هيام القصيفي-
في مقابل الاستقرار الأمني، تشهد الساحة الداخلية انفجاراً للمشكلات الاقتصادية والمالية والاجتماعية. لا يمكن مرجعاً أمنياً أن يغضّ النظر عن توقيت هذا الانفجار، والغاية منه في الوقت الراهن، نظراً إلى تداعياته على التهدئة السياسية والأمنية. فحتى الآن حيّد لبنان نفسه عن العاصفة الإقليمية بالحد الأدنى من ارتدادها عليه، لناحية الأعمال الإرهابية والمجموعات المسلحة، وتمكّن من قمع الكثير من محاولات إقحامه في دهاليز التوتر الإقليمي. كان يفترض تبعاً لذلك، أن يدخل لبنان فترة هدوء تسمح للسلطة القائمة باستعادة أنفاسها، بعد الانتخابات النيابية وتشكيل الحكومة، وترتيب الأوضاع الداخلية الاقتصادية والاجتماعية. لكن ما حصل أن لبنان أدخل نفسه في أزمة، كان في غنى عنها، ليس لجهة نوعية الملفات المطروحة، بل لجهة طريقة مقاربتها وأسلوب الضغط الذي يمارس يومياً إعلاميا وسياسياً، ما يضاعف عوامل القلق الشعبي وتوتره. وهذا في حد ذاته لا يبشر بالخير.
في استعادة روزنامة الأحداث وتطوراتها، جاءت ملفات الموازنة والرواتب والكلام عن وضع الليرة، ومكافحة الفساد والهدر، لتضع لبنان أمام تحدٍّ صعب، داخلي وخارجي على السواء. داخلياً، أي تعثر في تقديم موازنة مدروسة وعملية وترضي الطبقات الفقيرة والمتوسطة، من خلال معالجة مكامن الهدر الحقيقية، وعدم المسّ عشوائياً برواتب ومخصصات الموظفين ورواتبهم من دون الأخذ باقتراحات اختصاصيين، يعني أن الحالة الشعبية ستكون على موعد مع تفاقم توترها وامتعاضها من أداء الطبقة الحاكمة. وأي موازنة غير متقشفة، ومعالجة للملفات الاقتصادية والمالية ستكون على مشرحة المجتمع الدولي، الذي يعاين لبنان انطلاقاً من مطالبة الأخير بمساعدته الدائمة اقتصادياً ومالياً عبر المؤتمرات الدولية، في حين أنه يعد موازنة لا تتلاءم مع متطلبات التقشف على مستويات الدولة كلها، وليس قطاعات محددة فيها.
بين هاتين النقطتين، تكمن أهمية لملمة الوضع الداخلي، خشية تفاقمه، لأن ثمة إشارات غير مطمئنة، توحي وكأن هناك رغبة في تجييش الشارع وزيادة الضغط فيه. ولبنان ليس فرنسا، وتظاهرات السترات الصفر لن تكون شبيهة بأي تصعيد في الشارع اللبناني، حيث تكثر العناصر المساهمة في تأجيج التحركات المطلبية، وتحويلها توتيراً أمنياً. وهذا يضاعف من ريبة الأمنيين، في أن يكون ثمة محاولات لسحب الشارع إلى حركة اعتراضية واسعة في توقيت مريب، ولا سيما أن التلويح بتخفيضات باتت تشمل كثيراً من القطاعات الحيوية، وشحن بعضها ضد البعض الآخر، من خلال كشف أرقام ورواتب ومخصصات وإظهار فروقات في أوضاعها، ما يضاعف عوامل الهزات الداخلية. وهذا كله يأتي في مرحلة هادئة أمنية، لكن مليئة بعوامل إقليمية مقلقة تزيد من الضغط على لبنان.
يقول أحد السياسيين إنه بقدر رغبة بعض المسؤولين في معالجة الفساد وقمع الهدر، وقد بدأ حزب الله في فتح هذا الملف مبكراً، إلا أنه يخشى أيضاً أن يكون إدخال الملفات المعيشية على خط المواجهة، جزءاً من استدراج لبنان إلى أزمة غير مسبوقة، لأن الدول التي تساعده عادة منصرفة عنه حالياً. وقد تكون هناك أيضاً محاولات لوضع لبنان، في خلال مرحلة العقوبات الأميركية على حزب الله، أمام تحدٍّ لا قدرة لديه على تجاوزه. فحزب الله أصبح شريكاً أساسياً في الحياة السياسية والمالية على حد سواء، وأي تضييق عليه، وانجرار لبنان إلى مواجهات محلية وخارجية في الملفات الأساسية الحيوية، يعني أن ثمة خطراً حقيقياً، يفترض التحسب له. فواشنطن على سبل المثال، التي تقول إنها لا تريد المسّ باستقرار لبنان، لن تركض بالضرورة إلى مساعدته إذا دخل في أزمة اقتصادية مالية.
وهنا يكمن التحدي الحقيقي أمام الطبقة الحاكمة، لأن أي انهيار اقتصادي لن يكون أي طرف بمنأى عنه. فخلال مرحلة تأليف الحكومة، كان هناك بعض المنظرين حول الرئيس سعد الحريري ممن يعتبرون أن وجوده في مرحلة تصريف الأعمال، يعفيه من مسؤولية التدهور الاقتصادي والنقدي. لكن الوضع اليوم مختلف، لأن العهد والحكومة وحزب الله والرئيس نبيه بري كلهم في خندق واحد، والحريري رئيس حكومة ستنتج موازنة، مهما كان من أعدها وإلى أي فريق انتمى، وستكون موازنة حكومته، كما موازنة العهد، ولن يقدر على التبرؤ منها والتصرف وكأنها لا تعنيه. وهذا يجعل إنقاذ الوضع الحالي من مسؤولية الجميع، بمن فيهم مصرف لبنان، لأن الملاحظات التي أدلى بها الوزير منصور بطيش، ليست منعزلة عن توجه سياسي يعدد سلسلة ملاحظات إضافية على أداء المصرف وتقييده حركة السوق. لكن حتى الآن لا يبدو التوجه إلى معالجة الثغر الحقيقية، على قدر التخوف من انعكاسات ما سيحصل عملياً، خصوصاً في ضوء التجاذب الحاصل بين القوى السياسية لتسجيل النقاط، وليس لتقديم مقترحات عملية واضحة، حتى إن التباينات داخل الفريق الواحد أُضيفت إلى المؤشرات السلبية التي تجعل من التوتر السياسي عاملاً إضافياً لغليان الشارع.
علماً أن مقترحات جدية وُضعت على مشرحة الطبقة الحاكمة في الأيام الأخيرة، ومنها استعادة اقتراحات تقدم بها اختصاصيون ووزراء مال سابقون وخبراء محنكون، لكن المشكلة أن غبار الحسابات السياسية الخاصة يطغى على أي اعتبار. وهذا تماماً ما يرصده المجتمع الدولي، الاقتصادي تحديداً، والذي لديه عيون كثيرة تراقب ما يجري في لبنان.
-الأخبار-