عَ مدار الساعة


إميل لحود بين قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية

د. غسان ملحم- البناء-

9 سنوات في قيادة الجيش. وكذلك 9 سنوات أخر في رئاسة الجمهورية. إذاً، 18 عاماً بين الجيش والسياسة. نحو عقدين متتاليين من الزمن في السلطة والحكم ومركز القرار السياسي. وهي لم تكن بالحقبة السهلة، لا في قيادة الجيش، ولا حتى في رئاسة الجمهورية. بل إنها كانت مرحلة مهمة ودقيقة من تاريخ البلد والمنطقة. فقد شهد عهد الرئيس العماد إميل لحود، بين اليرزة وبعبدا، العديد من الأحداث والمحطات والتحديات السياسية والأمنية. لم يكن من السهل أبداً أن تكون في دائرة القرار السياسي، وكذلك العسكري، في تلك الفترة، وربما قبلها وبعدها أيضاً.

عند الدخول إليه للقائه، يطالعك الرئيس لحود بابتسامته المعهودة لدى استقبالك، والارتياح يبدو جليّاً على وجهه، بعد كلّ تلك الظروف الضاغطة التي مرّ هو بها، وشهدها البلد، منذ ما يزيد عن العقد من الزمن تقريباً. إذاً، تجده مبتسماً ومرتاحاً، وكأني به في استراحة محارب، وهو لا يزال في «جهوزية» تامة، مفعم بالنشاط والطاقة والحيوية، لم تنل منه كلّ تلك التجارب التي خاضها، بل إنه يبدو في ذروة الاستعداد الدائم للعودة من جديد إلى ساحة المواجهة والمعركة!

ولدى سؤله عن علاقته بعدد لا بأس به من رموز وأعلام الطبقة السياسية التقليدية، والمقصود هنا عدد لا يُستهان به من الساسة أو السياسيين اللبنانيين الذين اعتادوا وامتهنوا استزلام الناس واستغلالهم، في إطار شبكة مركبة ومعقدة من الزبائنية السياسية، الممزوجة بالعصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية، أجاب، بشكل قاطع، لا يقبل الشك، بأنه لم ينسجم يوماً معهم، لا في قيادة الجيش، ولا حتى في رئاسة الجمهورية وهو متأكد، ويجزم بذلك، من أنه يختلف معهم في كثير من الأمور والأفكار ما يجعله يمقت الذهنية أو العقلية التي تسود السياسة اللبنانية، والتي لم نتمكّن، حتى تاريخه، من تجاوزها وتخطيها.

وفي ما يتعلق بحزب الله، أو لنقل المقاومة، وهي ليست شيعية البتة، برأيه، نظرته إليها وعلاقته بها، يروي الرئيس لحود كيفية تبلور نظرية ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، ويؤكد أنّ ما يجمعه بالمقاومة، كفكرة أو قيمة وطنية، وبالسيد حسن نصر الله شخصيّاً، والذي لم يلتقه، طوال حياته العسكرية ومسيرته السياسية، سوى مرات قليلة ومعدودات، هو الضمير والعلم ويرى، بالتالي، أنّ العلاقة مع المقاومة، قيادة وحركة، مبنية على الثقة والصدق، وهي علاقة استراتيجية، نتيجة الإيمان واليقين بأهميتها وجدواها في مواجهة إسرائيل، بعيداً من مختلف الحساسيات والتموضعات والإصطفافات الفئوية، الطائفية والمذهبية، والتي تصبّ أولاً وأخيراً في مصلحة العدو الإسرائيلي.

وفي محاولة للإجابة على سؤال حول ما إذا كان هناك من شيء، أيّ شيء، فيما لو عدنا بالذاكرة إلى الوراء، يندم أو يأسف عليه، لحصوله أو لقيامه به، ينتظر بعض الوقت قبل أن يجيب، ويعود بشريط الذكريات إلى حيث تأخذه سنون طويلة مضت، ثم يجيب، بحزم وعزم، بأنه غير نادم على أيّ شيء، أيّ فعل أو عمل هو قام به، من توحيد الجيش، ونزع أسلحة الميليشيات، واسترداد ممتلكات الدولة، إلى مواجهة «إسرائيل»، ودعم خيار المقاومة، والوقوف إلى جانب سورية، وما إلى ذلك، وبأنّ ضميره مرتاح، وهو يبدو واثقاً للغاية مما يقول ولكنه يأسف فقط لأنه لم يكن يتكلم، ولأنه ظلّ صامتاً طوال الوقت، فيقول إنه كان عليه أن يتصدّى، منذ ذلك الحين، لكلّ أؤلئك الذين حاولوا تشويه الحقائق وضرب صورته، ومن معه، أمام الرأي العام والناس أما عدا ذلك، فلو عاد به الزمن إلى الوراء، فإنه لن يتردّد في أن يعيد الكرة، في كلّ مرة، وأمام أيّ استحقاق أو في أية مناسبة، استدعى منه ذلك موقفاً حاسماً و»متقدّماً».

وحين تسأله عن ماهية الفعل أو العمل أو الموقف الذي يفتخر ويعتز به، بأنه قام به، أو حتى ساهم في إنجازه، فإنه يجيب، بكلّ ثقة، من دون أي تردّد أو تلكّؤ، وبابتسامة مطمئنة، أنه، اليوم، مقتنع، أكثر من أيّ وقت مضى، بأنه لم يكن مخطئاً أبداً، بل كان محقّاً وعلى صواب، حين رفض ضرب المقاومة منذ البداية وهو يرى، في هذه اللحظة أو المرحلة السياسية والتاريخية، ما هي عليه راهناً، أيّ المقاومة، وما بلغته من قوة وخبرة، وكذلك حال لبنان معها، وما حازه من منعة وثبات. ويضيف أنه حين حاول البعض، في لبنان وفي سورية، من اللبنانيين والسوريين المولجين بالملف اللبناني، إقحام الجيش اللبناني الموحد في معركة أو مواجهة مع المقاومة، منذ وقت مبكر، فوجئ كثيراً بعدم علم ومعرفة الرئيس الأسد الأب بالأمر ثم يقول بأنّ مثل هذا الموقف تكرّر مرات عدة، فكثيراً ما حاول البعض، في بيروت وفي دمشق، تمرير العديد من الصفقات والمخالفات والارتكابات من دون معرفة القيادة السورية العليا في الشام!

غريب أمر هذا الرجل! رباطة الجأش التي لديه، وإرادته وعزيمته اللتان لم تلينا، برغم كلّ شيء، وعنفوانه الذي لم ينكسر، بعد كلّ تلك الضغوط والمشقات. تراه، كما يقول هو، في أفضل حالته، وبكامل نشاطه وحيويته، يمارس الرياضة التي اعتادها منذ زمن بعيد، فشبّ وشاب عليها. لم تجهده ولم تنهكه كلّ تلك السنين، بل العقود، التي مرت، ببراثنها وغياهبها. يعيش حياته بشكل طبيعي، ويزاول عمله، كالمعتاد، في مكتبه وفي منزله. ويختم بأن يقول إنّ أهمّ شيء في هذه الحياة، بالنسبة له، هو الضمير الذي يقرنه بالكرامة الوطنية، أو الكرامة والوطن، لتتشكل وتتبلور بذلك الثلاثية التي زرعها والده فيه، حيث يستذكرها ويستحضرها، وقد ورثها عنه…

أستاذ محاضر وباحث مشارك في العلوم السياسية والإدارية والعلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية وجامعة مونپلييه الفرنسية