سورية: لسنا بحاجة لإقناع الحكومات، ما يهمنا الرأي العام والجيش السوري أسوة بجيوش العالم يقاتل الإرهاب.
يروي الصحافي والمحلل السياسي سام هيلير كواليس مؤتمر إعلامي سوري، استضافته سورية الشهر الماضي، في مقال له بمجلة “فورين بوليسي” الأميركية، ما دار في المؤتمر.
المؤتمر استضاف صحافيين من اكبر شبكات الأخبار ووكالاتها الأميركية والبريطانية، فضلاً عن محللين سياسيين، والهدف “تقديم واجهة أخرى للحرب، وفتح قناة حوار جديدة مع الغرب”، وفقاً لكاتب المقال.
واليكم الجزء الثاني…
لقد كان منظمو المؤتمر قد أكدوا من قبل على أن الحدث ليس تظاهرة دعائية للحكومة، ولكن عندما سأل ديكستر فيلكنز من صحيفة New Yorker ، المعلم، كيف تشرح سوريا موقفها للحكومات التي قطعت كل علاقاتها الدبلوماسية، أجاب المعلم إجابة كشفت فهماً مغايراً فقال: “لسنا بحاجة لإقناع الحكومات، بل ما يهمنا إقناع الرأي العام. ولهذا السبب أنتم هنا. أنتم هنا لتنقلوا الحقيقة. دوركم هو القيام بحصتكم من العمل كي تساعدونا”.
ومضى المعلم يجيب على أسئلة الصحفيين برباطة جأش وثبات لا يبالي، مثل الأسئلة التي تتهم النظام بالقسوة على مناطق المعارضة. الصحفية آن بيرنارد من النيويورك تايمز سألته عن صرامة وشدة استراتيجيات الحكومة وتكتيكها في حلب، فأجابها : “أنت وجهتم لي صفعة على…”، وأشار إلى خده “وأنا بدوري أدافع عن نفسي، كما تفعل جيوش العالم بأسرها”.
ولكن ما شعرت به من أجواء المؤتمر هو أن الحكومة السورية فعلاً كانت صادقة في محاولة كسبنا إلى صفها، فقد عاملتنا معاملة احتفائية كأنما فرشت لنا السجادة الحمراء، بدءاً من استقبالنا في قاعة التشريفات وكبار الزوار على الحدود اللبنانية، حينما ختمت جوازات سفرنا بكل يسر وسهولة وعلى مهل، إلى حفل العشاء الفاخر بصحبة نخبة المسؤولين في دمشق بفندق الشيراتون.
وعندما زار حضور المؤتمر الأجانب الرئيس بشار الأسد في منزله، كان مضيافاً مرحباً وظلَّ محافظاً على حضور لطيف حسن المعشر، حتى عندما يتعرض لأسئلة قاسية. مع ذلك لم يكن محتوى إجاباته وما أدلى به للصحفيين والمحللين السياسيين الحاضرين جديداً أبداً، بل كان في معظمه تكراراً متمسكاً بمواقف الحكومة الرسمية لكن بشكل ونبرة أكثر وداً وفصاحة.
ثم أنهى الأسد لقاء المجموعة مناقشاً لعبة الإعلام “الخطرة” التي تحاك ضد سوريا، وذكر مثالاً عليها – من تلقاء نفسه ودون أن يوجه له أحدٌ طلباً أو سؤالاً- التغطية الإعلامية لـ”الدفاع المدني السوري”، أو ما يعرف بـ”الخوذات البيض”، فقال: “إنهم من تنظيم القاعدة وجبهة النصرة، كل ما في الأمر أنهم غيروا لون جلدهم”.
وكان الأسد قد قال أمام صحفيين من بلدان حليفة إن الخوذات البيض هم ذراع الغوث لتنظيم القاعدة، فقد قال الشيء ذاته قبل عدة أسابيع للصحيفة الروسية Komsomolskaya Pravda، وانتشرت أقواله في تلك المقابلة لتعتمدها قنوات الإعلام الموالية للنظام.
الآن لدي ما أصارحكم به: كنت قبل عدة سنوات قد اضطلعت بوظيفة باحث مع جهة تقوم بتدريب فرق الدفاع المدني، ولذلك كنت أعلم أن عمليات الدفاع المدني في مناطق المعارضة السورية تضطر أحياناً للتعامل مع الجهات العسكرية هناك، وحفنة من الفرق المحلية قد تورطت بأعمال مشبوهة..
إن لهجة خطاب المسؤولين السوريين المتشبثة والخالية من التنازلات، وإن أجواء المؤتمر من داخله ومن حوله، سواء في استراحات احتساء القهوة التي عجّت بكبار المسؤولين من القطاعين الخاص والعام في دمشق، أو من خلال مداخلات بعض الحضور السوريين التي لم تبد كأسئلة، قدر ما بدت تعبيرات جياشة عن الولاء للحزب. كل هذه دللت على أن النظام لم يتعلم أو يتأقلم خلال السنوات الخمس الأخيرة.
لكن هذا التصلب في الموقف ليس بالضرورة خداعاً للنفس أو توهماً، بل في الواقع ثمة ما يدعونا للاعتقاد أن استمرار الثبات على هذا الموقف هو في حد ذاته الموضوع برمّته، فهو جزء من استراتيجية سياسية محلية متعمدة. ففي شوارع دمشق يبدو أن الحكومة نجحت في الحفاظ على سلطة نظامها من أيام ما قبل الحرب.
ثقافة التحلق حول شخص الرئيس الأسد وشخصيته ما زالت طاغية، حتى إنها أحياناً تبدو أكثر قوة ومضاء مما كانت عليه قبل الحرب، وليس أقل الأسباب وراء ذلك وجود صورته معلقة على كل نقطة تفتيشية وحاجز أمني من الحواجز التي تغطي المدينة.
في لقائه معي ومع زملائي، أكد الأسد شخصياً أن لسلطته حدوداً دستورية ومؤسساتية، تاركاً بذلك للآخرين مهمة تفسير مركزية شخصه في الدولة السورية.
شعرت بغصة عندما حاولت إقناع مواطنين دمشقيين مهذبين، لكن غير مرتاحين للحديث، بأن يصارحوني بوضع الاقتصاد وأوضاع مناطقهم، فقد عبَّر هؤلاء السوريون العاديون في الطرقات عن نقاط ومواقف الحكومة بشكل أكثر إقناعاً من أي حلقة نقاش أو ندوة حوارية.
فاتورة العنف وضريبته الموجعة بادية ظاهرة في كل مكان داخل المناطق حتى إن عامل كهرباء كان منهمكاً في العمل على الجهة الأخرى من القاعة قال لي كيف أن الأطفال تعودوا على الحرب فقال “يسمعون ضجة ما فيخبرونك ما هي وعن مصدرها”. يقولون مثلاً “هذا صاروخ ضرب الجيش، أو هذه نيران مدفع دوشكا. من أين لكم كل هذه المعارف؟ ألستم في الصف الثالث الابتدائي؟”
ويستحيل أن تسير في دمشق من دون أن تلحظ المشاركة الفاعلة للمرأة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن التنوع الديني والطائفي في دمشق.
إن هذه الجوانب في حياة دمشق اليومية ليست كل شيء، لكنها قَطْعاً لا تغفل كذلك ولا يمكن تجاهلها، وهي تشع ضوءاً يتضاد مع قتامة مشهد المعارضة السورية، لأن المعارضة اعتنقت التعصب الديني الطائفي بشكل سافر.
إن هذه الجوانب في حياة دمشق اليومية ليست كل شيء، لكنها قَطْعاً لا تغفل كذلك ولا يمكن تجاهلها، وهي تشع ضوءاً يتضاد مع قتامة مشهد المعارضة السورية، لأن المعارضة اعتنقت التعصب الديني الطائفي بشكل سافر.
إن إنجازات النظام في سورية في حكم البلاد وإدارتها أثناء الحرب “الأهلية” كانت في جملتها دفاعية، بيد أنه لا ينبغي أبداً التقليل من شأنها أو الاستخفاف بها. لقد حافظت الحكومة على تسيير مؤسسات الدولة التي ما زالت قائمة، كما أنه تمكن من الاحتفاظ لنفسه بهوية وطنية سورية شاملة تتسامى فوق الطوائف والأعراق. للنظام مؤيدوه النشطون في صميم داخله، لكنه أيضاً كسب الدعم النشط أو حتى السلبي من طرف العديد من السوريين الذين يودون الحفاظ على ما تبقى من الدولة، والذين أنهكتهم الحرب أو يخشون مما يرونه معارضةً، ركبها التعصب والتطرف والفوضوية الحربية التجارية.
إيليا سمان، رجل أعمال وعضو في مجموعة معارضة داخلية تتقبلها الحكومة السورية، اسمها الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقد أسهم في تنظيم “مجالس مصالحة محلية” في البلدات والقرى القريبة من دمشق، نتج عنها تسليم المعارضين لأنفسهم وإعادة الحكم والسلطة إلى يد الحكومة.
أخبرني سمان أنه قد حُبِس وعُذِّب قبل الحرب، لعضويته في حزب سياسي غير قانوني، واعترف أنه بعمله الحالي يخدم مصالح الدولة السورية…
لكنني عندما سألت وزير الخارجية المعلم قبل أكثر من أسبوع على الانتخابات الأميركية، إن كان يسمح بفرصة تعاون مع الرئيس دونالد ترامب ضد تنظيم داعش، أجابني وقتها بنعم قطعية، لا مراء فيها، وقال: “لا يمكنك إنزال الهزيمة بداعش بالقصف الجوي فقط، بل أنت بحاجة لقوات برية. إن هدفنا الأساسي هزيمة داعش، وليس هزيمة الولايات المتحدة”.
منذ انتخاب ترامب عبَّر المسؤولون السوريون عن تفاؤل حذر بإمكانية ذوبان في جليد العلاقات مع الولايات المتحدة. أما ترامب من جهته فقد أوضح أنه مهتم بمحاربة داعش، لا محاربة الحكومة السورية، فإن سعى ترامب جدياً إلى تعاون مع روسيا، فليس من المستبعد أن تبدأ الولايات المتحدة التنسيق مع حلفاء موسكو في دمشق.