وساطة إيرانية بين دمشق و«قسد»
صهيب عنجريني-
تواصل أنقرة العمل على ترتيب الأوراق استعداداً لعدوان جديد على الأراضي السورية. وتتحدث مصادر معارضة عن قرب انطلاق العمليات العسكرية في غضون الثماني والأربعين ساعة المقبلة. في المقابل، تشير معلومات «الأخبار» إلى تفعيل خطوط الحوار بين دمشق و«الإدارة الذاتية»، بوساطة إيرانية، قبل تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول «انسحاب وشيك».
«ستأتي المعركة حتماً». تبدو هذه الخلاصة أمراً مسلّماً به في ما يخص مناطق شمال شرق سوريا. ثمة ترجيحٌ لوقوعها، يتوافق عليه معظم الأطراف، ويبدو أنه مستندٌ إلى معطيات غير متداولة، تتجاوز بحجمها وأهميتها ما يطفو على السطح. لكن السؤال التاليَ الأهم اليوم هو حول حدود تلك المعركة، ومآلاتها المتوقعة، وما قد يتمخّض عنها، أو يستبق حدوثها من توافقات بين هذا الطرف أو ذاك. ومع أن «تغريدات» الرئيس الأميركي دونالد ترامب هي التي أطلقت سباق التكهّنات المُعلن، لكنّ المنغمسين في الملف وراء الكواليس لم يكونوا في انتظار هذه الشرارة.
ثمة جهود انطلقت قبل تغريدات ترامب. تقول معلومات «الأخبار» إن الحرارة بدأت، قبل فترة، بالعودة إلى خطوط التفاوض (ثمة من يفضّل تسميته حواراً) بين دمشق و«قوات سوريا الديمقراطية». ويوم السبت الماضي، عُقدت جلسة مهمة في هذا الإطار، كان مسرحها محافظة حلب، بحضور «وسطاء إيرانيين». بطبيعة الحال، ثمة الكثير مما لا يمكن الكشف عنه مما دار في ذلك الاجتماع، لكن المؤكد أنه جاء بهدف «إيجاد أرضية مشتركة يُمكن البناء عليها». تتحدث مصادر «الأخبار» عن حضور قيادات وازنة من «قسد» و«وحدات حماية الشعب»، وعن تشديد إيراني على ضرورة الالتزام ببعض الأساسيات قبل الخوض في أحاديث التفاصيل. الوسطاء الإيرانيون ذكّروا، وفق المصادر، بجولات سابقة وصلت إلى طريق مسدود بسبب «عدم الالتزام». ثمة عرض إيراني قديم، يعود إلى زمن معركة عين العرب «كوباني» (2014)، سبق العرض الأميركي، ووضع على الطاولة خيار دعم «القوى الكردية» (لم تكن «قسد» قد تشكّلت بعد) ضد تنظيم «داعش». غير أن العرض الأميركي الذي جاء تالياً بدا أشدّ «إغراءً» وقتها. ولم يعد مجهولاً المسار الذي سلكته الأمور: دعم أميركي، فانتصارات لـ«قسد» على الأرض، وصولاً إلى مرحلة تفاقم الشعور بالقوة لدى بعض الأطراف الفاعلين فيها، قبل أن تبدأ الساعة بالدوران في اتجاه معاكس على وقع التوافقات الروسية التركية، وما تبعها لاحقاً من مجريات، وصولاً إلى سقوط عفرين في قبضة الاحتلال التركي، والفصائل الموالية له.
حين لوّحت واشنطن بخيار الانسحاب من سوريا في العام الماضي، تعالت بعض الأصوات السورية الكردية المنادية بوجوب البحث عن توافقات مع دمشق، قبل أن تنجح الرؤوس الحامية في استعادة زمام الأمور، لا سيّما مع تفريغ تصريحات الانسحاب من مضامينها لحسابات ترتبط بموازين القوى الأميركية في الدرجة الأولى. اليوم، يبدو المشهد مشابهاً، غير أن حسابات الرؤوس الحامية اختلفت بعض الشيء بفعل تكرار الصفعة الأميركية، ولو بدت صوتية حتى الآن. مع ذلك، هناك داخل «قسد» من يتمسّك بالرهان على واشنطن وبعض دول الاتحاد الأوروبي، أملاً في استنساخ ما حدث سابقاً من التفاف على قرارات الانسحاب. هنا تحديداً «مربط الفرس»، وفق تأكيدات مصادر أمنية سورية. تعزو المصادر، في أحاديث غير رسمية، «الفشل في الخروج بحلول تحصّن المصلحة الوطنية» إلى «سقوط البعض في فخ السراب الأميركي». تبدي المصادر حذراً واضحاً من الخوض في التفاصيل، أو الإدلاء بأي توقعات لما قد تؤول إليه الجهود الراهنة، باستثناء التأكيد أن «الفرص قائمة دائماً إذا كانت المصلحة الوطنية هي البوصلة الوحيدة».
تاريخ العاشر من الشهر الجاري هو «الساعة الصفر» المرجّحة لـ«بدء العمليات»
وفي المقابل، يرى مصدر سياسي كردي متابع لتطورات الحوار بين دمشق و«قسد» منذ سنوات أن «المسؤولية في إنجاح أي تفاوض هي مسؤولية مشتركة». وانطلاقاً من ذلك، يمكن «تصنيف أيّ لوم أحادي الجانب ضمن خانة التجنّي»، وفقاً للمصدر المقيم في الحسكة. وعلى رغم كل العثرات التي أعاقت، حتى الآن، الوصول إلى تفاهمات جوهرية بين الدولة السورية و«الإدارة الذاتية»، فإن قدرة الطرفين على التفاهم حول كثير من القضايا تجعل فرص نجاح أيّ وساطة جدية بين الطرفين قائمة. ولا تقتصر التفاهمات على بعض الملفات الخدمية والاقتصادية، بل تتعداها إلى «تعايش سلمي»، حيث لم يُسجّل خرق يُذكر منذ شهور طويلة في مناطق سيطرة مشتركة، ولو كان حضور أحد الطرفين فيها رمزياً. ولا ينطبق التفصيل الأخير على الحسكة فحسب، بل يشمل أيضاً محافظتَي دير الزور والرقة، علاوة على مدينة حلب التي يشكّل حي الشيخ مقصود حالة لافتة فيها. ولا يزال الحي المذكور أشبه بـ«منطقة إدارية ذاتية» مصغّرة برضى الدولة السورية. ومن المسلّم به أن تعثّر الجولات السابقة يرتبط بشكل كبير بتدخلات خارجية كبيرة، علاوة على تباينات في الآراء داخل كل طرف من الأطراف الفاعلة. وحتى الآن، يصعب الرهان على أن الجولة الحالية ستحظى بخاتمة مختلفة، لا سيما أن السمة الأساسية لمعظم الجولات أنها جاءت «تحت الضغط»، بما يجعلها أقرب إلى «ردّ الفعل». ولا يختلف الأمر كثيراً اليوم، خاصة أن المعطيات الميدانية لا توحي بأنها ستتيح للأطراف كثيراً من الوقت لـ«بناء الثقة»، في ظلّ مواصلة أنقرة العمل على استكمال تهيئة الأجواء لعدوانها المرتقب.
وعلاوة على الجهود السياسية التركية التي تعمل على ترتيب الأوراق مع كلّ من موسكو وواشنطن، تؤكد مصادر من داخل «الجيش الوطني» المحسوب على أنقرة أن «الاستعدادات العسكرية مستمرة». تشير المصادر، في حديث مع «الأخبار»، إلى تاريخ العاشر من الشهر الجاري بوصفه «الساعة الصفر» المرجّحة لـ«بدء العمليات». لكن ما يصعب الكشف عنه، وفق المصادر، هو «حدود المرحلة الأولى من العمليات». على المقلب الآخر، تؤكد مصادر من داخل «قسد» أن «الجاهزية عالية لصدّ العدوان، ومن يظن أنه قادم في نزهة سيكتشف خطأه سريعاً». لا تجد المصادر فائدة في مقارنة المشهد اليوم بما كان عليه عشية العدوان على عفرين. وتؤكد، في الوقت نفسه، أن «لكل معركة ظروفها العسكرية والسياسية طبعاً. والأرض ستكون مقبرة لغزاتها».
-الأخبار-