العميد د. امين محمد حطيط –
حلب تتهيّأ بكلّ أحيائها ليوم النصر الأكيد، ليس في مواجهة بضعة آلاف من الإرهابيين اغتصبوا أمرها وأفسدوا
أمنها وقهروا شعبها لأربع سنوات خلت فحسب، بل تتهيأ ليوم نصر تعلن فيه هزيمة المشروع الاستعماري الذي شن أصحابه حرباً كونية على سورية لإسقاطها وإلحاقها بمنظومة الأدوات ــ حراس المصالح الغربية ــ في منطقتنا، أو على الأقل لتقسيم سورية واغتصاب قطعة منها تكون بمثابة أداة تحريك وإفساد أمن المنطقة وإرهاق محور المقاومة وشلّه بما يريح إسرائيل وأربابها الغربيين.
لقد انتصرت سورية ومحور المقاومة والحلفاء في حلب، وتمدّد انتصارهم ليكون من طبيعة مركّبة ميدانية وسياسية واستراتيجية شاملة حتى أنه فرض نفسه على دلالات بعض العبارات والكلمات الاصطلاحية التي كثر تداولها خلال العدوان وباتت المنطقة والعالم أمام تقويم جديد وعصر جديد يثبت ما كان بدأته المقاومة في العالم 2000 يوم سجلت الانتصار المبين على العدو الإسرائيلي والمشروع الاستعماري الاحتلالي الذي ينفذه، ويتأكد كم كانت بعيدة النظرة الاستراتيجية للسيد حسن نصرالله الذي قال يومها وبكل ثقة بالنفس ولّى زمن الهزائم وحلّ زمن الانتصارات ، فحلب تحتضن في ثنايا بشرها وحجرها نصراً استراتيجياً يتخطّى في أبعاده ومفاعيله أي انتصار آخر نصر يكاد يذكّر بمعركة الخندق في صدر الإسلام الذي قيل فيها إن الكفر كله جمع واحتشد لينازل الإيمان كله. وفي حلب احتشد باطل العدوان والتكفير والإرهاب، احتشد بقضّه وقضيضه وبكل وسائله العسكرية والسياسية ونازل الفئة الصابرة الممسكة بحقها، الرافضة للهوان والتنازل والتراجع، وتلاقى الجمعان في حلب وكانت الغلبة لأصحاب الحق والانتصار لأهل الأرض وأصحابها. وبدأ تاريخ ما بعد حلب …
بعد حلب لن يكون مجدياً الحديث عن تقسيم سورية، ولن تكون قيمة لتهويل مسؤول أوروبي. وقال مؤخراً إن مخاطر التقسيم في سورية تلوح في الأفق، فانتصار حماة وحدة سورية في حلب، يؤكد أن مشروع التقسيم ولّى إلى غير رجعة وأن مَن أخرج 12 الف إرهابي مدجّجين بالسلاح من 50 كلم2 من المناطق المبيّنة في حلب في أقل من أسبوعين قادر على إخراج من تبقى من الإرهابيين والتكفيريين من باقي أرض سورية، وبكل ثقة وبكل إيمان بالنصر الأكيد والقرار الآن لا وقف للنار الدفاعية والتطهيرية قبل أن يتوقف العدوان وتتطهّر الأرض السورية والعراقية من رجس الإرهاب .
بعد حلب لن يكون مفيداً أو مجدياً الحديث عن شروط تتصل بموقع سورية الموحدة على الخارطة الإقليمية، فحلب أكدت أن لسورية حلفاء صادقين يتمسّكون بها كما تتمسّك بهم للاستمرار في تكوين وتفعيل محور المقاومة الذي أثبت قدرته على المواجهة والدفاع عن نفسه وعن المنطقة وموقعها في النظام العالمي الجديد الذي ولد من الرحم السوري في حلب الآن. فسورية كانت القلعة الوسطى في محور المقاومة وستستمرّ كما كانت فاعلة وأكثر فاعلية متسلّحة بخبرات وانتصارات ومناعة حصّلتها خلال حربها الدفاعية القاسية.
بعد حلب لن يكون مفيداً، لا بل سيكون نوعاً من الهرطقة والسخرية أن يُقال إن الحل السلمي مشروط بتنحّي الدكتور بشار الأسد. فالأسد هو مَن سيذهب الى حلب وهو مَن سيعلن منها الانتصار وهو الذي سيقود سورية المنتصرة بذاتها وحلفائها الى برّ الأمان، وبالتالي مَن أراد أن يكون له موقع وشأن في الحل السياسي للأزمة عليه أن يذعن للحقيقة ويسلّم بواقع الأمور وأن يعترف أن في سورية حكومة شرعية يقودها الرئيس الأسد وأن فيها شعباً هو مَن يقرّر. وكما قرر الشعب في انتخابات سابقة واختار الأسد رئيساً تستمر ولايته حتى العام 2021، فإن الشعب أيضاً سيقرر مَن يقبل أو يرفض في منظومة حكم سورية، ولن يقبل أن يفرض عليه حكامه كما يفرض الحكام في منظومة حراس المصالح الغربية في الخليج الذين احتشدوا بالأمس في المنامة في البحرين وجاءتهم رئيسة وزراء بريطانيا تُملي عليهم وتحدّد لهم باسم المنظومة الانكلوسكسونية ماذا عليهم فعله أو الامتناع عنه خدمة للغرب الاستعماري.
ولقد بدأ الانتصار في حلب يفرض نفسه على بعض المكابرين فبدأوا يحاولون تغيير عباراتهم وإبدال معانيها ومصطلحاتها وإن كان الأمر يبدأ أولاً بخفر وخجل من الاعتراف بالهزيمة. ونقول أليس مفاجئاً أن يسمع من وزير الخارجية الأميركية أن الحل السياسي لا بد أن يتضمن دمج المعارضة في السلطة؟ عبارة أطلقها لتكن بديلاً للعبارة الممجوجة السابقة والتي كان يقول الأميركيون فيها إن أيام الأسد معدودة وعليه أن يرحل . والآن لا يرون طريقاً تنقذ شيئاً من ماء وجههم إلا أن يرضى الأسد بأن يضمّ إلى حكومته بعضاً ممن يسمّونهم معارضة معتدلة .
أمر يستحق الوقوف عنده، لا بل يتوجب الوقوف عنده خاصة بعد أن أعلن الرئيس الأميركي المقبل ترامب بأن أولويات اميركا في عهده ليست تغيير الأنظمة وإسقاط حكام الشعوب، بل اولوياتها هي محاربة الإرهاب والقضاء على داعش، موقف يجعل أميركا نظرياً ـــ حتى ولو لم ينفذ عملياً ــــ يجعلها في خندق واحد مع حلف الدفاع عن سورية المتمثل بمحور المقاومة وروسيا والحلفاء الآخرين الذين يواجهون الإرهاب بصدق وفعالية، ويؤكد بأن الهدف الأساسي للعدوان المتمثل بإسقاط سورية سقط إلى غير رجعة واعترف قادة العدوان بسقوطه.
بعد حلب سيكون العالم وبشكل أكيد أمام نظام عالمي جديد، كنّا توقعنا قيامه قبل خمس سنوات، وها هو الآن يبرز في خطوطه العريضة التي ليس فيها أحادية قطبية أو هيمنة جهوية، بل فيها المجموعات الإقليمية والدولية الاستراتيجية القادرة على تحقيق توازن دولي وعلى المحافظة على قدر عالٍ من استقلالها وسيادتها، وبشكل يؤكد سقوط نظرية التدخل الدولي الإنساني المستبيح سيادات الدول، وطبعاً سقوط فكرة أو نظرية أميركا شرطي العالم وقائدته .
بعد حلب سيتغيّر وجه الميدان السوري، وسيكون على من شارك في العدوان وهُزم أن يبحث عن طريق نجاة تحدد خسائره، ولن يفيد التركي مكابرة أو تعنت وعليه أن يفهم أن أحلامه قبرت في حلب، كما وعده الرئيس الأسد، وأن يتصرّف بذهنية الدفاع عن مصالحه داخل حدوده، أما خارجها فعليه أن يحترم فيها سيادة الآخرين وإلا ….
بعد حلب لن تكون مخالب عربان الخليج مؤثرة في البنية السورية، خاصة أن طبيعة القتال والمواجهة الميدانية في سورية ستتغير شكلاً ومضموناً وقوى مشاركة مع إعادة رسم خريطة المواجهة والجبهات وتحضّر بعض من الحشد الشعبي العراقي للانتقال الى سورية للمساهمة في التطهير النهائي لها بعد الفراغ من تطهير الموصل.
وفي الخلاصة نقول إن انتصار حلب رسم خط الانطلاق نحو إنهاء الأزمة السورية التي افتعلها العدوان الخارجي، إقليمياً ودولياً وبأدوات محلية وخارجية أيضاً، وإن نهاية هذه الازمة باتت تلوح في الأفق ومعسكر الدفاع يسعى إليها حثيثاً بسيره على خطين: خط ميداني لاجتثاث الإرهاب، وخط سلمي سياسي فيه المصالحة والحوار الوطني وقرار الشعب السوري في تحديد مَن يحكم سورية.
المصدر: البناء