♰
تقدمة مريم الى الهيكل بحسب ماريا فالتورتا وماريا داغريدا..
وصف رائع وتفاصيل مهمّة…
لنمجّد الربّ الذي قَبِلَها في بيته، ويقودها على طريقه
أسرار إلهيّة تكشفها العذراء عن حياتها الخفيّة، إلى المكرّمة ماريا داغريدا بواسطة ظهوراتٍ وإيحاءات وانخطافات فائقة الطبيعة، في كتابها الشهير: <<مدينة الله السرية>>
ملاحظة: تؤكّد المكرّمة في كتاباتها أنّ العذراء لم تكن منذ ولادتها كمثل سائر المخلوقات، بل كان لديها نضوج عجائبي، كالقدرة على التكلم منذ لحظة الولادة، وإدراكها لأسرار التجسد والفداء (رغم عدم معرفتها بأنها ستكون أم المخلص كما يروي الإنجيل)، وغيرها… كما سنلاحظ في المقتطفات من الفصل الثامن:” دخول العذراء الى الهيكل”
************ ♰ *************
لقد ورد في خطط الله بأن يكون تابوت العهد القديم مكرَّمًا، لأنّه كان صورة للعهد الجديد أعني به “مريم أمّ الكلمة المتجسّد”. ولكن لم يشأ الله رغم ذلك أن تُعامَل مريم على هذه الأرض بالعظمة التي كانت تستحقهّا، لأنّه لا يريد بالحقيقة أن يكون مختاروه مُعَرَّضين لأخطار المجد الأرضي الذي يعرّضهم له الإكرام الموجّه إليهم من البشر أمثالهم. فقسمٌ من المكافأة يستحقونه بآلامهم وأشغالهم وفضائلهم، إلى أن يُنزع وترٌ من قلبهم ويُعطى من قلبهم ويُعطى للمعجبين بهم.
وقد طُبِّقَتْ بالأخص هذه الحكمة على العذراء الكلّية القداسة. فيجب أن يتعلَّم البشر منها ومن ابنها الإلهي أن يحتقروا أمجاد الأرض الزائفة ويرغبوا في أن يكونوا منسيّين عائشين في العزلة والاحتقار والمسكَنة. من أجل ذلك أراد الله أن لا تكون مريم في حياتها على الأرض معروفة ولا مُمجّدة كما كانت تستحق، وهكذا اتّجهت بكل بساطة إلى هيكل أُورشليم بدون أي احتفال ظاهر.
لم يصطحبها إلى الهيكل غير القديس يواكيم والقديسة حنة برفقة بعض الأهل فقط. غير أنّه كان هناك موكب عظيم لم يشاهده غير العذراء مريم وحدها، وكان هذا الموكب جوقة من الملائكة انضمّت إلى حرَّاسها الملائكة العاديّين، والجميع يرنّمون معًا للعليّ التسابيح والأناشيد بأنغام شجيّة.
أخذ القديس يواكيم والقديسة حنة ابنتهما المكرّمة ودخلوا إلى الهيكل وبعد أن رفعوا صلوات حارة قدّموها للرب بينما كانت تكرِّس ذاتها له بكلّيتها. ووسط أضواء ساطعة ملأت هذا المكان سمعت صوتًا إلهيًّا كان يتقبّل تقدمتها. وبعدئذٍ أخذ الأب والأم مريم وقدّماها للكاهن فباركها، وقادوها معًا إلى المسكن حيث كانت تتربّى الفتيات بالقداسة إلى أن يحين زواجهن.
وقد بلغوا الهيكل بصعودهن 15 درجة. فعلى الدرجة الأولى سمح الكاهن لمريم بأن تستئاذن أهلها بالانصراف، فركعت أمامهما وقبَّلت يديهما طالبة صلواتهما وبركتهما فمنحاها إياها كع كثير من الحنان والدموع. ثم صعدت وحدها الدرجات الخمس عشرة دون أن تير رأسها الى الوراء، أو أن تذرف دمعة واحدة. ولكن بفرح فائق الطبيعة وجلال أدهش الجميع. فسَّلم سمعان. الكاهن الأكبر، مريم إلى عهدة وعناية النسوة الورعات المكلَّفات بهذه المهمة وبين هؤلاء كانت حنة النبية التي خصصتها العناية الإلهية كي تكون معلمة لتلك التي كانت معلمة الخلائق كافة. فسألتها الطفلة القديسة راكعة وبتواضع عميق أن تباركها وتوجّهها وتحتمل بصبر نقائصها. فأجابتها حنة بأنها ستجد فيها أُمّاً مملوءة تضحية ومحبة. وبعد هذا الحديث الأول قدَّمت نفسها لرفيقاتها وسلّّمت عليهم بتواضع وقبَّلتهن جميعاً وشكرتهن على قبولها بينهن على الرغم أنها لم تكن أهلاً لذلك واستعطفتهن أن يعلِّمنها ويأمرنها بكل ما يتوجب عليها فعله.
ولمّا أصبحت وحدها في غرفتها الصغيرة، سجدت وقبَّلت الأرض التي كانت جزءًا من الهيكل المقدّس والذي كان يحويها بالرغم من قلّة جدارتها وسجدت للسيد شاكرة إيّاه على حِصنها هذا. ثم قالت لملائكتها: أيها الأمراء السماويون، أصدقائي الأمناء، أرجو منكم أن تعلّموني ما يجب عليَّ فعله لأتمّم مشيئة الرب وأطيع كهنته ومعلمتي ورفيقاتي. ثم وجَّهت أخيرًا لملائكتها هؤلاء الأثني عشر هذه الصلاة التي أوحاها إليها تقواها البنوي: “إذهبوا يا رسلي القديسين، إذهبوا وعزّوا والديَّ بأحزانهما ووحدتهما، إذا سمح لكم الرب بذلك. فتمّم الملائكة للحال رسالة ملكتهم. وبينما كانت تتكلم مع بقية الملائكة شعرت بفعلٍ إلهيٍ جعلها روحانية وأدخلها في انجذاب حارّ. وبأمرٍ مِن الله هيّأها السرافيم الذي كانوا بخدمتها بأنوار جديدة، وبتقوى جديدة لتقبل الموهبة الكبرى، فاختُطفت إلى السماء العليا بنفسها وجسدها وسط غيوم برّاقة حيث استقبلها الثالوث الأقدس أحسن استقبال.
فسجدت بحضوره الإلهيّ وعبدت بتواضع عميق للغاية ثم تمتّعت بعد ذلك بالرؤيا الإلهية التي لا يستطيع أي إنسان أن يعبِّر عن مفاعيلها. فقال لها السيد الرب أريد يا ابنتي أن تشاهدي في المرة الثانية المواهب التي أحفظها للنفوس التي سوف تُشترى بدم الحمل الذي سيموت لأجلها. ثم يجب أن تعرفي ما هي الكنوز التي بحوزتي وسأمجّد بها المتواضعين وأُغني الفقراء وأعزّز المحتقرين وأُكافئ كل من يعمل أو يتألم من أجلي.
وقد كشف لها أيضًا عن أسرار كبيرة فأجابت السيدة: “أيّها الرب العليّ والرفيع ماذا ستصبح حقارتي أمام عظمتك، أعترف بأنّني لست أهلاً لكل ما تكشفه لي فأنا لست سوى غبار. تمِّم فيَّ مشيئتك القدّوسة ورغبتك الصالحة وبما أنّك تُقدِّر هكذا الأحزان والآلام والاحتقار كما تُقدِّر الصبر واللطف، لا تسمح بأن أُحرم من هذا الكنز الثمين وهذه الضمانة الأكيدة لمحبتك”.
أم الرهبان
فأكدّ لها الرب أنّه استجاب صلاتها وأنه يخبئ لها مهام ومتاعب ستحتملها من أجل مجد اسمه. فشكرته على ذلك وسألته أن يسمح لها أن تبرز بحضرته الإلهية نذوراتها الأربعة:
– نذر العفة
– نذر الفقر
– نذر الطاعة
– نذر الحصن الدائم في الهيكل.
فأجابها السيد الرب: “إن المستقبل الذي أهيئه لك يا ابنتي لا يسمح لك بأن تتمّّمي المقاصد التقوية حسب رغبتك أنتِ. وبالرغم من ذلك فإني أقبل بنذر العفة أما بالنسبة لبقية النذور فتتصرفين حسب استطاعتك وحسب الظروف كما لو كنت ناذرة. سيأتي يوم تُبرز فيه عذارى غيرك هذه النذور من أجل خدمتي واقتداءً بك ينتمينَ الى جمعيات مختلفة وهكذا ستصبحين أُمًّا لعدد كبير من الفتيات.
عندئذٍ أبرزت نذر العفة وأخذت على نفسها بأن تنقاد بدقة لمشيئة الآخرين. وامتازت بعد ذلك بممارسة هذه النذور أسمى من كل الذين أبرزوها من بعد. وبعدئذٍ فقدت الرؤيا الجلية للألوهة ولكن من دون أن تخرج من حضرتها وحصلت على عدة رؤى خيالية.
وخلال إحدى هذه الرؤى اقترب منها بأمر الله بعض السرافيم الأكثر إشراقاً وزيَّنوها على هذا النحو:
أفاضوا اولاً على حواسها نوراً جعلها كلية الجمال وألبسوها ثوباً أبيض مشرقاً رمز طهارتها وزناراً من الحجارة الكريمة المختلفة الألوان رمز تعدد وتألق فضائلها وزينوا عنقها بعقد برّاق كان يتدلّى على صدرها وفيه عدد من الحجارة الكبيرة البرَّاقة، رمز الإيمان والرجاء والمحبة.
ووضع الروح القدس في أناملها 7 خواتم رائعة الجمال ترمز إلى مواهبه السبع بدرجة سامية للغاية.
وأخيراً وضع الثالوث الأقدس على رأسها إكليلاً ملوكياً من معدن ثمين جداً فيه حجارة كريمة مشرقة أشد من الشمس، وهذا يعني أنها قد تُوِّجت ملكة على السماء.
وتأكيداً لهذه المنزلة الرفيعة رُصِّع ثوبها بحروف من ذهب خالص وشديد اللمعان، تعني أن مريم هي إبنة الآب الأزلي وعروس الروح القدس وأمُّ النور الحقيقي، ولكنَّالصفة الأخيرة لم تكن واضحة أمامها بينما كانت تُدهش أنظار الملائكة … وخرج إذ ذاك صوت من عرش الثالوث الأقدس يقول: “أنتِ عروسنا المحبوبة جداً والمختارة من بين جميع الخلائق على مدى الدهور، الملائكة تخدمك وجميع الأجيال والأمم يدعونك كلية الطوبى. وهكذا هيَّأها العل لإستقباله بداخلها بشخص الكلمة”.
وبعد كل هذا الفيض من النعم وجدت مريم ذاتها غارقة في لجة من الدهشة والحب والتواضع فقالت: “يا إلهي، الذي لا يُدرك من أنت ومن أنا حتى تتنازل وتنظر اليَّ وتمجد هكذا من هي ليست سوى تراب؟ إني أكتشف فيك عظمتك غير المتناهية يتنازل نحو دودية حقيرة لا تستحق سوى الإحتقار. وبما أنك ترتضي ذلك يا سيدي وملكي فأنا أقبل أن تكون عروس نفسي، ولكن سأظل دوماً خادمتك. إنَّ عقلي وقلبي لن يكون لهما أي بغية أو هدف سواك أنت خيري الأسمى وحُبّي الأوحد دون أن تتوقف أبصاري عند أية خليقة بشرية“.
فتقبَّل الرب برضى لا يُقدَّر هذا القبول من الملكة السماوية، ووضع بين يديها كنوز قدرته ونعمه وأمرها أن تطلب منه ما تشاء مؤكداً لها أنه لن يرفض لها طلباً البتة. فأجابت عنئذٍ:
“أرجوك يا إلهي، أرسل ابنك الوحيد إلى العالم من أجل خلاص البشر. واغدق نعمك وصلاحك أكثر فأكثر على أهلي، عزِّ الفقراء، والمحزونين واجعلني أُتمم كما يجب كل ما يروق لك بالأكثر“.
عندئذٍ هللت الأرواح الملائكية محتفلة بأناشيد جديدة، وممجدة صانع هذه العظائم. وواكبَ الملائكة الذي عينّهم العلي بموسيقى سماوية ملكتهم الطفلة في أثناء نزولها من السماء ووضعوها في نفس المكان الذي كانت فيه سابقاً. وما إن عادت إلى مقرِّها حتى عزمت أن تمارس جميع ما وعدت به الرب بالنسبة الى نذور الديانة. فأسرعت إلى معلمتها وسلمتها جميع الأشياء التي أعطاها إياها أبواها لتتصرف بها كما تشاء. فأخذت منها حنّة بالهام إلهي كل ما قدمته لها، ولم تترك لها سوى الملابس التي كانت ترتديها، بنوع أنها أصبحت بحالة فقر كاملة.
وحتى تتمكن من ممارسة الطاعة طلبت برنامجاً خاصاً. وبعدما وضع لها هذا البرنامج القيس سمعان مع القديسة حنة بمؤازرة العناية الإلهية، استدعياها ليسلّماها إياه. فخرَّت على ركبتيها أمامهما وعندما أمراها بالنهوض طلبت منهما بتواضع أن يسمحا بأن تظلَّ جاثية احتراماً لمقامهما ووقارهما.
قال لها الكاهن: “يا ابنتي، إن العلي قادك الى هيكلِه وأنتِ بعدُ حديثة السن. هذه نعمة عظمى يجب أن تشكري الرب عليها بخدمتك إياه من كل قلبك، وأن تقدمي ذاتك بجملتها لممارسة جميع الفضائل. بادري منذ الآن وانحني تحت نيره الإلهي حتى يصبح حمله سهلاً عليك طيلة أيام حياتك وأطيعي معلمتك”.
فأجابت مريم: “يا سيدي، بما أنك رسول العليّ، وأنتِ يا معلمتي أرجو كما أن تعلِّماني وتأمراني بجميع ما يتوجب عليَّ فعله حتى لا أُخدَعَ بشيء. وإني أؤكد لكما أن ليس لي أية رغبة سوى أن أتمم بانقياد إرادتكما”.
فنظَّم لها الكاهن الأعظم مشاغلها على الطريقة التالية: “تحضرين بكثير من التقوى تقاريظ السيد الرب وتبتهلين إليه من أجل هيكله، واطلبي منه أن يرسل المسيح المُنتَظَر. تذهبين الى الراحة الساعة الثامنة مساءً وتنهضين مع الفجر لصلاة الساعة الساعة الثالثة وبعدئذٍ تنهمكين بالأعمال اليدوية ودراسة الكتب المقدسة حتى المساء. ستحافظين خفية على قناعة في الطعام وأخيراً تكونين متواضعة في كلّ شيء، مُحبَّة وخاضعة بالكلية لمعلمتك التي تتلقين منها جميع المعلومات”.
بعد أن استمعت مريم لهذا الحديث وهي جاثية على ركبتيها، طلبت بركة الكاهن ومعلمتها اللذين قدمت لهما قدوة صالحة بتصرفها ثمّ قبَّلت يدهما وانصرفت لتزاوِل بدقة جميع ما أُمرت به على الرغم من أن رؤيتها لهذه الأمور كانت أسمى من ذلك لأنها تعلم أنه من الأفضل أن تكون طاعتها عمياء من أن تتبع مشاعرها الخاصة مهما تكن صالحة. إنه الله حقًا الذي يرى ويعمل بالرؤساء وإذا لم نُطِعْهُم نكون كمنْ يعمل تحت تأثير التجارب والأهواء والأوهام.
حققَّت ملكتنا تواضعها الرفيع طالبة من معلمتها أن تسمح لها بخدمة رفيقاتها وأن تستدمها بأحقر الوظائف ككناسة الغرف وغسل الصحون.
كانت تطلب كل صباح ومساء بركة معلمتها وتقبِّل يدها وحتى أرجلها عندما كانت تسمح لها بذلك. كانت تستفيد من كلِ فرصة سانحة لتقوم بعمل الآخرين وتستأثر بأصعب الأشياء. وكانت بمعاملتها مع الغير سريعة الإتضاع والكياسة والمروءة والحترام والخضوع حتى مع رفيقاتتها اللواتي ملكت قلوبهن. ولذلك لم يكن يُفلِت من جاذبية شخصها الفائقة الإدراك لأنه كان يرى فيها مموعة عجيبة من الفضائل الطبيعية والإلهية.
كانت ذات قناعة مفرطة في الطعام وتحرم نفسها عمداً من النوم الذي كان عندها قصيراً عادة. وعوض أن تسمح لنفسها بشيء إضافي، كانت تحرم نفسها الشيء الضروري. كانت منظمَّة وقتها بنوع أنَّ كلاًّ من أعمالها كان يأخذ منه القسط المناسب. كانت تقرأ كثيراً في الكتب السماوية وبالأخص تلك التي كانت تتكلم عن التجسد الإلهي. كانت تسبر غورها بفضل علمها الموحى بنوع أنها كانت تستطيع شرح الأسرار التي كانت تتحدّث بها مع ملائكتها. كانت تتعمّق بكل الطقوس التي كانت تُقام في الهيكل، فتحضرها وتتعلّمها ظاهرياً كأنها تجهلها. كانت في كلّ شيء تبرهن عن ذكاء كبير وحكمةٍ وكمالٍ تبهر بها الجميع، ولكن الله كان يخفف شيئاً من الإعجاب بهذه الشهادة التي كان يشترك فيها حتى الملائكة أنفسهم .
وكانت تنمو في السن والنعمة أمام الله والناس مع تقوى يفوق دوماً الطبيعة. وكان الله لا يتأخر أبداً عن أن يغدق عليها من إنعاماته العجيبة. ولكي يجمِّلها أكثر فأكثر، كان يُخرج لها كل يوم من كنوزه غير المتناهية خيراته الجديدة المخصصة لها وحدها.
كانت تتجاوب مع هذه النِعَم بأمانة عظيمة حتى إن الله كان يستريح إليها للغاية. كانت مأخوذة بالأخص بعجائب التجسد وتتكلَّم غالباً بكلّ حنُوٍّ مع ملائكتها الذين كانوا يُلهبون قلبها العذري بشهب محبته الإلهية وتخاطبههم قائلة:
“يا أمرائي، هل يستطيع الخالق أن يولد من الخليقة، والذي يزيِّن الكون يظهر قابل الحس، وأن ابنة الطبيعة البشرية تصبح سعيدة أن تُسمّي ابنًا لها من هو بذاته أخرجها من العدم وتُدعى أُمًّا للذي لا بدءَ له وقد خلق الكون؟ كم أودّ أن أكون خادمة لهذهِ الأم وهذا الإبن!”.
ألّفت أناشيد تفوق بنوعها وكميتها وجمالها جميع ما تملكه الكنيسة. أناشيد تتضمن أشياء يجهلها أعظم القديسين إيحاءً ومعرفة. هكذا شاء الله أن الكنيسة المجاهدة تكتفي بهذه الحقائق الموحاة من مؤلفين مكرسين وقديسين. واحتفظ لذاته كشف بقية الحقائق للكنيسة الظافرة بطريقة تتناسب ومجد الطوباويين العارض.
وبالرغم من ذلك فالعذراء الفائقة القداسة كانت دوماً متضعة ولم تُظهر البتة للبشر العظائم التي كانت هي موضوعها بل التزمت بحفظها خفية. وهذا مما جعل فيما بعد القديس يوحنا يكشف في سفر الرؤيا الأسرار التي كانت تختصّ بالعذراء بشكل ألغاز نسمعها أيضاً في الكنيسة المجاهدة أو الكنيسة الظافرة.
إرشادات العذراء الكلية القداسة
يا ابنتي، إنّ أعظم موهبة نلتها من العليّ هي هذه التي كتبتها مؤخراً. واستحقيت برغبتي هذه تأسيس الحياة الرهبانية فهي مرفأ أمين يقي من عواصف العالم. ولذا فأكبر سعادة يمكن لله أن يهبهها لإحدى النفوس هو أن يدعوها لتكريسها بكليتها لخدمته ولهذا السبب عينه يستنْفد الشيطان وسعَه حتى يثنيها عن هذه الدعوة السامية.
فالحياة الرهبانية إذا ما مورست بالحرارة المناسبة تجعله يستشيط غيظاً لكونها تقدِّس الإنسان وتُفرِّح الملائكة وتمجِّد الله.
ففي الحياة الرهبانية علينا أن نمارس النذور التي بواسطتها نستخدم حرية الشر حتى نؤكد حرية الخير، نتحرَّر من عبودية الأهواء، وبفضل سيطرتنا عليها نتمكّن من أن لا نتبع سوى إلهامات الروح القدس فتصبح الحياة ملائكية. اخيراً يستحيل أن نتمكن هنا من فهم هذه الكنوز التي نحصلُ عليها. فتأكّدي يا ابنتي أن باستطاعة الرهبان الحقيقيّين الحصول على إستحقاقات تُعادل بل وتفوق استحقاقات الشهداء.
فنذر الطاعة هو اكبر النذور لأنه يتطلب منّا تجرداً كاملاً عن إرادتنا الذاتية حتى نخضعها لإرادة الرئيس بنوع أنها تتطابق معها بسرعة ورضى، بدون بحثٍ أو تحليل وبالأخص بدون تذمّر. فالرؤساء يقومون بالحقيقة مقام الله الذي ينيرهم فبالخضوع لهم نكون بأمان. فابني الإلهي الذي كان طائعاً حتى الصليب استحق للطائعين امتيازات فائقة.
أما نذر الفقر فهو التخلّي بشرف عن عبء الأشياء الدنيوية الثقيل التي لا تستأهل أن نسعى إليها أو نحفظها. كم من مشاغل وهلاك أبدي تسبب للإنسان، فاننا لا نستحوذ أبداً على هذه الخيرات الدنيوية الاّ بقدر ما نحتقرها. فإذا ما تحرّر المرء من هذه القيود يصبح أهلاً لتقبُّل الكنوز الإلهية التي خُلقنا من أجلها بقدرة غير متناهية. فحسب المخطط الإلهي علينا أن لا نملك من المنافع الوقتية إلاّ ما هو ضروري لحفظ الحياة ويجب أن نتخلى عن كل ما هو زائد. فميزة الفقر: الغنى المقدّس، هي أن يحرم الراهب نفسه حتى من بعض الأشياء الضرورية وبالتالي أريدك أن لا تعلقّي قلبك بأي شيء مهما كان كبيراً أم صغيراً ضرورياً أو زائداً. استعملي الأطعمة الأكثر عادية والأقمشة الأكثر فقراً والملابس الأكثر ترقيعاً.
نذر العفة يقوم على طهارة النفس والجسم، هذه هي الفضيلة التي تقرِّب بالأكثر النفس المكرَّسة لله من عريسها الإلهي، بحفظه إياها من الفساد الأرضيّ يجعلها روحانية ملائكية وحتى إلهية بنوع من المشاركة مع الله. تنير العقل وتشرّف القلب وتجمّل الفضائل كافّة. ولكن من السهل جداً فقد فضيلة العفة، لأنها تسكن في قصر كثير الأبواب والشبابيك، يستطيع أعداء النفس أن يقتحموها. وألدّ هؤلاء الأعداء هو اللحم. وهذه النوافذ هي الحواس فيجب إذاً أن نسيطر بشدّةٍ ونعمل معها عقداً لا يُنْتَهك: بأنْ لا نُجيز استعمالها إلاّ بطريقة تتلاءم مع العقل من أجل تمجيد الخالق. يجب أن نحترس من أن نلمس وحتى أن ننظر إلى أية خليقة بشرية حتى لا تشغل مخيلتنا صورتها أو ذكرها. فالمحافظة على الطهارة تتطلَّب كثيراً من هذا الإحتراس.
نذر الحصن أخيراً هو سياج المحبة وسائر الفضائل، هو الحرز الأمين حيث تحافظ النفس على نقاوتها البرّاقة، بينما تظلم وتصل حتى إلى الضياع في عاصفة الظروف السيئة. وأخيراً فلا يجب أن يكون الحصن مكاناً محدوداً لأنه بإمكان الإنسان أن يتمتَّع بداخله أكثر منه في الخارج بالإطلاع الواسع على معرفة الله وكمالاته وأسراره وأعماله العجيبة . يَحسُن أن نسترسل ونتمتَّع في هذا الفضاء اللامتناهي وبغير ذلك فأكبر حرية تغدو كأضيق سجن.
أمّا بالنسبة إليّ، فقد حافظت، يا إبنتي، على جميع هذه النذور بأكبر كمال ممكن للحالة التي كنت فيها. لم أكن أنظر أبداً إلى رجل وجهاً إلى وجه ما عدا عريسي القدُّوس، حتى ولا الى الملائكة عندما كانوا يظهرون لي بشكل بشري. فكنت أحذر من كل مودّة أرضية، وليس عندي أي تشبث بإرادتي الخاصّة إلاّ بالله وحده.
في إحدى الرؤى شاهدت ماريا فالتورتا كيف تمّت تقدمة مريم الى الهيكل وهي في الثالثة من العمر منذ أن أخذاها والداها الى أورشليم، وودّعاها قبل أن تدخل الهيكل وتُغلق الأبواب خلفها.
في إحدى الرؤى شاهدت ماريا فالتورتا كيف تمّت تقدمة مريم الى الهيكل وهي في الثالثة من العمر منذ أن أخذاها والداها الى أورشليم، وودّعاها قبل أن تدخل الهيكل وتُغلق الأبواب خلفها.
أرى مريم بين أبيها وأمّها يسيرون في شوارع أورشليم.
يتوقّف المارّة لمشاهدة الطفلة الجميلة باللباس الأبيض بياض الثلج، المتدثِّرة شالاً رقيقاً جدّاً، يبدو لي برسومه من أوراق وزهور وتكاثف ألوان في أرضيّته أنّه نفسه الذي كانت حنّة ترتديه يوم تطهيرها. الفرق فقط هو أنّ حنّة حينما ارتدته لم يتجاوز نطاقها، بينما، وهو على مريم، يصل إلى الأرض، ويلفّها وشاح أبيض رقيق ومضيء بسحر نادر.
لون شعرها الأشقر المنسرح على كتفيها وعلى عنقها الرهيف يشـفّ من خلال الأرضيّة الرقيقة للغاية، حيث لا رسوم على الوشاح المثبت عند الجبهة بشريطة بلون زرقة السماء فاتحة جدّاً حيث كانت أمّها قد طَرَّزَت عليها زنابق صغيرة فضيّة.
الثوب، كما سبق وقلنا، أبيض ناصع ويصل إلى الأرض، وعندما تسير، بالكاد يمكن رؤية قدميها الصغيرتين في حذائها الأبيض. أمّا يداها الصغيرتان فتبدوان كتويجي “مغنولية” تَخرُجان من كُمَّين طويلين. وهكذا، فما عدا الإطار الأزرق في الشريطة التي على جبهتها، لا لون سوى الأبيض، وكأنّ مريم تلبس الثلج.
أمّا يواكيم وحنّة، فيواكيم يرتدي ثوب يوم التطهير ذاته وحنّة ترتدي البنفسجيّ الداكن جدّاً. حتّى المعطف الذي يغطّي رأسها فهو بلون بنفسجيّ داكن، وقد كان منسدلاً على عينيها، عيني أمّ مسكينة، الحمراوين من كثرة البكاء، بينما هما لا تريدان البكاء، كما لا تريدان أن يَرَى أحد الدموع فيهما، ولكنّهما لم تستطيعا الإحجام عن البكاء تحت غطاء المعطف. والحَذَر هذا كان من المارّة، وحتّى من يواكيم صاحب العين الصافية في العادة، والمغرورقة اليوم والمعكرة بسبب الدموع التي انسكبَت منها وما زالت تسيل. وهو يسير منحنياً كثيراً تحت وشاح أُعِدّ كعمامة لها جناحان يتدلّيان على مدى وجهه. يبدو يواكيم الآن عجوزاً للغاية، حتّى ليظنّه من يراه جدّ أو حتّى جدّ والد الطفلة الصغيرة جدّاً التي يمسكها بيده. الحزن على فقدانها جعل مشية الأب المسكين متثاقلة، والإعياء البادي على كلّ مظهره جعله يبدو وكأنّه كبر عشرين سنة. أمّا وجهه المنهك والحزين فلا يجعله يبدو هرماً فقط، بل وكأنّه وجه مريض. والفم يرتعش قليلاً بين ثنيتي جلد ظاهرتين اليوم بجلاء على طرفي الأنف.
يحاول الاثنان إخفاء دموعهما، ولكن حتّى ولو نجحا مع أغلب الناس، فإنّ ذلك كان مستحيلاً مع مريم، فإنّها، بسبب قامتها الصغيرة، تنظر من أسفل للأعلى، وبشكل متناوب إلى أبيها وإلى أمّها. وهما يحاولان الابتسام بشفاه مرتعشة، ويشدّان أيديهما بقوّة أكثر على يدي مريم الصغيرتين كلّما نَظَرَت إليهما مبتسمة. كانت تلحّ عليهما فكرة «ها هي مرّة أخرى على الأقلّ نرى فيها هذه الابتسامة».
يسيرون ببطء وتؤدة وكأنّهم يريدون إطالة مسافة الطريق قدر المستطاع، فكانوا يتذرّعون بأتفه الأسباب للتوقّف… ولكن لا بدّ لهذه المسافة مهما طالت أن تنتهي أخيراً! إنّها بحقّ على وشك أن تنتهي. ها هو حائط سور الهيكل في نهاية هذه الطريق الصاعدة؛ أجهَشَت حنّة وشدّت على يد مريم الصغيرة بقوّة.
أليصابت
من تحت قنطرة منخفضة عند تقاطع طرق يَصدُر صوت يقول: «حنّة، أيّتها المحبوبة، أنا معكِ!» فأليصابات التي كانت تنتظرها بالتأكيد تلاقيها وتضمّها إلى صدرها. وبما أن حنّة كانت تبكي فقد قالت لها: «تعالي، تعالي ندخل قليلاً إلى هذا المنزل، يا صديقتي، ومن ثمّ نذهب معاً. زكريّا هنا».
يَدخُلون جميعاً إلى غرفة منخفضة السقف ومظلمة، تلمع فيها نار كبيرة، فتنسحب المعلّمة، وهي بالتأكيد صديقة أليصابات، أمّا حنّة فلا تعرفها، تنسحب بأدب موفّرة للجماعة بعض الحريّة.
أخذَت حنّة تشرح موقفها من خلال دموعها: «لا تظنّي أنّني نادمة، أو أنّني أعطي الربّ كنزي بأسف… ولكنّه القلب… آه! قلبي! كم يَختَبر من الآلام، قلبي هذا العجوز الذي سيعود الآن إلى عزلته ووحدته، عزلة الأمّ التي لا وَلد لها ووحدتها… لو كنتِ تشعرين بذلك…»
«إنّي أدرك ذلك تماماً، يا حنّتي… إلا أنكِ امرأة صالحة والرب سيعزّيكِ في وحدتكِ. مريم ستصلّي لله كي يمنح السلام لوالدتها، أليس كذلك؟»
تُداعِب مريم يدي والدتها وتقبّلهما، ثمّ تمرّرهما على وجهها لتداعباه، أمّا حنّة فتشدّ على الوجه الصغير بيديها وتقبّله، تقبّله، إنّها لم تشبع منه تقبيلاً بعد.
زكريا
يَدخُل زكريّا ويُلقي السلام: «سلام الربّ على الأبرار». فيجيبه يواكيم: «نعم، اطلُب لنا السلام، فقلوبنا ترتعد من تقديمها. إنّها كتقدمة ابراهيم عندما كان يَصعَد الجبل، ولكنّنا لن نجد تقدمة أخرى نفتديها بها. ونحن طبعاً لا نريد ذلك لأنّنا أوفياء لله. ولكنّنا نتألّم، يا زكريا، يا كاهن الربّ، افهمنا ولا تستنكر ذلك.»
«أبداً؛ بل على العكس، فإنّ ألمكما الذي يعرف ألاّ يتعدّى الحدود المسموح بها، ولا يحملكما إلى الكفر، يُعَلّمني حبّ الباري تعالى. ولكن اطمئنّا فإن المعلّمة حنّة ستهتمّ بزهرة داود وهارون هذه أيّما اهتمام. فالآن هي الزنبقة الوحيدة في الهيكل المتحدّرة من نسل داود المقدّس. سنهتمّ بها كما بجوهرة مَلَكيّة. فمع أنّه قد بَلَغَ ملء الزمان، ويفترض بالأمّهات المتحدّرات من نسل داود تكريس بناتهنّ للهيكل، لأنّه من عذراء من أصل داود سيخرج الماسيا، وبسبب قلّة الإيمان، فالأمكنة المخصّصة للعذارى قد أصبَحَت خالية. هناك القليلات جدّاً في الهيكل، وليس فيهنّ واحدة من أصل ملوكيّ منذ أن خَرَجَت سارة التي لأليشع لتتزوّج منذ ثلاث سنوات. صحيح أنّه يلزمنا ستّ “خمسيّات” Lustres بعد لنصل إلى العهد، إنّما… لا بأس. نأمل أن تكون مريم هي الأولى من بين عذارى كثيرات من نسل داود أمام الحجاب المقدس… ثمّ… من يدري؟…» لم يضف زكريّا شيئاً آخر، ولكنّه ينظر إلى مريم وهو مستغرق في التفكير، ثمّ يتابع: «وأنا أيضاً سأسهر عليها. أنا كاهن، ولي حقّ الدخول. سأستغلّ ذلك من أجل هذا الملاك. وكذلك أليصابات ستأتي كثيراً لرؤيتها…»
«آه! بكلّ تأكيد! أنا في حاجة ماسّة إلى الله، وسوف آتي لأطلب من هذه الطفلة أن تحمل طلباتي إلى الأزليّ».
تتمالك حنّة نفسها، ولكي ترفع من معنويّاتها تردف أليصابات: «أليس هذا وشاح زواجكِ؟ أو أنّكِ قد خُطتِ طرحة جديدة؟»
إنّه وشاحي، وسأكرّسه معها للربّ. لم أعد أرى جيّداً… ثمّ إنّ دَخْلَنا قد شحّ كثيراً بسبب الضرائب من جهة ونوائب الدهر من الجهة الأخرى. لم أستطع زيادة المصاريف، فحَضَّرتُ لها فقط جهازاً فخماً لإقامتها في بيت الربّ، ولما بعد ذلك… ذلك أنّني أعتقد بأنّي لن أُلبِسها أنا نفسي في احتفالات زفافها… بينما أريد أن تكون يد أمّها دائماً، حتّى وهي باردة وقاصرة، هي التي تزيّنها لعرسها، والتي تنسج لها بياضات وثياب العرس.»
«آه! لماذا هذه الأفكار التعيسة؟»
«أنا عجوز يا نسيبتي. لم أشعر بعجزي يوماً كما أشعر به الآن تحت وطأة هذا الألم. آخر قوى حياتي قد وهبتُها لهذه الزهرة، للحَمَل بها وتغذيتها، والآن… الآن… ألم فقدانها يعصف بهذه القوى الأخيرة ويبدّدها.»
«يجب ألّا تقولي هذا أمام يواكيم.»
«إنّكِ على حقّ. سأفكّر أنّ أحيَى لزوجي.»
يتظاهَر يواكيم بأنّه لم يسمع شيئاً وأنّ انتباهه منصبّ على زكريّا، ولكنّه سَمِع وأطلَق زفرة عميقة واغرورقت عيناه بالدموع.
يقول زكريّا: «نحن الآن بالضبط بين الساعة الثالثة والسادسة، أظنّ أنّ وقت الذهاب قد حان».
ينهضون لارتداء معاطفهم والانطلاق. إنّما قبل خروجهم تركع مريم عند العتبة وذراعاها مفتوحتان: شاروبيم صغير يتوسّل: «أبي! أمّي! امنحاني بركتكما!»
لم تَبكِ هذه الشُّجاعة الصغيرة، ولكنّ شفتيها ترتعشان وصوتها، المتكسّر بنشيج مكتوم، يبدو عليه أكثر من أيّ وقت مضى أنين يمامة مرتعش. ويشحب وجهها، أمّا عيناها فقد حملتا نظرة قلق سلّمته لله، وتتعاظم بقوّة لدرجة اللامعقول، ودونما معاناة في الأعماق، ذلك ما سوف أشاهده فيما بعد على الجلجلة وأمام القبر.
يُبارِكها الأبوان ويقبّلانها مرّة واثنتين بل حتّى عشر مرات، ذلك أنّهما لم يكونا ليستطيعا أن يشبَعا منها. تبكي أليصابات بصمت، وزكريّا الذي لم يكن يريد إظهار ذلك تأثّر تأثّراً عميقاً. يخرجون حسب الترتيب السابق، مريم بين أمّها وأبيها، وأمامهم زكريّا وزوجته. وها هم داخل أسوار الهيكل.
تقدمة مريم الى الهيكل
«سأمضي إلى كبير الكهنة، أمّا أنتم فاصعَدوا إلى الشرفة الكبيرة.»
يجتازون ثلاث ساحات وثلاثة أروقة، وها هم عند أسفل مكعّب كبير من المرمر المتوّج بالذهب. وكلّ قبّة محدّبة كنصف برتقالة ضخمة تسطع تحت الشمس التي هي الآن، عند الظهيرة، تُسقِط أشعّتها مباشرة على باحة كبيرة محيطة ببناء مهيب، وتملأ أشعّتها السطح الكبير والسلّم الأثريّ الذي يؤدّي إلى الهيكل. فقط رواق الهيكل المقابل للسلّم الخارجيّ، على طول الواجهة، هو في الظلّ، وكذلك بوّابة البرونز والذهب العملاقة فهي أكثر عتمة ومهابة ولكنّها تتباين مع أضواء كثيرة.
تَظهَر مريم كأكثر ما يكون بياض الثلج تحت هذه الشمس الكبيرة. ها هي عند أسفل السلّم بين أبيها وأمّها. كم تراها تخفق قلوب الثلاثة! وأليصابات بجانب حنّة، ولكنّها متأخّرة عنها مقدار نصف خطوة.
صوت إعصار فضّي الرنّة، ثمّ يَدور الباب على مفصّلاته وكأنّه صوت إنذار من قيثارة، بينما الباب يَدور على كرات برونزية. ويَظهَر القسم الداخليّ من الهيكل بمصابيحه، ويتقدّم موكب باتّجاه الباب، قادماً من العمق، موكب مهيب يرافقه عزف أبواق فضّية وغيوم من البخور والأنوار.
عند العتبة، في المقدّمة يَظهَر أحدهم، يفترض أنّه كبير الكهنة. عجوز جليل بلباس كتّاني ناعم جدّاً، وفوقه جلباب كتّاني أيضاً ولكنّه أقصر منه، وفوقهما أيضا حلّة Chasuble. شيء وسط بين بدلة القدّاس ولباس الشمامسة مع تعدّد بالألوان: ذهب وأرجوان، بنفسجيّ وأبيض، تتداخل معاً وتلمع كأحجار كريمة تحت الشمس؛ وفوق كلّ هذا جوهرتان حقيقيّتان تلمعان أيضاً بحيويّة أكثر على مستوى الكتفين، قد تكونان عروتين مع فصّين ثمّينين. وعلى صدره لوحة متلألئة بالجواهر ومحمولة بسلسلة ذهبيّة. مناجد وتزيينات أخرى تلمع في أسفل الجلباب القصير، والذهب يبرق على الجبهة في القسم الأعلى لقلنسوة تذكرني بتلك التي يعتمرها الكهنة الأورثوذكسيّون، ولكنّها مدوّرة بدل أن تكون مروّسة كالتي للكهنة الكاثوليكيّين.
ويتقدّم الشخص المهيب بمفرده إلى الأمام حتّى بداية السلّم الخارجيّ في نور الشمس المذهّبة التي تجعله أكثر روعة. ينتظر الآخرون بترتيب دائريّ خارج الباب، تحت الرواق المظلّل. إلى اليسار هناك مجموعة من الفتيات باللباس الأبيض، مع المعلّمة حنّة ونساء أخريات مسنّات، وهنّ بالتأكيد معلّمات.
ينظر كبير الكهنة إلى الصغيرة ويبتسم. كانت تبدو لـه صغيرة جدّاً عند أسفل هذا السلّم الخليق بهيكل مصريّ! يرفع يديه إلى السماء مصلّياً، فيحني الجميع رؤوسهم، متلاشين أمام جلالة الكهنوت المتّحدة بالجلالة الأزليّة. ثمّ يشير إلى مريم.
تنفَصِل عن والديها وتصعَد، وكالمسحورة المفتونة ترتقي الدرجات. تبتسم. تبتسم لظلّ الهيكل حيث ينسدل الحجاب الثمّين… إنّها الآن في أعلى السلّم، عند قدمي كبير الكهنة الذي يضع يديه على رأسها. لقد قُبِلَت الذبيحة. هل حوى الهيكل قبلاً قرباناً أطهر منها؟
ثمّ يَلتَفِت واضعاً يده على كتفها، كما لو كان يبغي أن يقودها إلى المذبح، وهي الحَمَل الذي بغير عيب، يقودها إلى باب الهيكل، وقبل أن يُدخِلها يسألها: «يا مريم بنت داود هل هذه هي رغبتكِ؟»
تجيبه بـ نعم فضّية الرنّة. فيهتف: «ادخلي إذن وسيري بحضوري وكوني كاملة».
تدخل مريم وتبتلعها الظلمة، ثمّ تتبعها مجموعة العذارى والمعلّمات تليهن جماعة اللاويّين فتحجبها أكثر، ثمّ تفصلها.
لم تعد هناك… يدور الآن الباب على مفصّلاته بصوت متناغم، وتضيق فتحته رويداً، رويداً، تاركة مجالاً لرؤية الموكب الذي يتّجه صوب الأقداس. لم يعد الآن هناك سوى شقّ يتلاشى، ثمّ لا شيء، وأخيراً لقد أصبحَت في الحرم.
ولدى آخر صوت للمفصّلات المجلجلة، يجيب صوت العجوزين الذي يجهش، وبصرخة واحدة: «مريم! ابنتي!» ثمّ بأنينين متقاطعين: «حنّة!» «يواكيم!» ويختتمان: «لنمجّد الربّ الذي قَبِلَها في بيته، ويقودها على طريقه».
هكذا انتهى كلّ شيء.
ممّا قالته الكنيسة عن كتاب ماريا داغريدا “الحياة الإلهية للعذراء مريم” عند التحقيق وبعده:
إنّه إلهيّ بامتياز ! ولا شيء ممكن حذفه أو التخلّي عنه.
يمكننا أن نؤمن بأن إصبع الله كان يقود تلك اليد السعيدة فيما كانت تكتبه. وبما أن كتاباتها تفوق مقدرة ابنةٍ بدون علم،
فمن الضروريّ إذًا ان تكون من وحي الله أو إبليس.
وبما أنه يستحيل على إبليس أن يؤلّف كتابات سامية الى هذا الحدّ مِن النقاوة والكمال والقداسة، لم يعد هناك موضع للشّك بأنها من الله.
بعد دراساتٍ دقيقةٍ ومعمّقةٍ وطويلةٍ من الكنيسة لهذا الكتاب الفائق الطبيعة، وبعد تقريرات كثيرة عنه،
وبعد منعها له وحظره لفترات معيّنة للتحقّق من الإرادة الإلهيّة …
أقرّ مجمع الطقوس المقدّس بالإجماع على محتوى هذا الكتاب، برضى البابا بنوا الثالث عشر (قبل أن يصبح حبرًا أعظم يستعين بهذه السيرة في مواعظه) !
في 14 آذار عام 1729. وبهذا السماح المُطلق لم تَعد أيّ سلطة دينيّة قادرةٌ على َنقضه.
وهذا يعني أنّه ليسَ في كِتابتها شيءٌ مُناقضٌ لعقيدة وتعاليم الإنجيل.