفقات الدولة وعلى تصحيح النموذج الإقتصادي وتخفيض الميزان التجاري ولو قسراً تماماً كما يحصل اليوم إنما بوضع مالي ونقدي أفضل بكثير.
مشاركة النظام المصرفي في المسؤولية لا تعفي المسؤول الأكبر وهم السياسيون وهي تحديداً الحكومات المتلاحقة التي لا ضبطت الإنفاق (لا بالعكس زادته)، ولا قامت بأي خطوة إصلاحية لتخفيض العجز وقد تصرّفت بشكل غير مسؤول دون أي رؤية حول ما ستؤول اليه الأمور متكّلة على مصرف لبنان الذي أفرط في تدليعها وما أدراكم من المثل الرائج:” من الحبّ ما قتل”….
الوقت الآن ليس للمحاسبة وسيأتي حينها لأننا اليوم كمجموعة أشخاص يغرقون في البحر. بدل أن يتشاجروا ويتراشقوا المسؤولية حول من أوصلهم الى الغرق، عليهم أن يتعاونوا لينقذوا أنفسهم ومن ثمّ سيكون لهم متسّع من الوقت للحساب.
إستهداف مصرف لبنان أو المصارف لا يفيد شيء بهذه اللحظة بل إشراكهم بتحمّل مسؤولياتهم لإخراجنا من الحفرة هو المطلوب الآن.
لا يجب أن يكون الهدف تهديم النظام المصرفي لأننا بحاجة اليه ولدوره لإعادة بناء إقتصادنا ولكن الهدف يجب أن يكون تغيير النموذج التمويلي القائم الذي جازف بالجميع فإذا بنا نكتشف أن الدولة ومصرف لبنان والمصارف الخاصة وودائع اللبنانيين كلهم بخطر في الوقت نفسه…
المطلوب هو تغيير هذا النموذج وتوزيع عبء الخسائر بطريقة نسبية وعادلة نسبة للمسؤولية وإعادة الواقع المالي الى ما كان عليه تدريجياً وإعادة هيكلة الدين بالتوازي مع ضبط العجز بشكل كلّي أو شبه كلّي، وإعادة تكوين الإحتياطي والودائع بشكل يعيد الإستقرار الى النظام المصرفي والطمأنينة الى المودعين والثقة الى المغتربين والمستثمرين.
هذا كلّه جزء من الخطة الإنقاذية المطلوبة والتي ستحتاج إلى خلّية أزمة إقتصادية دائمة بموازاة الحكومة يشارك فيها المسؤولون السياسيون المعنويون ومصرف لبنان وجمعية المصارف لأن إدارة الأزمة وشحّ السيولة وتحديد الأولويات لا يجب أن تحصل عند كل مصرف على حدة بل يجب أن تكون مجموعة بشكل مركزي وتتمّ إدارتها وفق لأولويات تضعها خلّية تملك الصورة الكاملة للوضع.
بالعودة الى شقّ الموازنة بالذات، كنت وجّهت في كلمتي خلال مناقشة الموازنة السابقة في تموز الماضي نداء الى كل الكتل للتفكير في ما يمكن أن نقوم به لتخفيض العجز ونبّهت أن تخفيض النفقات التشغيلية قد تمّ الى حدّ كبير وحتى لو توصلّنا الى تخفيض أكبر في ال2020 وهذا ما حصل، إنما هذا لن يكفي أبداً لمعالجة مشكلة العجز.
فالموازنة الى حد 80-85% منها مؤلفة من الثالوث المحرّم:
- الرواتب والتعويضات
- خدمة الدين
- الكهرباء
وحان الوقت لكي نفهم أنه لن نتمكّن من السيطرة على الدين أو تجنّب الإنزلاق الى الهاوية الكاملة إلا بالتطرّق الى إثنين على الأقل منها: خدمة الدين والكهرباء.
لا أولوية للحكومة المقبلة يجب أن تعلو فوق أولوية إعادة هيكلة الدين -بالتفاهم طبعاً مع الدائنين- لأنه لا يجب أن ندفع قرشاً واحداً لتسديد كلفة فوائد لفترة معيّنة، فبما تبقّى لنا من سيولة وأموال، هناك أولويات كثيرة لتأمين حاجات البلد من سلع أساسية لحياة اللبنانيين أبدى من أن تستعمل تلك الأموال لدفع فوائد.
وإعادة هيكلة الدين يحب أن تلحظ هذا الmoratorium على الفوائد وتحدّد مدّته وهي طبعاً مرتبطة بتقديراتنا للمدّة المطلوبة للتعافي المالي والإقتصادي.
النقطة الثانية هي في معالجة عجز الكهرباء المستعصي على كل العهود الوزارية وكل الخطط الموضوعة. فمتى يا ترى سنتمكّن من إطلاق المناقصات والبدأ بزيادة الإنتاج ولو بتقنية مؤقتة؟ ألا يستحقّ هذا الفشل في تنفيذ خطة الكهرباء بسبب التجاذبات السياسية (التي تتجاوز وزارة الطاقة) ثورة بحدّ ذاتها؟
هل ممكن إعطاء نموذج أفضل عن عجز وفشل وضرر هذا النظام السياسي التوافقي الذي يحوّل قطاعات وملفّات تنموية أسرى للعبة السياسية؟
مرّة جديدة، الوقت الآن ليس للندب وتراشق المسؤوليات بقدر ما هو لحسم هذا الملف وإنهاء الإستنزاف ليس لمالية الدولة فحسب بل لمدخّرات الناس في المصارف.
اللبنانيون لا يريدون منكم أن تخدعوهم بأنكم تدعمون سعر تعرفة الكهرباء وتوفّروا عليهم في ما أنتم حقيقة تموّلون خسارة مؤسسة كهرباء لبنان من أموالهم الخاصة وهذا كلفته أضعاف وأضعاف زيادة التعرفة المطلوبة.
ماذا ينتظر اللبنانيين هذه السنة؟
وضعنا مليار دولار فقط في الموازنة كسلفة للكهرباء. هذا يعني أننا سنذهب الى أحد الخيارين:
- إما زيادة التقنين لأن الدولة ليس بإمكانها إنتاج أكثر لأن ليس لديها فمن الفيول
- إما طلب سلفة إضافية لتغطية كلفة زيادة الإنتاج
في الحالة الأولى، سيزيد التقنين أي ستزيد كلفة فاتورة المولّدات على المواطنين
في الحالة الثانية، سيزيد عجز الموازنة أي مزيد من إستنزاف لودائع الناس في المصارف…
يجب أن يعرف اللبنانيين ان هذه الموازنة التي ستسجل 4.3 مليار دولار عجز (إن لم يكن أكثر) هذا يعني 4.3 مليار نقص في ودائعهم….
ممنوع أن يكون موازنة مع عجز ويجب أن نصارح اللبنانيين أن كل عجز تسجله الموازنة هو مزيد من الإستدانة من مصرف لبنان وهو إذن مزيد من إستنزاف لودائع المصارف اللبنانية لدى مصرف لبنان وهو إذن مزيد من الإستنزاف لودائع اللبنانيين لدى المصارف المحلية.
فلتذهب الحكومة الجديدة الى معالجة هذا الموضوع وإيجاد بدائل أكان من مؤسسات دولية أو دول صديقة ولكن فليعلم النواب والكتل السياسية أن أي عجز سيبقى هو مزيد من المجازفة بأموال الناس والحلّ هو في نموذج تمويلي جديد.