– من انطاكيا الى لبنان حركة توافقية وعلاقات مصيرية مع الآخر “الله- المسيح- لبنان” (أبرز دراسة مفصلّة لتاريخ المارونية، – الأب يوسف يمين )
***
الموارنة هم المسيحيون الذين تجمّعوا حول كاهن يدعى مارون وتبعوا نهجه في الحياة.عاش مارون في جوار إنطاكية في أواخر القرن الرابع. وكانت الكنيسة آنذاك عرضة للانقسامات. فكان الذين يقولون إن يسوع هو اله والذين يقولون انه انسان، والذين يقولون إن له مشيئة واحدة والذين يقولون إن له مشيئتين.
وكانت الخلافات على أشدّها في المدن والقرى وفي البيت الواحد. فترك مارون المدينة وصعد إلى جبل، ليكون في مأمن من المنازعات اللاهوتيّة ويعبد الله.
وعرف مارون في خلوته على الجبل إن دعوته هي أن يكون مع الشعب. فعاد إلى الرعيّة وراح يعلّم. فكثر تلاميذه ودعوا باسمه، موارنة. مات مارون سنة 410 ولكن تلاميذه تابعوا المسيرة. وفي سنة 451 في أثناء المجمع المسكونيّ الذي عقد في خلقيدونيّة كان لهم موقف صريح. أوضح المجمع العقيدة الصحيحة حول شخص يسوع المسيح. يسوع هو اله وإنسان وله طبيعتان إلهيّة وإنسانيّة… فأيّده الموارنة ودافعوا عن مقرّراته.
وسرعان ما أصبح أعداء المجمع الخلقيدونيّ أعداء الموارنة الذين دفعوا ثمن ذلك 350 شهيداً، وأخذوا يتركزون ويلجأون أكثر في جبال لبنان.
وكان اللبنانيّون في جبل لبنان قد اهتدوا، في أواخر القرن الخامس، إلى المسيحيّة على يد بعض من تلاميذ مارون وأصبحوا موارنة، فرحّبوا بإخوانهم القادمين إليهم من جوار إنطاكية، وتابعوا معهم المسيرة. ولما استتبّ الأمر نهائياً للعرب في المنطقة، وتعذّر الاتصال ببطريركيّة القسطنطينيّة بصورة منتظمة، اضطر الموارنة إلى أن ينصبّوا، في سنة 687، بطريركاً عليهم هو مار يوحنا مارون.
كان ملك بيزنطية بمثابة ملك الكنيسة. يعيّن بطاركتها ويتدخّل في شؤونها. وكان المسيحيّون يرجعون إليه في كل أمر. ولما نصّب الموارنة بطريركاً عليهم، غضبت بيزنطية. وفي أثناء غزوة شنّتها على المنطقة، حصل اصطدام بين الموارنة والجيش البيزنطيّ في أميون، كانت الغلبة فيه للموارنة، بعدما حشد البطريرك من بلدة سمار جبيل (القلعة) الموارنة للزود عن انفسهم ثم جعل كرسيه الأسقفيّ في كفرحي كرسيّاً بطريركيّاً. وتمكن الموارنة من الحفاظ على كيان شبه مستقل في خلال فترتي الخلافة الاموية والعباسية محافظين بذلك على ديانتهم المسيحية ولغتهم السريانية حتى القرن الثالث عشر عندما تمكن المماليك من إخضاعهم.
وأقبل الموارنة على الصخور يحوّلونها تربة يزرعون فيها القمح والشعير والزيتونة والكرمة والتوتة… وجعلوا رجاءهم في الله وأضافوا إلى صلواتهم هذه الصلاة الرائعة: “أبعد يا رب بصلوات أمك عنالأرض وسكانها ضربات الغضب. لاش الأخطار والفتن، وامنع الحرب والسبي والمجاعة والوباء. تحنّن علينا نحن الضعفاء. افتقدنا نحن المرضى. ساعدنا نحن المظلومين. أرح الموتى المؤمنين الذين انتقلوا من بيننا. وأهّلنا جميعاً إلى مصير امين، لنرفعنّ إليك المجد إلى الأبد”.
وقد أقر المجمع البطريكي الماروني 2006 الملف الأول الفصل الأول ص. 40 الهوية: ”كنيسة أنطاكية سريانية ذات تراث ليتورجي خاص“. ينتسب الموارنة إلى الكنيسة السريانية وهم يتبعون أنفسهم لسلطة البابا في روما.
وتتخذ الكنيسة المارونية اليوم من دير بكركي في لبنان مقرًا لها. يبلغ عدد الموارنة في العالم حوالي ستة ملايين نسمة. وفي دول منهم سوريا والعراق والإمارات وقطر وفلسطين كما يوجد الكثير من الموارنة هاجروا منذ القرن التاسع عشر إلى عدد من اصقاع العالم ولا سيما إلى فرنسا وكندا.
الأصول
أول من تحدث عن أصل الموارنة ونسبه للمردة هو البطريرك الدويهي، نقلاً عن المؤرخ ثيوفانس المتوفى عام 818، وقد قال الدويهي أن المردة هم أنفسهم الموارنة الذي خضعوا لحكم يوحنا مارون، ثم جاء يوسف السمعاني في القرن الثامن عشر ليؤكد هذه النظرية مستخلصًا أنّ “المردة أجداد أهالي لبنان والموارنة الحاليين”، ثم جاء المطران يوسف الدين الذي كتاب بإسهاب حول كون المردة هم الموارنة في كتابه «الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤصل».
أما المردة حسب ثيوفانس، فهو قوم لجأوا الى لبنان عام 669 حين كان خاضعًا الحكم الأموي واستطاعوا السيطرة على البلاد الممتدة من الجبل الأسود وحتى حدود القدس، ويقول ثيوفانس أن أهالي البلاد والعبيد والأسرى انضموا إليهم حتى زاد عددهم عدة آلاف، ما أصاب معاوية بن أبي سفيان بالذعر، فأرسل موفدين إلى الإمبراطور قسطنطين الرابع ليقوم بدفع جزية سنوية مقابل استئمان جانب المردة، فوافق الإمبراطور وحرر الطرفان بذلك وثيقة مدتها ثلاثين عامًا. إلا أنه وعندما أصبح عبد الملك بن مروان خليفة عام 685 كانت الأوضاع الاقتصادية في سوريا سيئة وعادت هجمات المردة من لبنان على أراضي الأمويين، وبنتيجة مفاوضات وافق الإمبراطور يوستيان الثاني على إجلاء المردة من لبنان، وهو ما يلومه عليه ثيوفانس، إذ إنه “هدم بيديه السور النحاسي المنيع في لبنان” مقابل حصول الإمبراطور على ألفي دينار ذهبي سنويًا واقتسام ضريبة قبرص وأرمينيا، وقد بلغ عدد المخرجين من لبنان 12,000 شخص. ويقول الدويهي أن من “الموارنة المبعدين” عمل في البلاط وتزوج أميرات، وهكذا أصبحت العائلة الإمبراطورية مختلطة بالطائفة المارونية، دون أن يقدم تفاصيل أو أي مرجع استند إليه في هذا القول.
أبرز دراسة مفصلّة لتاريخ المارونية، كما وردت في كتيب الأب الدكتور يوسف يمين
المقدمة
للتوضيح (ايلمارونية وتعني المارونية، بعد ان تمّ إختصار كلمة ايل عبر الأجيال وتباعاً الى كلمة “الـ” ومنها جاءت كلمة الله باللغة العربية)
“إيلمارونية”، أضواء تاريخية فكرية وحضارية جديدة على المارونية. وقد ألمحتُ اليها في إطار نظرية جديدة متكاملة، ولأول مرة، في ملحق جريدة النهار اللبنانية في 31- 11- 1992.
واليوم اطلقها بالفم الملآن والصوت العالي والمتعالي. ومن الشمال بالتحديد اي من المهد الحضاري و اللبناني والماروني– اطرحها امام الموارنة والمسيحيين واللبنانيين. في سماء المشرق وامام العالم كله. “ومن له اذنان سامعتان فليسمع”…
“إيلمارونية”، نظرية فكرية تاريخية حضارية ثقافية علمية صرف. ليس لها علاقة لا بمفهوم “السياسة – المسخ” السائد اليوم، ولا بمفهوم “الطوائفجية” الأمسخ من المسخ التي تلوث أجواءنا الفكرية والعلمية والحضارية… وتشوه حقيقة الدين.
“إيلمارونية” حركة محض فكرية لمن يريد ان يفكر بعقله وليس بجيبه او بطنه او غريزته او اعصابه…
إنها نظرية تاريخية تجمع بين جذور الماضي العريق ونبض الحاضر الواعي والتخطيط البنّاء للمستقبل. وهي موجهة لذوي الأعماق والآفاق الذين لم يقطعوا جذورهم ولم تحجب تفاهة حاضرهم افق المستقبل.
إنها نظرية حضارية تهيء للدخول المناسب في ملحمة القرن الحادي والعشرين حيث بدأ كوكب الأرض يصبح “قرية الكترونية واحدة “… وحيث بدأت هذه القرية تمهد لعلاقات اكيدة مع قرى وبلدان ومدن هذا الكون الرحب الشاسع العجيب الذي يغص ويكتظ بالحضارات المتنوعة…
إنها نظرية علمية. موجهها العقل وهي تهدف الى الوصول الى الحقائق الموضوعية. تنطلق من الدوافع والأسباب والبواعث، تستخدم الوسائل والأساليب الملائمة. وتخلص الى النتائج المناسبة؛ وهي تستند الى القرائن والحجج والبراهين الثابتة في المجالات المحض علمية، كالجغرافيا والتاريخ والجيولوجيا، والطوبونوميا والطوبولوجيا، وعلوم النبات والحيوان والإنسان والإجتماع… ولكن “علمية “هذه النظرية علمية منفتحة. ليست علمية “مسكرة” كما كانت في اواخر القرن التاسع عشر…، بل علمية القرن الحادي والعشرين:
التي تجمع وتوحد بين لامتناهيات ثلاث:
- اللامتناهي في الصغر (عالم الذرة والإلكترونيات والكومبيوتر…)
- اللامتناهي في الكبر (عالم الفضاء والحضارات الكونية…)،
- اللامتناهي في التنظيم (او الفوضى) الإنساني..
وانسان القرن الحادي والعشرين سوف يجمع ويوحد في شخصه هذه اللامتناهيات الثلاث المتكاملة…
“إيلمارونية “نظرية محددة تركز بنوع خاص على البذرة المارونية الأولى، على النواة المارونية الأساسية، على الأصول الأولية للمارونية. ما طبيعة ونوع وجنس هذه البذرة؟ ما مكونات ومقومات هذه النواة في العمق والأساس؟ ما طبيعة وهوية هذه الأصول تحديداً؟ واذا توصلنا الى معرفة حقيقية للبذرة والنواة والأصول، امكننا حينئذ، وحينئذ فقط، التوصل الى معرفة الشجرة. أليست الشجرة، كل شجرة، كامنة في البذور؟ في بذورها التي هي في ارضها؟
لغيرنا، ولو متوهماً، ان يكتفي بالنظر الى مظهر الشجرة المارونية، او ان يلوي اغصانها كثيراً حتى الكسر ليقطف ثمارها، او ان “يضمنها” او يبيعها ظاناً انها ملك ابيه… لغيرنا ان ينساها او يتناساها كسلاً او خوفاً او إمعاناً في الجهل والسطحية والتفاهة. امّا نحن، وخاصة في هذه الأيام المصيرية… فيهمنا ان نعلن للعالم ما هي المارونية الحقيقية الأصلية العريقة. ماهي البذرة او النواة او الأصول المارونية…
- ما هي الطبيعة،
- ما هي الهوية،
- ما هو الكيان،
- ما هي الذات المارونية في الأصل، في العمق، في الجوهر الأولي الأساسي.
ذلك، لأن المعرفة هي برأينا الضرورة الأولى، والبقية تأتي فيما بعد تبعاً لهذه المعرفة. ولأن الفكر هو القوة الأقوى في الحياة، والقوة الأبقى والأخلد…
أجل! ايها الماروني إعرف ذاتك ولكن إعرفها، على حقيقتها الأعمق والأشمل… فالمعرفة هي بداية الطريق، أية طريق. وخاصة في هذه الأيام المصيرية…
تمهيد
الإطار الحيّ المتكامل للذات المارونية
ولكي يعرف الماروني نفسه عليه ان يوفر مسبقاً، في فكره وحياته، شروطاً اساسية، أهمها:
– المعرفة التاريخية للبذور المارونية، للينابيع والأصول والجوهر الأولى.
– المعرفة الحقة للكيان الماروني، للطبيعة المارونية، للذات المارونية، للجوهر الماروني العميق.
– المعرفة الحقة للمكونات والمقومات والمكنونات المارونية، على جميع الأصعدة.
– المعرفة الحقة للدعوة المارونية، للدور الماروني، في الشرق والعالم…
اليكم باختصار شديد وتبسيط سريع الإطار الكامل الشامل للمارونية، تاريخياً، جغرافباً، حضارياً، وفكرياً…
منذ حوالي 15 ألف سنة هبطت على الأرض بعثة مؤلفة من 200 شخص من حضارة كونية راقية جداً، بغية نشر حضارتها على الأرض. وكانت الأرض عهد ذاك في حالة متخلفة جداً نسبياً… كانت في طور انسان “النِيَانْدرتال” او “الكرومانيون”… ولقد هبطت تلك البعثة على المدارج الضخمة لقلعة بعلبك القديمة – القلعة الأولى التي هي تحت الأرض، والتي يظهر منها بعض المداميك في الجهة الغربية. وفوراً بعد الهبوط صعد افراد البعثة الفضائية الى “جبل لبنان” الذي هو اصلاً وتحديداً “جبل المكمل” اليوم. كانت البعثة مؤلفة من عشر فرق، مجموعها مئتا عنصر. كانت اسماؤهم تنتهي جميعها بـ”إيل“!
ذلك لأن هذه البعثة الفضائية كانت تحمل ديانة وحضارة الإله الكوني الواحد: إيل. وكانت تريد نشر هذه الديانة وهذه الحضارة في كوكب الأرض… وقد تبنى زعماء البعثة العشرة كبير جبل لبنان في تلك الأيام وكان اسمه: “أخنوخ” – وهو أخنوخ التوراة. لقنوه اولاً أسرار ديانتهم وحضارتهم ثم قواعد معارفهم وعلومهم وفنونهم، لكي ينشرها في كل اصقاع الأرض، اي لكي “يُحضّر” الأرض…
وبالفعل فقد نشر أخنوخ، مع ابنائه واحفاده، وبواسطة سفن فضائية، هذه الديانة وهذه الحضارة في جميع اقطار الأرض. وكان له اسماء عديدة بعدد اسماء مؤسسي الحضارة في القارات والمناطق والبلدان المختلفة. في كل مكان كان له اسم بلغة السكان المحليين: انه اخنوخ التوراة، تور الكنعانيين الأولين (في ملاحم اوغاريت- راس الشمرا) طاطا الفراعنة، تاوتس الإسكندرية، اوانس الميزوبوتاميا، ميترا الشرق الأوسط القديم، هرمس اليونان، مركور الرومان، ابن الآلهة والشمس مؤسس حضارة الأزتيك والإنكا والمايا، هرمس الهرامسة عند المدارس والفرق الدينية السرانية القديمة والحديثة الى اليوم في الشرق والغرب، وهو اخيراً إدريس النبي عند العرب والمسلمين…!!
اجل! كل هذه الأسماء او الألقاب تعني شخصاً تاريخياً واحداً بالذات… وهو الذي انطلق من لبنان واسس، مع اولاده واحفاده، جميع الحضارات المعروفة في الأرض. (لامجال هنا للتفاصيل والإثباتات، بل نتركها الى مؤلف ضخم نعده من حوالي 18سنة،وسوف نبدأ بإصداره قريباً…)
وفي العهد الجديد، وعندما حل ملء الزمان، تجسد إيل نفسه وصار انساناً في شخص يسوع المسيح الذي دعاه الإنجيل نفسه “عمانوئيل” اي “إيل معنا“، او كما يقولون اليوم “الهنا معنا “. وكان انبياء العهد القديم، بفم اشعيا، يتوقعون وينتظرون تجسد إيل، فيقول اشعيا الكبير :”ها ان العذراء تحمل فتلد ابناً يسمونه “عمانوئيل”، اي “إيل معنا “. (راجع انجيل متى:1: 22- 23؛اشعيا:7: 14)
اما اين تجسد إيل ؟ وفي اي موقع جغرافي محدد؟ نحن نؤكد، في سياق نظريتنا المتكاملة، ولأول مرة، ان إيل قد تجسد فعلاً في لبنان ! وكيف كان ذلك؟
لقد تبين لنا من خلال ابحاث مستفيضة، طيلة سنوات طويلة، ان العذراء مريم، عندما بشرها الملاك-والمعروف ان التجسد قد تم في نهاية البشارة- ان العذراء كانت في جبل الكرمل.. وجبل الكرمل، عند جميع الشرقيين القدماء واليونانيين الأقدمين، وكما يؤكد جميع مؤرخي الشرق والغرب، كان جبلاً مشهوراً جداً بالخصب والحياة و الوحي والإلهام والتركيز الذهني والروحي…
وكان الفلاسفة والحكماء والأنبياء يأتون الى جبل الكرمل إما ليسكنوا فيه سنوات عديدة، كما فعل النبي ايليا والنبي اليشاعوالعديد من الأنبياء والنبيات في اطار عائلات او مجموعات نبوية منتظمة؛ واما ليمضوا فيه بضعة ايام على شكل رياضة روحية وذهنية، كما فعل فيثاغوراس العالم والفيلسوف اليوناني الكبير ومؤسس اكبر رهبانية في التاريخ، وكما فعل غيره كثيرون من فلاسفة وحكماء اليونان والشرقيين…
في جبل الكرمل بالذات و في ايام المسيح، كان هناك عائلات ومجموعات من الأنبياء والنبيّات، ومن المتوحدين والحبساء. وكان هناك دير للأسينيين…، الذين اصبحوا في يومنا هذا معروفين جداً. وكانت اجواء الشرق تنتظر حدوث مفاجأة روحية كبرى، على مثال المجوس… الأسينيون كانوا يترقبون، اكثر من غيرهم، حدثاً روحياً كبيراً، بحسب جدول تنبؤاتهم، كأن يكون مجيءالمسيح المنتظر، او عودة احد الأنبياء الكبار ، او شيئاً من هذا القبيل… واستعداداً لهذا الحدث الروحي الكبير، اختار الأسينيون 12 فتاة في عمر الرابعة عشرة ومن اتقى واطهر العائلات الأسينية وارسلوهم الى ديرهم الأسيني في جبل الكرمل، وكان هؤلاء البتولات الطاهرات بعهدة نبيات اسينيات حكيمات قديسات. ومن بين هؤلاء البتولات كانت واحدة من الناصرة، ناصرة الجليل، تدعى مريم! وهكذا، وفي جبل الكرمل بالذات، وفي دير الأسينيين والأسينيات، بشّر جبرائيل الملاك العذراء مريم بتجسد إيل في احشائها. وجبرائيل كما يقول اسمه هو رجل إيل، رسول إيل. “وها ان العذراء تحمل فتلد ابناً يسمونه “عمّانوئيل” اي “إيل معنا”.
والذي يهمنا مما تقدم ان جبل الكرمل هذا، حيث تجسد إيل، كان، كما تؤكد جميع تواريخ العالم وخرائطه، بجميع اللغات من اول التاريخ حتى ايام المسيح، وحتى ايامنا هذه، كان جبل الكرمل في لبنان، في فينيقيا- لبنان… (فلنراجع جميع التواريخ والخرائط الجغرافية في العالم قاطبة)
اجل! لقد تجسد إيل في لبنان. لقد تجسد الله في لبنان. “ومن له اذنان سامعتان… فليسمع”.!
ان المثلث السراني: “إيل – إيل المتجسد- لبنان”يحتوي ويتخطى االظاهرات الجغرافية والتاريخية والإجتماعية ويدخل في سياق التكوين البنيوي، الأرضي والإنساني والكوني. ونحن هنا نحاول ان نكشف طرفاً من “حجاب إيزيس” القديم الذي كان يحجب ايضاً هذه الأرض
بعد ان تجسد إيل في جبل الكرمل- لاحظوا حتى اللفظة ذاتها: “كرمل” التي تعني كرم او خصوبة او حديقة إيل..! ولد في جنوبي ارض كنعان في قرية “بيت لحم” في مغارة كانت مكرسة لأدونيس اللبناني منذ آلاف السنين!.
وقد رافق يسوع اباه يوسف اكثر من مرة الى لبنان، وعرج على مدرستي صور وصيدا وتأثر بهما. هنا تعرّف، كإنسان، الى ديانة أبيه إيل الموحدة والكونية، والى حضارته ورسالته السامية.
ولهذه الأسباب التحق، مع سابقه يوحنا المعمدان، بجماعة الأسينيين التي كانت تخص إيل باكرام لافت حيث كان كل عنصر من هذه الجماعة يحمل حول عنقه قلادة خاصة كتب عليها اسم: إيل…!
وقد اقام المسيح في لبنان اكثر بكثير مما كتب ومما يُظن. لقد حاولوا ان يطمسوا هذه العلاقة لغاية في نفس يعقوب. ولكن “السماوات لاتغطّى بالقبوات”. ولايمكن ان يحجبوا الشمس عند الظهيرة في سماء صافية، برمد عيونهم… لقد صنع المسيح اعجوبته الأولى في قانا الجليل الذي ثبت بما لا يقبل الشك انها في لبنان.
وهكذا في لبنان اعلن إيل المتجسد الوهيته وآمن به تلاميذه. وزار قبور بعض الأنبياء في البقاع الجنوبي والغربي. ولا يمكن الاّ ان يكون قد زار قبر نوح في “الكرك“. وبالمناسبة فإن سهل البقاع ظل يدعى سهل نوح حتى بداية العهد العثماني (والخرائط المختصة هي في حوزتنا)
واذا تابعنا رفع “حجاب إيزيس” قليلاً نقول ونؤكد ان المسيح اكمل زيارة قبور الأنبياء والأقدمين– كما كانت العادة آنذاك فزار قبر كنعان الجد الأول للكنعانيين والملقب “بفينيق“. هذا القبر هو هو ذاته الموجوود حتى اليوم في كنف “قرن ايطو”- والملقى في هذه الساعة “على قارعة الطريق” الفرعية الموصلة الى رأس القرن… والملفت ايضاً ان “قرن ايطو” ظل يدعى طيلة قرون عديدة قرن “ادونيس”…! والوادي المقدس- قاديشا- سمي هكذا نسبة الى “ادونيس” في بادء الأمر. وكان اكبر واهم ألقاب ادونيس: “المقدس”، كما نلقب نحن اليوم العذراء مريم “بالسيدة”. كل هذا لنقول ونؤكد ان قصة أدونيس وعشتروت قد حصلت فعلاً في وادي قاديشا وقنوبين…
ولا عجب اذا زار المسيح قبر كنعان، جده الأول، هذا القبر الذي حددنا موقعه، لأن بيدنا اثباتات وبراهين لا تقبل الشك بأن هذا القبر بالذات- لموجود في كنف “قرن ايطو”- كان يؤمه، بشكل حجٍ مقدس قديم، ليس فقط سكان الشمال او سكان لبنان بل سكان الشرق قاطبة! وبعد ان زار المسيح قبر كنعان، صعد الى “جبل عال” اي الى جبل ابيه إيل المجاور لقبر كنعان، صعد الى القرنة التي كانت تسمى في ايامه “قرنة إيل”- اجل صعد المسيح الى ما نسميه اليوم– خطأً- “القرنة السوداء” وتجلى فوقها. اجل المسيح تجلى في لبنان، فوق جبل لبنان، حيث نزلت البعثة الحضارية الكونية الأولى، فوق جبل ابيه إيل، جبل البعل او السيد، جبل النور، جبل الثلج. لقد تجلى المسيح في الفردوس الأرضي، في مقر آدم فوق قبر آدم: (المسيح هو “آدم الثاني“)،حيث قتل هابيل، عند قبر شيت، وحيث استقرت سفينة نوح… لقد تجلى المسيح فوق جبل ألأرز حيث تجلى مجد الرب، بحسب الأنبياء والمزامير، فوق جبل الآلهة، جبل الله، “الجبل المقدس”، كما يقول القديس بطرس في رسالته الثانية، في الفصل الأول، الأعداد:16-18. لقد تجلى المسيح فوق الأرض التي انطلقت منها الديانة الأولى والحضارة الأولى، فوق المهد البشري الأول، فوق اعلى قمة تاريخية انسانية روحانية في الأرض، فوق الجبل الذي “يسند الجنة” وفوق “جبل الأبدال” عند كبار متصوفي العرب والمسلمين…!
اما قصة التجلي على طور طابور فقد تسربت الى التقليد المسيحي الشفوي، من اياد غريبة بعد مئتي سنة من موت المسيح. فطور طابور تلة صغيرة في شمالي الناصرة لا علاقة لها بالتجلي ولا التجلي على علاقة بها. وفي تفاسير الطبعات الجديدة من الأناجيل فقد حذفت الكنيسة فعلاً عبارة طور طابور في شرحها لحادثة التجلي…
وفي الواقع، لقد حصلت حادثة التجلي في تلك الفجوة الزمنية التي تحدثت عنها الأناجيل المقدسة والتي تتراوح بين ستة وثمانية ايام. وقد اوصى المسيح رسله “بألا يخبروا احداً” بحادثة التجلي… (متى17: 1-9)
وقبيل زيارة قبور الأنبياء وحادثة التجلي عرج المسيح على قيصرية فيليبوس المدينة المعروفة آنذاك والتي تقع في السفوح الغربية لجبل الشيخ اي حرمون. وكان المتعارف عليه حتى اليوم، بشكل احتمالي، ان المسيح كان في هذه المدينة عندما اسس كنيسته على هامة الرسل بطرس، عندما قال له: “..انت الصخرة وعلى هذه الصخرة ابني بيعتي وابواب الجحيم لن تقوى عليها.. (متى16-18). اما الأبحاث الكتابية الحديثة والدقيقة فتؤكد ان تأسيس الكنيسة حصل، ليس في “قيصرية فيليبوس”، بل بلأحرى في القرى البعيدة بعض الشيء عن المدينة الى الشمال- الشرقي منها.. يعني ان التأسيس قد حصل من دون ادنى شك في اراضي لبنان… كما يؤكد بعض المؤرخين اليوم. ولكن تأكيدهم يأتي بشكل همس وفي خفر؟ ومع شيء من الخوف… اما نحن، فنزيح مرة اخرى طرفاً من “حجاب إيزيس“، ونصرخ عالياً بوجه الشمس: اجل لقد اسس المسيح كنيسته المقدسة في الأراضي اللبنانية…!
وفيما بعد، عندما بدأت تعاليم يسوع تشع وتنتشر في العالم كشرق ثان، إنساني- إلهي، الم يُدعى تلاميذ يسوع لأول مرة “مسيحيين” في مدينة انطاكية بالذات؟
هذه باختصار وتبسيط الأطر الشاملة والمتكاملة للمارونية الحقة. هذه الأطر التي تظهر المارونية على حقيقتها، تفسر مكنوناتها ومخزوناتها وتسلط اضواء جديدة وجريئة على مجمل امدائها وامتداداتها، وذلك على جميع الصعد التاريخية والجغرافية والفكرية والحضارية والروحية. ولذلك اطلقنا عليها اسماً جديداً تفسيرياً في عبارة “إيلمارونية”…
انها جوهرياً ووجودياً المارونية نفسها ولكن في كشف متكامل لكل امتداداتها. هل تبدأ الشجرة انطلاقاً من سطح الأرض، في رؤية ظاهرية خارجية، ام من البذور في اول انطلاقة الجذور العميقة؟ والإنسان نفسه، هل يبدأ حقيقة عند الولادة ام منذ بداية الحبل…؟
نقول هذا لنعلن ونؤكد من هنا ان “إيلمارونية ” تمتد جذورها الى إيل ذاته، وهي من خلال الكنيسة المشرقية السريانية الإنطاكية، حفيدة إيل، رسولة إيل، وحاملة رسالته السامية الى العالم…
القسم الأول
المارونية في اطار الديانة الموحدة الأولى- ديانة إيل…
المارونية، ككنيسة مشرقية وحركة روحية، هي حفيدة الإله الكنعاني: إيل، وحاملة رسالة هذه الديانة المميزة:
1- ان اول ما يلفت في هذا المضمار هو، في الواقع، ان الأمة الوحيدة الباقية في العالم التي تصلّي الى اليوم الى الإله الكوني الواحد- إيل- هي الأمة المارونية.
ان الكنيسة المارونية هي الوحيدة بين الكنائس التي صلّت وتصلّي كل يوم وسوف تبقى تصلّي دوماً الى الإله الحقيقي- إيل- إله يسوع المسيح الذي ناداه على الصليب: “إيلي، إيلي لمّا سبقتاني..؟! نحن لا نترجم: الهي، الهي لماذا تركتني؟! هذه ترجمة قريشية، عربية حديثة، بل نتركها دون تشويه: “إيلي، إيلي لماذا تركتني”؟(متى27: 46)
(راجع صلاة الشحيمة المارونية، الساعة الثالثة من صباح يوم الجمعة، صفحة 480، المقطع الأول. وايضاً جناز النساء،السواغيت المقطع الأول صفحة 64؛وغيرها…) والعجيب والملفت حقاً ان الذين يصلّون لإيل لايعرفون ماذا يصلّون!! وأذا قلت لهم ان إيل هو اب يسوع، الذي ناداه فعلاً على الصليب، لا يفهمون…! واذا قلت لهم ان يسوع هو “عمانوئيل” اي إيل معنا، لايفقهون!…
2- في مهد ديانة إيل– ومن حيث انطلقت الديانة الموحدة الأولى الى اصقاع الأرض- ولدت المارونية ونمت واستقلت وترسخت حول نواتها: الكرسي البطريركي. الذات المارونية تكاملت في ارض إيل…
الهوية المارونية تكاملت مقوماتها الأساسية في ارض إيل
3- في مهد ديانة إيل أنشئت البطريركية المارونية الأولى. والعجيب ان هذه البطريركية ظلت اكثر من 230 سنة في مكان يسمى:”إيل- إيج”-إيليج، الذي تفسيره: صوت او نداء إيل…! والديمان خاصة هو في ارض إيل…، وقاديشا وقنوبين ايضاً…
4- في مهد ديانة إيل، اخذ النور الماروني يشع روحانية ونسكاً وفكراً وقداسة، ويتجسد مناسك وصوامع واديرة. في ارض إيل ولدت الجمعيات الرهبانيات المارونية، ومنها انطلقت رسالة تقديس بين الناس. المئات من القديسين والقديسات الموارنة، من بطاركة واساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين تقدسوا في ارض إيل: من يوحنا مارون وابراهيم القورشي الى البطريرك اسطفان الدويهي وشربل ورفقة والحرديني و…
ارض إيل عاش شعب، يكاد ينقرض، جسّد، في تفاصيل حياته اليومية، في مثلث البيت والحقل والكنيسة، اروع حياة لاهوتية نسكية، مع اعمق ما فيها من تواضع وبساطة، واسمى ما فيها من روحانية وقيم انسانية.. انه الشعب الماروني…
5- في ارض إيل كانت فصول ملحمة ادونيس، اول ظاهرة سرّانية لمثلث الحياة والموت والفداء…
وفي ارض إيل تستمر الظاهرة المارونية ظاهرة ادونيسية في نسختها الحديثة.. (ولقد توصلنا في ابحاثنا اخيراً الىان وقائع الأساس التاريخي لملحمة ادونيس قد حصلت فعلاً في وادي قاديشا وقنوبين، وليس في مكان آخر… والإثباتات كثيرة)
6– جذور المارونية الأولى تمتد عميقاً وبعيداً في ارض إيل وفي الماضي السحيق. وبذور هذه الجذور تمتد الى اعلى قمة في المنطقة وفي جبل لبنان: القرنة السوداء.
وبالمناسبة ان هذه التسمية :”القرنة السوداء”هي تصحيف شعبي لعبارة “قرنة سوده” وهي عبارة سريانية وليست عربية: “سوده”بالسريانية تعني: الشهداء. وذلك نسبة الى آخر اتباع إيل الذين قتلوا في “القرنة السوداء”،حوالي سنة 500 بعدالمسيح…!
“والقرنة السوداء “كانت تدعى قديماً “قرن إيل” او” قرنة إيل”. ثم “قرنة البعل “ ثم قرنة مار مارون (في العهود الآرامية والسريانية) البعل يعني السيد. والسيد يعني (بالآرامي والسرياني، الى اليوم) مار مارون.
وفي الواقع، وفي الخرائط التي بين ايدينا، فان “القرنة السوداء”، كانت تسمى فعلاً “قرنة مارون”!!
ومن له عينان مبصرتان فليأت وبنظر الخرائط التي بين ايدينا.
اجل “قرنة إيل” هي “قرنة مارون”. من هنا، وهكذا، ولد اسم “مارون”، وولدت “المارونية السرانية“…
7- والعجيب اخيراً ان الجبل الذي تنسك وتقدس فوقه القديس مارون، في القورشية، كان يسمى: “جبل نابو”. ونابو لفظة بابلية تعني رسول إيل بالذات، اي: اخنوخ التوراة، او تور الكنعانيين، او توت الفراعنة، او تاوتس الإسكندرية، او اوانسالميزوبوتاميا، او ميترا الشرق الأوسط القديم، اوهرمس اليونان، او مركور الرومان او ابن الآلهة والشمس مؤسس حضارة الأزتيك والإنكا والمايا، او هرمس الهرامسة عند السرانيين، او ادريس العرب والمسلمين… ومرة اخرى الشخص التاريخي نفسه.
في تلافيف التاريخ، كما في تلافيف الذرة، يصبح احياناً الغريب والعجيب هو الواقع الإعتيادي، وبالمقابل يصبح الواقعالإعتيادي- الذي عاش آلاف السنين- يصبح خدعة بصرية او خدعة ذهنية…!
القسم الثاني
“إيلمارونية” في اطار الحضارة الأنسانية الأولى- حضارة إيل
المارونية، في جوهرها، حركة حضارية وطاقة فكرية؛ وفي وجودها، في الإطار اللبناني والعالمي، حفيدة الحضارة الكنعانية الأولى: حضارة إيل. اجل المارونية تصل الى إيل، ومن إيل تنطلق. وخارجاً عن إيل لاتفهم المارونية على حقيقتها الكاملة!
1- المارونية، في بذورها، حركة فكرية مشرقية تمحورت حول مدرسة انطاكية الفلسفية القديمة، والتي حاولت التوفيق، في اطار من التجسد والواقعية والتوازن، بين مدرسة اثينا الفلسفية العقلية المنطقية من جهة، وبين مدرسة الإسكندرية المثالية الروحانية الرمزية… من جهة ثانية.
2-المارونية في جذورها واصولها حركة فكرية عقائدية – لاهوتية، تمحورت حول خط الفكر الخلقيدوني الذي يؤكد على الطبيعتين: الإلهية والإنسانية في شخص السيد المسيح، ويوافق ويوازن بينهما. المارونية توافقية في تكوينها…
3- المارونية في منطلقاتها الأولى حركة فكرية، ركزت على الفكر الروحي اللاهوتي والديني. وقد تجسد هذا الفكر، الغني بمضامينه ومكنوناته، حركة نسكية رهبانية فريدة من نوعها في تاريخ الشرق. والملفت حقاً ان هذه الحركة المشعة قد تمحورت ونضجت في المركز الوسط، في قلب ارض إيل: قاديشا وقنوبين…
ان قدس اقداس المارونية هو في وسط قدس اقداس ارض إيل. ونقطة محور القدسَين هي نقطة واحدة!!
4- وفي وسط ارض إيل هذه بالذات، اسست المارونية اول مطبعة في الشرق، سنة 1610، في دير مار انطونيوس قزحيا. فكانت هذه المطبعة شروقاً فكرياً وعلمياً وادبياً عمت انواره كل اصقاع المشرق.. ومن قلب ارض إيل انطلقت المطبعةالمارونية…
5- ان الفكر الماروني في توثبه الرائد، وفي قفزة حضارية نوعية، قد سبق الثورة الفرنسية نفسها في المجالات الإنسانية: من تثقيفية وتربوية ومدرسية. ولقد سبق الفكر الماروني الجميع في هذا المضمار. فلتراجع التواريخ والمراجع والنصوص!…وخاصة في ما يتعلق بإلزامية ومجانية التعليم. ونصوص المجمع اللبناني- الماروني الشهير (1736) هي امام نظر الجميع!(عالم كماروني)
6- هذا الفكر الماروني كان في اساس حركة النهضة المشرقية والعربية الحديثة، في جميع مجالات النشاطات الإنسانية: من فلسفية وعلمية وادبية وصحافية وشعرية وعمرانية واجتماعية الخ…
هل من الضروري ان نذكر نوابغ المدرسة المارونية في روما، كالسماعنة والدويهي والصهيوني والحاقلاني ومبارك والغزيري والشدراوي وغيرهم… او ان نذكر اساتذة رافينا والبندقية والسوربون، الذين نظموا لأوروبا مكتباتها ولغاتها ومخطوطاتها، وكونوا الجسر الثقافي بين حضارة الشرق وحضارة الغرب؟…
وهل من الضروري ان نذكر ونذكّر بمدرسة عين ورقة ومدرسة حوقا، ومدرسة حلب ومدرسة الحكمة، وغيرها من المدارس والأديار؟…
اجل ان الطابع الحضاري الرائد كان ملازماً دوماً للفكر الماروني، في نزعته الإنسانية الإنفتاحية الشمولية الكونية. ذلك لأن هذا الفكر قد انطلق من قلب ارض إيل بالذات، ارض الحضارة الكنعانية، ارض الحضارة الإنسانية الأولى في التاريخ. نفس الأرض للرسالتين: ارض لبنان للرسالتين، رسالة إيل ورسالة الموارنة؛ والرسالتان في جوهرهما رسالة واحدة، في نسختين، نسخة قديمة ونسخة جديدة ومنقحة…
اجل! ان المارونية إما ان تكون كونية… وإما ان لاتكون مارونية حقة… إما ان تنطلق من إيل، وإما ان تبقى من دون جذور… سرّ المارونية في بذورها، في جذورها. وفي بذورها التي تعود وتظهر من جديد في داخل نواة ثمارها… سر المارونية في قلب إيل. والمارونية حفيدة إيل، وحاملة رسالته انطلاقاً من ارض لبنان، الى العالم…!
أوَ ليس لبنان “بوتقة “وحدة البشر؟ فيه يتلاقون فيتعارفون، يتفاعلون فيتطورون، يتلاقحون فيتناضجون، يتحابون فيتكاملون؟أوَ لا يجب ان يكون هناك في الأرض مكان لتوحيد ابناء البشر؟ وخاصة ابناء الإله الواحد: إيل؟ اجل! إن لبنان هو، وحده، في الحقيقة، “بوتقة”وحدة البشر اجمعين…!
المعادلة المارونية الثلاثية
انطلاقاً مما تقدم، نتبين الخطوط العريضة للكيان الماروني، في سياق التاريخ، في اطار معادلة ثلاثية ذات تكوين بنيوي مميز. نقول معادلة، زيادة في التبسيط والتركيز على الفكر والعلم في آن.
1-المعادلة الكونية (علاقات وجودية بنيوية)
يتميز الكيان الماروني في امتداده التاريخي الفاعل،وبشكل عامودي،بين ثلاث:
أ- الله، وهو هنا إيل، ثم إيل المتجسد.
ب- الإنسان، وهو هنا مُحَضّر الأرض…
ج- الأرض، وخي هنا الإطار الحي للتجسيد، الأرض اللبنانية التي تجسد الحقيقتين السابقتين: الله والإنسان. وهكذا على الكيان الماروني، لكي يتطور ان يحافظ بدقة على اقسام هذه المعادلة الثلاثية وبالتالي على تفاعلها وتوازنها…
2– المعادلة الزمنية (علاقات تاريخية بنيوية)
يتميز الكيان الماروني في امتداده الزمني المترابط، وبشكل افقي، بين ثلاث:
أ- الماضي: من حيث الينابيع والبذور، الأصول والجذور…
ب- الحاضر: من حيث وعي الآن الحي النابض، هذا الآن الذي يلخص الماضي ويخطط للمستقبل.
ج- المستقبل: من حيث استمرارية وتطور ونضج الذات والدور والرسالة…
وهنا ايضاً على الكيان الماروني ان يحافظ بدقة على خلاصات اقسام هذه المعادلة الثلاث، وبالتالي على تفاعلها وتكاملها وتوازنها…
مع الإشارة الضرورية الى ان المدى المستقبلي اخذ يتسع اكثر فاكثر في بنية انسان اليوم والغد، وان المستقبل الحي لايأتي ونحن لاهون او نيام، بل نحن الذين بايدينا وعقولنا وقلوبنا نبني مستقبلنا الشخصي… والوطني والإنساني.
3 – المعادلة الذاتية (علاقات مصيرية مع الآخر)
يتميز الكيان الماروني من حيث الإستمرارية الذاتية والإنفتاح على الآخر بتوازن ثلاثي، بين:
أ- التماهي مع الغير وبالتالي “الأَلْيَنَة”والضياع في الآخر، وذلك من جراء المدى الإنفتاحي الزائد في طبيعة الذات المارونية.
ب- الإنكماش على الذات بقصد الدفاع المشروع عن النفس والمصير، والذي اذا بولغ فيه يقود الى الإنعزال والتقوقع…
ج- التوازن الوسط بين الإنفتاح الكبير الواسع والإنعزال الصغير الضيق…
مرة اخرى، المارونية حركة توافقية في الأصل.
فالحكمة الدهرية التي وجهت المارونية في تاريخها الطويل قد حافظت على هذا التوازن الدقيق. وجعلت من الإنفتاح على الغير ترسيخاً للذات واظهاراً لمكنوناتها وانضاجاً لطاقاتها وقواها… وهكذا يجب ان تستمر هذه الحكمة الدهرية في توجيه المارونية اليوم وغداً وبعد غد… وذلك، مرة اخرى، داخل الأطر المارونية التاريخية الشاملة والمتكاملة…
المثلث السراني :”إيل- لبنان- المارونية”
هذه الأضواء الجديدة الجيدة التي نسلطها على المارونية من الدخل والخارج، تظهر لنا بوضوح ان المارونية الحقة لايمكن ان تفهم وتعاش، لايمكن ان تستمر وتفعل، ولايمكن ان تؤدي رسالتها الروحية والحضارية المميزة، الاّ اذا كانت وحدة حية في مثلث كوني تاريخي انساني حي هو التالي: “إيل- لبنان- المارونية”!
في هذا المثلث يكمن السرّ الماروني، في ماضيه وحاضره ومستقبله. في هذا “المثلث” تكمن الذات المارونية في جوهرها ووجودها. في هذا “المثلث” تكمن الطاقة المارونية بكل حركاتها وانجازاتها. في هذا “المثلث” يكمن الدور الماروني وتكمن الرسالة المارونية الحضارية. في هذا “المثلث” اخيراً يكمن المستقبل الماروني ويكمن المصير الماروني… فكما ان لبنان هو اكثر من وطن، انه رسالة، هكذا المارونية، انها اكثر من طائفة انها رسالة، رسالة انسانية فكرية حضارية روحية…
كل ذلك يفرض ضمناً وعياً كاملاً ومعرفة ناضجة لهذا المثلث ككل ولكل وحدة من وحداته الثلاث:
“إيل- لبنان- المارونية”. وبالتالي يفرض وعياً مستمراً للعلاقات والتفاعلات المتبادلة والمتتكاملة بين الوحدات الثلاث لهذا المثلث، وعلى جميع الأمداء والأصعدة…
هذا الوعي الماروني العميق والمتكامل، هو وحده الذي يحمل مفتاح الإنفتاح على القرن الحادي والعشرين. وقد بدأنا نتلمس من بعيد بوادر خجولة لهذا الوعي الماروني. ونحن من هنا، ومن الآن، ندعو الى هذا الوعي الماروني الكبير. هذا الوعي، لايصنعه المستقبل، بل هو الذي يصنع المستقبل.
وصنع المستقبل الماروني، المستقبل الذي يضمن مقومات بقائه واستمراريته وديمومته، ينبع من الذات المارونية نفسها. هذه الذات التي تشترك في المجالات الحية لمحور البقاء والإستمرارية والديمومة الثلاث، اي:
– “إيل ” الإله الواحد، الكنعاني، الكوني…
– “إيل المتجسد” الإله الإنسان، يسوع المسيح- وفي اطار كنيسة المسيح
– لبنان- البوتقة البشرية الحضارية…، الموحَّدة والموحِّدة.
اجل ان المستقبل الماروني لا يمكن ان يضمن بقاءه واستمراريته وديمومته الاّ اذا بقي يعمل في المجالات الحية لهذه المحاور الكونية الباقية الثلاث: الله- المسيح- لبنان”…!
الله هوالبقاء.
“المسيح هو بالأمس واليوم و الى الأبد”
لبنان واجب البقاء.
اذا فالمارونية باقية ، باقية!
الأب يوسف يمين – 17 نيسان 1993 – إهدن