تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لصيد السمك والرمي بالعمق.. ( لوقا البشير ٥: ١-١١)
صيد السمك
في دراستنا لإنجيليّ القدِّيسين متّى (4: 18) ومرقس (1: 16-20) رأينا السيِّد المسيح في اختياره للتلاميذ يبدأ بهؤلاء الرجال الأربعة صيَّادي السمك الأميين: سمعان بطرس ممثِّل صخرة الإيمان، وأندراوس ممثِّل الجِدِّية والرجولة، ويعقوب ممثِّل الجهاد والتعقب المستمر، ويوحنا ممثِّل حنان الله ونعمته. اختارهم السيِّد ليكرزوا، لا بفلسفة العالم وحكمة هذا الدهر، وإنما بنعمة الله العاملة فيهم. قلنا أن هؤلاء الأربعة يمثِّلون الفرس الحاملة للكنيسة كمركبة الله المنطلقة نحو السماء، ألا وهي الإيمان مع الجدية، والجهاد المرتبط بنعمة الله وحنانه.
ورأينا أنه على ما يبدو أن هؤلاء الرجال كانوا في البداية يتبعون السيِّد، لكنهم على فترات متقطِّعة خلالها يعودون للصيد حتى صدر الأمر لهم نهائيًا بتبعيَّته، فتركوا كل شيء وتبعوه.
على أي الأحوال يقدِّم لنا معلِّمنا لوقا البشير لقاء السيِّد معهم وهم في غاية الإرهاق النفسي والجسدي، فقد تعبوا الليل كله ولم يأخذوا شيِّئًا [5]، وكأنه قد صدر أمرًا فائقًا ألا تدخل سمكة واحدة في شباك السفينتين طوال الليل حتى يأتي شمس البرّ، ربنا يسوع، ويدخل سفينة منهما، ويصدر أمره بالدخول إلى العمق في وسط النهار لتلقى شبكة كفيلة بصيدها أن تملاْ السفينتين.
إن تتبعنا هذا الحدّث كما ورد في إنجيل لوقا ندرك الآتي:
أولاً: “رأي سفينتين واقفتين عند البحيرة والصيَّادون قد خرجوا منهما وغسلوا الشباك” [2].
يقول القدِّيس أغسطينوس: [كان يوجد سفينتان، منهما دُعي تلاميذه (الأربعة)، وهما تشيران إلى الشعبين عندما ألقوا شباكهم وجاءوا بصيدٍ كثيرٍ، بسمكٍ كثيرٍ جدًا حتى كادت الشباك تتخرَّق… تشير السفينتان إلى كنيسة واحدة من شعبين اتَّحدا معًا في المسيح بالرغم من أنهما من مصدرين مختلفين. عن هذا الأمر نجد زوجتين لهما رجل واحد هو يعقوب، وأما هما فليئة وراحيل كانتا رمزين (تك 29: 23، 28). وأيضًا لذات السبب وُجد أعميان كرمزين، جلسا بجوار الطريق وهبهما السيِّد البصيرة (مت 20: 3). وإن تأمَّلت في الكتاب المقدَّس تجد الكنيستين اللتين هما بالحقيقة كنيسة واحدة قد رُمز إليهما في مواضعٍ كثيرةٍ، جاء لخدمتهما حجر الزاويّة (يربطهما معًا) ويجعلهما واحدًا.]
ثانيًا: غسل الرجال شباكهم إذا انقضى الليل كله بلا صيد، فيبقون نهارهم في مرارة ليعاودوا الصيد من جديد في الليلة الجديدة، ولم يدرك هؤلاء الصيَّادون أن فشلهم هذا كان بسماحٍ من الله لأجل نجاح أبدي وزمني أيضًا. فإنَّ كانت السفينتان قد فرغتا تمامًا من السمك، إنما لكي لا ينشغل الصيَّادون بجمعه وفرزه وبيعه بل يستقبلون السيِّد في السفينة ليستخدمها منبرًا للتعليم، يصطاد خلاله الصيَّادين وجمهورًا من الشعب، وعندئذ لا يحرمهم حتى من السمك، إذ يسألهم أن يلقوا شباكهم للصيد فتمتلئ السفينتان حتى أخذتا في الغرق.
حينما تُغلق الأبواب في وجوهنا ونظن أن حظنا سيئ، هذا التعبير الذي لا يليق بالمؤمن، فلننفتح بالقلب أمام السيِّد ونقدِّم له سفينة حياتنا يدبرها حسب مشيئته الصالحة، فيردّ لنا “بهجة خلاصنا”، مقدِّّما لنا ثمارًا روحيّة دون حرمان حتى من ضرورات الحياة الزمنيّة.
ثالثًا: اختبر التلاميذ لذَّة صيد السمك، الأمر الذي يعرفه هواة الصيد، والآن يرفعهم إلى لذَّة أعمق، وهي لذَّة صيد النفوس ليخرجوها من بحر هذا العالم فتعيش؛ هذه الخبرة ما كان يمكنهم أن يتذوقوها ما لم يصطادهم السيِّد نفسه في شبكته ويدخل بهم إلى سفينته، الكنيسة المقدَّسة. في هذا يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [ فلنمدح الطريقة التي أصبح بها التلاميذ صيَّادي العالم قاطبة، خاضعين للمسيح خالق السماوات والأرض، فبالرغم من أنه طُلب من تلاميذ المسيح أن يصطادوا الشعوب الأخرى، فقد وقعوا في شبكة المسيح المطمئنة، حتى إذا ما ألقوا بدورهم شباكهم أتوا بجماهير المؤمنين إلى حظيرة المسيح الحقيقيّة. ولقد تنبَّأ أحد الأنبياء القدِّيسين بذلك، إذ ورد: “هأنذا أرسل إلى جزَّافين كثيرين يقول الرب، فيصطادونهم ثم بعد أرسل إلى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم” (إر 16: 16). ويراد بالجزافين في الآية السابقة الرسل الأطهار وتشير كلمة “القانصين” إلى ولاة الكنائس ومعلميه ] .
يقول القدِّيس أمبروسيوس: [ما هي شباك الرسول التي أُمر بإلقائها في العمق إلا العظة وقوّة الحجة التي لا تسمح بهروب من اقتنصتهم؟! من الجميل أن تكون الشباك هي الأدوات التي يستخدمها التلاميذ، هذه التي لا تُهلك من تصطادهم بل تحفظهم وتخرجهم من الهاويّة إلى النور، وترتفع بمن في الأعماق إلى المرتفعات العاليّة].
هذه الخبرة عاشها معلِّمنا بولس الرسول الذي اصطادته شبكة مراحم الرب فلا يكف عن إلقاء الشبكة ليصطاد هو بنعمة الله، إذ يقول: “لنا هذه الخدمة كما رُحمنا لا نفشل” (2 كو 4: 1).
رابعًا: صدر الأمر الإلهي: “ابعد إلى العمق، والقوا شباككم للصيد” [4].
لو أن هذا الأمر قد صدر من إنسان عادي لحسبه الصيَّادون تجريحًا لكرامتهم إذ هم أصحاب خبرة في الصيد لسنوات طويلة، ويعلمون أن الصيد يكون بالأكثر في الليل، ويكاد ينقطع في الظهيرة، كما أن الصيد يكون على الشاطئ لا في الأعماق!
كانت إجابة سمعان تحمل نغمتين: نغمة الخبرة البشريّة القديمة بما حملته من فشل ويأس، ونغمة جديدة تفصلها عن السابقة كلمة “ولكن“، إذ يدخل من الخبرة البشريّة البحتة إلى خبرة الإيمان بكلمة الرب الفعّالة.
لاحظ القدِّيس أغسطينوس أن السيِّد المسيح لم يقل للصيَّادين أن يلقوا شباكهم على الجانب الأيمن ليدخل فيها الصالحون وحدهم ولا الأيسر ليدخلها الأردياء إنما يلقونها في الأعماق لتحمل الاثنين معًا، فالدعوة موجهة للجميع أن يدخلوا شباك الكنيسة لعلهم يتمتَّعون بالحياة الإنجيليّة. كما لاحظ أن الصيَّادين لم يأتوا بالسمك إلى الشاطئ بل فرغوا الشباك في السفينتين، إذ أراد أن ينعم الكل بالحياة داخل الكنيسة لا خارجها.
خامسًا: “فأجاب سمعان، وقال له: يا معلم قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيِّئًا، ولكن على كلمتك ألقى الشبكة” [5]. لقد حسب الرسول بطرس أن ما يمارسه الإنسان من جهاد في الخدمة دون الاتكال على الله والتمسك بكلمة الرب ومواعيده تعبًا خلال ظلمة الليل بلا ثمر، لكن على كلمة الرب يلقي الإنسان شباكه فيأتي بالثمر.
في هذا يقول القدِّيس أمبروسيوس على لسان سمعان بطرس: [أنا أيضًا يا رب أعلم تمامًا أن ظلام (الليل) يكتنفني عندما لا تكون أنت قائدي، فيحيط بي الظلام عندما ألقى ببذار الكلمة الباطلة (التي من عندي)].
يكمل القدِّيس أمبروسيوس حديثه معلنًا أن جهاد سمعان بطرس طول الليل الذي بلا ثمر يمثِّل من يكرز ببلاغة بشريّة وفلسفات مجردة، لذا صارت الحاجة ملحة أن تكون الكرازة في النهار حيث يشرق المسيح شمس البرّ مقدَّمًا كلمته الفعّالة التي تملأ شباك الكنيسة بالسمك الحيّ، إذ يقول: [لم يصطادوا شيِّئًا حتى الآن، لكن على كلمة الله نالوا سمكًا كثيرًا جدًا، ليس هو ثمرة البلاغة البشريّة بل من فعل بذار السماء. لنترك إذن الإقناع البشري ولنتمسك بعمل الإيمان الذي به تؤمن الشعوب].
سادسًا: الصيد الكثير “ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكًا كثيرًا جدًا فصارت شباكهم تتخرق. فأشاروا إلى شركائهم الذين في السفينة الأخرى أن يأتوا ويساعدهم، فأتوا وملأوا السفينتين حتى أخذتا في الغرق” [6-7]. اعتدنا في السيِّد المسيح يصنع المعجزات ترفَّقا بمريضٍ أو تحننًا على من ساده روح شرير، أو يقيم إنسانًا لأرملة متألّمة، أو ليشبع الجموع الجائعة. لكن هذه المعجزة جاءت، لا لتشبع احتياجًا جسديًا أو تُعلن ترفَّقا بنفس محطَّمة، وإنما تعلن عن عمل السيِّد المسيح في كنيسته القادمة من اليهود والأمم ليملأها بالسمك المتمتَّع بالحياة.
في دراستنا للرموز رأينا “السمكة” ترمز للسيِّد المسيح نفسه كما ترمز لمؤمنيه، وكأن الكنيسة تمتلئ بالمختارين، السمك الذي يعيش دومًا في مياه المعموديّة ملتصقًا بالسمكة واهبة الحياة!
يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على هذا الصيد الكثير، بالقول:
[ امتلأت شباكهم سمكًا عن طريق المعجزة، وذلك ليثق التلاميذ بأن عملهم التبشيري لا يضيع سدى وهم يلقون شباكهم على جمهور الوثنيِّين والضالين. ولكن لاحظوا عجز سمعان ورفاقه عن جذب الشبكة، فوقفوا مبهوتين مذعورين صامتين، وأشاروا بأيديهم إلى إخوانهم على الشاطئ ليمدوا إليهم يد المساعدة. ومعنى ذلك أن كثيرين ساعدوا الرسل القدِّيسين في ميدان عملهم التبشيري، ولا زالوا يعملون بجدٍ ونشاط وخصوصًا في استيعاب معاني آيات الإنجيل الساميّة، بينما آخرون من معلمي الشعب ورعاته وولاته برزوا في فهم تعاليم الحق الصحيحة. لا زالت الشبكة مطروحة والمسيح يملأها بمن يخدمه من أولئك الغارقين في بحار العالم العاصفة والثائرة، فقد ورد في المزامير: “نجني من الطين فلا أغرق، نجني من مبغضي ومن أعماق المياه” (مز 69: 14)].
سابعًا: استجابة بطرس للعمل الإلهي
رأى معلِّمنا بطرس الرسول الصيد الكثير، فلم يهتم بالصيد في ذاته، إنما بالأكثر استنارت أعماقه منجذبًا لشخص المسيَّا صاحب السلطان على السماء والأرض والبحار (مز 8: 8)، فسجد له على ركبتيه، وشعر بمهابة تملأ أعماقه مكتشفًا خطاياه الداخليّة أمام رب السماء والأرض، فصرخ، قائلاً: “أخرج من سفينتي يا رب، لأني رجل خاطئ” [8]. لم يقوَ على إدراك هذا النور الفائق، وشعر بالعجز عن الدنو من هذا القدِّوس معترفًا بخطاياه.
لقد صرخ “أخرج من سفينتي” إحساسًا بالمهابة الشديدة، فاستحق في تواضعه وإدراكه لضعفه أن يدخل الرب أعماق قلبه ويقيم فيه مملكته!
وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء مقبولاً لدى الله مثل أن يحسب الإنسان نفسه آخر الكل. هذا هو الأساس الأول لكل الحكمة العمليّة ] .
لم يكن تواضع بطرس الرسول كلامًا أو عاطفة بل هو تفاعل مع العمل الحيّ الإيجابي، إذ قيل عنه وعن زملائه: “ولما جاءوا بالسفينتين إلى البر، تركوا كل شيء وتبعوه” [11]… تركوا كل شيء ليكرَّسوا كل القلب لمن أحبوه، بالعبادة الحقيقية والكرازة. وكأن التواضع ليس مجرد شعور بالضعف، إنما هو الارتماء في حضن العريس السماوي ليعيش الإنسان بكل قلبه وطاقاته لحساب العريس وبإمكانيَّاته.
ويعلّق القدِّيس يوحنا الذهبي الفم على هذا الترك بالقول: [اخبرني أي شيء عظيم تركه بطرس؟ أليست مجرد شبكة ممزقة (5: 11) وعصا وصنارة؟! ومع ذلك فقد فتح له الرب بيوت العالم، وبسط أمامه الأرض والبحر، ودعاه الكل إلى ممتلكاتهم، بل باعوا ما كان لهم ووضعوه عند قدَّميه وليس حتى في يديه ].
ويعلّق القدِّيس أمبروسيوس على تواضع بطرس هذا الممتزج بالعمل والترك، فيقول: [تعجب بطرس من البركات الإلهيّة التي تدفقت عليه، فكلما أخذ ازداد انسحاقًا. وأنت أيضًا قل: “أخرج يا رب من سفينتي، لأني رجل خاطئ” فيجيبك المسيح: “لا تخف“. اعترف للرب الذي يغفر لك خطاياك. لا تتردّد في أن ترد إليه مالك (أترك كل شيء) لأنه هو أيضًا وهبك ما له… تأمَّل محبَّة الله التي وهبت الإنسان السلطان ليأخذ الحياة].
وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح… دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح
📖 كلمات من نور🕯 {ثمار قبول الكلمة}
قال يسوع لسمعان: “إبتعد إلى العمق، وألقوا شباككم للصيد”… ولمّا فعلوا ذلك ضبطوا سمكًا كثيرًا جدًّا وأخذت شباكهم تتمزّق. (لو ٥ : ٤ و ٦)
إبتعد إلى العمق: كل ما عمّق الفلاّح الزرع في التراب، كل ما كانت الغلال وفيرة وكل ما نزلت الجرّة في عمق البئر، كل ما أمتلأت من المياه الصافية. وكل ما غاص الإنسان في عمق نفسه، اقترب من باب التوبة، وحصد النعمة. وكل ما ازدادت الصلاة عمقًا، كل ما فاض الحبّ، وامتلأت النفس من معرفة الربّ.
ولمّا فعلوا ذلك: إنهم سمعوا كلمة الربّ والمعلّم وعملوا بها… كم هي عذبة كلمة الربّ! تمدّ النفس بالحيوية والنشاط، وتحفّز العزيمة المحبطة، وتحرّر الإرادة من الكسل.
ضبطوا سمكًا كثيرًا جدًا: كلمة الربّ تنزل إلى أرض النفس، ولا تعود فارغة. تصبر كثيرًا حتى تتفاعل معها، لتعود حاملة السلال المملؤة بالتوبة والنعمة والمحبة والرحمة…
المجد والحمد والتسبيح والشكران، لك أيها الربّ يسوع المسيح. لأنك تعرف لحظات فشلنا، فتأتي إلينا لتنقذنا، وتملأ بنعمتك فراغات حياتنا، وتكثر الخير في شباكنا… المجد لك، من أجل كلمتك 📖 لأنه ما من نفس قبِلتها وتفاعلت معها، إلا وفاضت عليها النعمة، وغمرتها بالخير والسلام… الحمد والمجد والشكر لك.
👈 في لحظات الفشل والتعب والإحباط، هل يبقى لكلمة الربّ مكانة في حياتي ❓ هل أصغي إليها وأعمل بها ❓
👈 صلاة القلب 💜
يا ربّ يسوع المسيح، يا من نزلت إلى عمق موتي لتحييني، اغمر أعماق نفسي بنعمتك.
يا ربّ يسوع المسيح، املأ شبكة قلبي بحبّك 💜 وشبكة ذهني بحكمتك، وشبكة حواسي بنعمتك، وشبكة علاقاتي، بخدمتك. ☝
يا ربّ يسوع المسيح، هبني نعمة قبول كلمتك📖 بطاعة الإيمان العامل بالمحبّة.
👈 نيّة اليوم: نصلّي، من أجل أن تنزل كلمة الربّ 📖 إلى عمق أعماق حياتنا، وحياة كل إنسان لتملأ شباك القلوب الفارغة بالمحبّة 💜 والإيمان، والرجاء، والبرّ، والفرح، والسلام.🕊
يا يسوع أنرني بنور دنحك. 🕯