– حمل مسيحيو سوريا والعراق والأردن وفلسطين إيديولوجيات الأكثرية..!!
– يهمس في آذان المسيحيين اللبنانيين من قبل البعض، أنْ التحقوا بركب “صفقة القرن”!!
***
قد تكون المناسبة السنوية للإبادة العثمانية للأرمن والسريان حافزاً للتفكير في قضايا المسيحيين المشرقيين ومسألة دورهم. ذلك أن المسيحيين يجب ألا يكونوا دعاةَ ندبٍ وبكاء على الأطلال واستسلام، بل حملة قيمِ الرجاء والقيامة…
لم يعتد مسيحيو لبنان والمشرق إلا أن يكونَ دورهم طليعياً ورائداً في مجتمعاتهم التي حملوا قضاياها وهمومها الكبرى وطرحوا الأفكار والمشاريع للخروج من أزماتها البنيوية العميقة. إذا كان حضورهم قد تراجع إلى حد النزيف في سوريا والعراق في العقود الأخيرة وخاصة بعد سقوط عاصمة الخلافة العباسية بغداد بفعل الإجتياح الأميركي الذي أطلق مسار تفكك دول المشرق وتوحش الحركات التكفيرية، وبعد امتداد الحريق إلى سوريا عقدة المشرق، فإن ذلك لا يلغي أنهم سيبقون حتى انقضاء الدهر في هذه المنطقة التي ولد فيها المسيح، مؤتمنين على دورٍ طليعي وعلى أفكار النهضة والمساواة والمواطنة التي كانوا روادها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في عصرٍ يكاد يتشابه في بعض أوجهه وتداعياته مع ما يحصل منذ الحرب السورية وامتداداتها. لا من أجل محيطهم العربي والإسلامي فحسب، بل من أجل أنفسهم بالدرجة الأولى…
بين الدور والحقوق
هناك في الوسط المسيحي اللبناني تحديداً من يرفض طرح فكرة “الدور” كشرط لبقاء الوجود المسيحي في لبنان والمشرق، ويتمسك بفكرة الحقوق الأساسية على أنها وحدها ضمان هذا الوجود وليس من خلال الدور الذي يكاد يوازي من قبل أصحاب هذا الطرح “الذمية” لأنه يقارب مسألة الوجود المسيحي من خلال العلاقة مع “الآخر” المسلم وتصوير المسيحي على أنه حاجةٌ له. وفي المطلق فإن أصحاب هذا الطرح محقون، لكن التجارب التي مرّت بها المسيحية المشرقية منذ ظهور دول الخلافة الإسلامية مروراً بالحروب الصليبية وصولاً إلى التحولات الراهنة تظهر أن “الدور” حاجة أساسية للحفاظ على الوجود و”ازدهاره”، خاصةً وأن عصبيات هذه المنطقة والصراعات الإقليمية والدولية، لم تسمح حتى الساعة ببقاء الدول والأنظمة التي تؤمن الإستقرار المجتمعي أولاً، والمساواة المنشودة من ضمن دولة المواطنة المدنية على المثال الأوروبي الذي تحلم به نخب المنطقة.
يرتبط مفهوم الدور الذي تحدثت عنه نظريات علم الإجتماع والعلاقات الدولية بتصور الفرد أو الجماعة أو الدولة لذاتها وتأثيرها والمقدرات على ممارسته، وهو وظيفة أساسية للحفاظ على تأثير المجتمعات البشرية في المحيط الذي تحيا فيه.
الدور المشرقي والذاتية اللبنانية
ومنذ العصر العباسي، كان مسيحيو المشرق أصحاب دور فاعل نهضوي ثقافي وشكل الأساس للعصر الذهبي للخلافة العباسية الذي ازدهرت فيه العلوم والحركة الفكرية. ومنذ العصور الإسلامية الأولى حتى أواخر العصر العثماني حين أيقظ المفكرون المسيحيون العرب المشرق والعالم العربي من سباته عبر طرحهم المفاهيم الجريئة التي أسست لنهضة الغرب ومجتمعاته، بقي المسيحيون أصحاب دور فاعل من خلال تأثيرهم في مجتمعهم، وأيضاً عبر العلاقة مع السلطات الحاكمة والتي تمكنوا من خلالها أن يبقوا أنفسهم حاجة من دونها يبقى الشرق في أزماته وتخلفه.
من خلال هذا السياق، أسسوا الحركات الإيديولوجية التي نادت بالعلمنة والمساواة وبالقومية والفكر الإشتراكي، عاكسين محاولة لفرض الحداثة الغربية ومفاهيمها في القومية والدولة المركزية، علهم بذلك ينقذون أنفسهم من شبح الحكم الديني الذي يعيدهم إلى عصور الإضطهاد والتهميش الذي مورس عليهم، خاصةً حين كانت الأنظمة الحاكمة تعود إلى التشدد لتأمين شرعية إسلامية لحكمها أو حين يتهددها غزوٌ خارجي.
أما لبنان فكان سياقاً موازياً ومختلفاً عن الفكر القومي بشقيه العروبي و”السوري” الذي قاده المسيحيون وخاصة الروم الأرثوذكس منهم. أتت فكرة لبنان توسيعاً للنطاق الجغرافي المتمثل بجبل لبنان للحفاظ على الدور المسيحي في نظامٍ سياسي يكونوا المتصدرين فيه، على أنه ضمان للوجود وللقيم التي حملوها والتي يعتبرونها أنها هي الخلاص لمجتمعات المنطقة، في احترام التنوع وتكريس الحريات الفردية والجماعية وفي طليعتها حرية الإعتقاد، وفي تجسيد حضور المجموعات الطائفية في نظام سياسي تشاركي. وفي حين حمل مسيحيو سوريا والعراق والأردن وفلسطين إيديولوجيات الأكثرية وكان وجودهم مرتبطاً إلى حد كبير بسياسات الأنظمة الحاكمة، بقي وجود المسيحيين اللبنانيين ودورهم مرتبطين بذاتيتهم بغض النظر عن حركة تراجع تأثيرهم وتقدمه بعد العام 1990، هذا إضافةً إلى الذاتية لدى أقباط مصر والتي تمكنوا من الحفاظ عليها عبر العصور ولم تمنعهم في الوقت نفسه من المشاركة في حمل القضايا الوطنية المصرية من ضمن دور فعال ومؤثر بالمشاركة مع مواطنيهم المسلمين.
إن كلي المسارين، القومي الإندماجي والذاتي ومثاله دور مسيحيي لبنان، لم يستطيعا كبح التحديات الخارجة من رحم التفاعل المجتمعي ووطأة ضغط المشاريع الإقليمية غير العربية والدولية على الشرق الأوسط، من التأثير على الوجود المسيحي سلباً. فقد أبرزت الحروب والنزاعات التي مزقّت مجتمعات العراق وسوريا أن هناك في مكان ما رفض مجتمعي لوجود المسيحيين بحد ذاته نتيجة للأفكار المتشددة التي ترفض الآخر، على ما أظهرته شهادات المسيحييين المهجرين من الموصل وطريقة التعاطي معهم من قبل مواطنيهم في المدينة. وهذا ما يزيد من التهديدات لفكرة الدور، فأي دور يُرتجى إن تهجر مسيحيو العراق إلى مدن السويد والدانمارك وغاب مسيحيو القامشلي والخابور والحسكة عن قراهم وأرضهم التاريخية، واضمحل وجود المسيحيين الفلسطينيين في مهد المسيح، وكيف يبقى مسيحيو لبنان مؤثرين إن بقي مفهوم دورهم ضائعاً بين الإستراتيجية البعيدة المدى وضيق النظر في الصراع المحموم على فتاتِ سلطة؟
تهديدات وفرص
دخل العالم العربي ومشرقه مجدداً في مرحلة حملت معها سواد الظلام الإرهابي وعودة الحكم السلطوي وضبابية الآفاق في ظل مشاريع دولية “تصفووية” لحقوق الشعوب، بعد بزوغ مؤقت لفجرٍ للحريات والمساواة والأنظمة التي يمكن أن تؤمن الإعتراف بالآخر وبناء دولة مواطنة فعلية بعد نجاح الإنتفاضتين في تونس ومصر عام 2011. لكن الصعوبات والمعضلات تحمل معها دائماً جانبين، الأول مصدر للتهديد الوجودي والثاني الفرصة للمبادرة والحركة وصياغة الأدوار الوظيفية والمؤثرة في المحيط. ليس عيباً أن نقول إن الدور الوظيفي هو منطلق للبقاء بسبب الحاجة إلى الوجود المسيحي الفاعل والمؤثر. في محيط كهذا هو أشبه بأرض بركانية دائمة الثوران ومصدراً للفوالق الزلزالية المدمرة التي تطيح بجماعات بأكمله من دون أن يرف رمش “العالم الحر” ومواثيقه التي تتكلم عن الحقوق الطبيعية والأساسية باحترام الوجود وكرامة الشخص والآخر المختلف، في هذا المحيط يبقى الحفاظ على الذات والدور هو الضمان الأفعل للوجود.
أي دور لمسيحيي لبنان؟
فهل دور المسيحيين اللبنانيين اليوم، وهم الأفعل في الحضور في النظام السياسي، مرتبط فقط بالصراع على السلطة التي تتغير فيها الأحجام والمعادلات، أم أن هذا الحضور، على أهميته، يجب أن يسانده دور آخر، ذات بعدٍ نهضوي استراتيجي وظيفي في معادلات المنطقة وعصبياتها وأنظمتها المتصارعة؟
هناك مثلاً من يهمس في آذان المسيحيين اللبنانيين من قبل البعض، أنْ التحقوا بركب “صفقة القرن” الآتية، وكونوا رسلاً لسلامٍ مزعوم بين العرب والإسرائيليين. الإسرائيليون الذين يضمون الجولان السوري وينشئون المستوطنات ويهوّدون أرض فلسطين، عل هذا الدور يعزز تأثيرهم في المنطقة من بوابةٍ بالغة الخطورة، وسبق للقوة المسيحية السياسية ولمسيحيي الشوف وعاليه خاصةً أن ذاقوا لوعتها بعد مفصل عام 1982. في المقابل هناك في القوى ذات الحضور الكبير في البيئة المسيحية من ينادي بالدور الوسيط في ظل الإنقسام الإسلامي السُني – الشيعي، سعياً لحماية لبنان فيكون المسيحيون اللبنانيون قد استعادوا دورهم الفاعل من هذه البوابة، كما يؤكد أن على الرغم من كل ما حصل ويحصل للمسيحيين المشرقيين، فإن لا مناص من أن نكون رواداً للقضايا المحقة لشعوب هذه المنطقة حتى وإن “نامت نواطير (العرب) عن ثعالبها”. يكفي التفاعل مع مشهد الرئيس ميشال عون وطروحات وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل في القمم العربية ليظهِر قوة التأثير في شعوب عالم عربي تحاول بعض دوله أن تقود مشروع التطبيع مع كيانٍ عنصري.
وهناك في موازاة ذلك أصواتٌ فكرية وثقافية تعيد التشديد على طرح “الدور” الكبير من أجل حضور مزدهر، لكن ذلك يستتبع أسئلة استطرادية حول معالم المشروع الوطني الذي يمكن أن “يبقى” (آتية من شعار “لنبقى”) فيه المسيحيون ويحيون ويزدهر دورهم الطليعي القيادي المشارك في مصير هذه المنطقة الملعونة بآثام الصراعات الدولية الكبرى وثرواتها المنهوبة وموقعها الجغرافي البالغ التأثير. أولى شروط هذا الدور عدا الجانب السياسي منه، هو التميز في المجالات كافة. فهل لا يزال المسيحيون اللبنانيون تحديداً، مبادرين ورياديين في التربية والثقافة والإعلام والصحة والإقتصاد؟؟ هل ذهبت بهم الثقافة الإستهلاكية وقيم التفاهة والسخافة والإستعراض الفارغ وغياب المضمون، أم أن صروحهم الفكرية والجامعية لا تزال منطلقاً للأفكار الرائدة وللحوار بين جميع اللبنانيين وللتفكير الإستراتيجي في تهديدات من نوع الإرهاب الذي ينطلق من مدارس فكرية متشددة ليصل شواطئ سريلانكا وإندونيسيا، ودراسة واقع القوى الإقليمية والدولية لمعرفة صياغة التحالفات الكبرى، ومرتكزات الحفاظ على الأرض والمدرسة، فضلاً عن نفض المؤسسات الدينية لتعود رهبانيةً رسولية كما كانت في القرون الماضية والتي طحنت الصخور السحيقة لتصنع هذا اللبنان؟؟
إن إيجاد أجوبة ليس بالتحدي الصعب على قوة اجتماعية قادت مشاريع كبرى وجريئة وخطرة. إنما التحدي الحقيقي هو في عدم الغرق في مستنقعات الصراع على السلطة الخاضعة لتغيّر الأحجام والمعادلات بل في بناء دولة الحق واستمرار النضال والتفكير من أجل أن يكون مسيحيو لبنان والمشرق رياديين ليبقوا، ولا ينساقوا لطروحات الإستسلام والنحيب والنعيق على الخرائب، فنحيا وتحيا المنطقة ولا تتكرر “سيفو” وأخواتها…
صحافي وباحث سياسي، رئيس تحرير “موقع اليوم الثالث” ومنسق الأبحاث في “معهد الدراسات المستقبلية”