– سنة المخاض وعبور التحدّيات المصيريّة (مجلة “دراسات مستقبلية”/ العدد 7 ك2- 2019)
***
يدخل لبنان العام الجديد على وقع تحوّلاتٍ داخليةٍ وإقليميةٍ كانت تعتمِل وتتفاعل وباتت اليوم قادرةً على إبراز مشهدٍ مختلف لبنانيًّا وإقليميًّا. فالمعادلة الداخلية التي أنتجت مجلسًا نيابيًّا وفق نظامٍ انتخابيٍّ جديدٍ يعتمد النسبية للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية، والتي عدّها “حزب الله” خاصةً أنها انتصارٌ له في مقابل انحسار نفوذ “تيّار المستقبل” بقيادة سعد الحريري، انزلقت حاليًا إلى صراعٍ حاد على مواقع السلطة شلّ النظام ومنع تشكيل حكومةٍ منذ أشهر، وبات يهدّد الاستقرار السياسيّ السائد منذ التسوية الرئاسية قبل عامين ونيّف.
ويتوازى الصراع السياسيّ الذي يعبّر عن ضيق صدرِ بعض القوى بمعادلة الطائف وسعيها لتأثيرٍ أكبر في النظام، مع تحدّياتٍ خطِرة جدًا على اقتصادِ البلد ووضعه الماليّ، ومع غليانٍ في شرائح المجتمع التي باتت عاجزةً عن تحمّل ثقل السياسات الاقتصاديّة والماليّة المعتمدة منذ أوائل التسعينات والتي أنتجتْ كلّ هذا التعفّن والتحلّل في بناء الدولة والتركيبة الاجتماعية ومصالحها.
على أنَّ التغيرات الناتجة من المعادلات الميدانية في الحرب السورية، والتي تعكسُ سعيًا لبناء نواةٍ عربية قوامها المصالحة السعودية – الإماراتية مع سوريا بمباركةٍ مصرية وتحت العين الساهرة الروسية، قد تؤمّن للبنان طوقًا إضافيًّا من الاستقرار في بلد يعيش على صفيحٍ متحرك في فوالق الصراعات، لكنّها في المقابل قد تزعزع العمارة السياسيّة الكائنة حاليًّا بفعل إرادة بعض الجهات، تحديدًا لدى “حزب الله” العائد من الانتصار الكبير في سوريا، لإعادة صياغة المعادلات في نظامٍ بات ضيّقًا بإطاره الحاليّ على الأجسام المنتفخة لطوائف وقوى سياسيّة.
بعدما صنع انتخاب الرئيس ميشال عون تهدئةً سياسيّةً مبنيةً على تفاهم بين “التيّار الوطنيّ الحر” و”تيّار المستقبل”، الذي هادنَ بدوره “حزب الله”، عادت المعادلة اللبنانيّة لتسخنَ مجدّدًا بعد نتائج الانتخابات النيابيّة التي أبرزت توازنًا جديدًا في السلطة وعزّزت المسار الساعي منذ العام 2005 لزيادة منسوب الميثاقية التي تشكّل أساس شرعية النظام اللبنانيّ المبنيّ على مدى مشاركة الطوائف في السلطة.
ذلك أنَّ تمسّك “حزب الله” بتمثيل التنوّع في الساحة السُنية ومن ضمنه حلفاؤه المعارضون للحريري، أدّى إلى كباشٍ مستجدٍّ في المشهد السياسيّ، لكنه الأخطر في علاقة “حزب الله” ورئيس الجمهورية النائمة على حرير تفاهمٍ استراتيجيٍّ وقويٍّ منذ العام 2006. ويتشابك مطلب “الحزب” هذا مع ما يعتبره مراقبون صراعًا حادًا على حقّ الفيتو أو ما يعرف في النظام اللبنانيّ بـ”الثلث المعطّل” الحكوميّ، مع “التيّار الوطنيّ الحر” بقيادة وزير الخارجية جبران باسيل، وذلك استباقًا للمحطات الرئيسية التي تواجه لبنان ومن بينها الانتخابات الرئاسية المقبلة التي لا تغفِلها رهاناتُ القوى اللبنانيّة وطموحاتُها.
مشهد الاشتباك الداخليّ هو نتيجة رهانَين متواجهَين. فـ”حزب الله” العائد من انتصارٍ كبيرٍ إقليميًا وخاصةً من سوريا، بحاجة لتثمير قوّته التي يضيق عليها النظام اللبنانيّ بنسخة الطائف ذات الأرجحية لرئيس الحكومة السُنيّ، وذلك عبر دعم تمثيل حلفائه في المذاهب الأخرى، السُنّة والمسيحيّين والدروز. وقد كان ذلك أحد أبرز أهداف اعتماد النظام النسبيّ الذي سارت به القوى المسيحية الساعية هي الأخرى لاستعادة القدر الأكبر من المناصفة المسيحية – الإسلامية الدستورية. في المقابل، يسعى “التيّار الوطنيّ الحر” إلى استعادة الدور المسيحيّ القويّ انطلاقًا من السلطة التنفيذية بشقّيها الرئاسيّ والحكوميّ، بعد حيازته الحجم الأكبر مسيحيًّا في السلطة التشريعية. ونظرًا لأنّ السُنيّة السياسيّة التي يمثّلها “تيّار المستقبل” وضعت خطًا أحمر أمام تنازلاتها لوقف تدهورها المتزايد، باتت الفرصة الأكبر لتحقيق هدف “حزب الله” هي في مرمى رئيس الجمهورية، الحارس الأقوى أمام تقاذف كرة تصريف القوى والأحجام بين أطراف هذا النظام الضيّق. ولن يفرجَ، أو يوافق الرئيس المسيحيّ “القويّ”، على تغيير النظام إلا بثمنٍ مقابل في تعزيز الدور المسيحيّ، أو أقلّه حماية موقع المسيحيين في النظام من دفع فاتورة الصراع بين القوّتَين السياسيّتَين الأكثر تمثيلًا للشيعية والسُنة، ويسعى، استطرادًا، إلى لعب دورٍ “وسيط” مع استنفاد ما أبقى له الدستور من صلاحياتٍ “تحكيمية”، متوجّسًا من رهانات هيمنة مكونٍ مذهبيٍّ على آخر.
هنا، يتوضّح جوهر رهان الصراع الحاليّ وخلفياته العميقة. من يدفع ثمن قوة الشيعية السياسيّة الفائضة، التي تريد أن تكون شريكًا قويًا في السلطة التنفيذية وإبعاد أشباح استعادة الثنائية المارونية – السُنّية التقليدية الممثّلة حاليًا بتواطؤ قويّ بين الحريري ورئيس “التيّار الوطنيّ الحرّ” جبران باسيل، الحجم السُنيّ أو موقع المسيحيّين؟
في واقع الحال، لا يمكن نكران أنَّ النظام اللبنانيّ الذي يصاغ في كلّ مرّةٍ على وقع اشتباكٍ داخليٍّ متقاطعٍ مع تحوّلاتٍ إقليمية، على ما أبرزته تسوية 1943 أولًا واتفاق الطائف عام 1989 بعد حربٍ دامية، والمتطور في اتفاقية الدوحة عام 2008 بعد اشتباكات “7 أيار”، بات أمامَ محكّ ترجمة الأحجام ومدى إمكانيّة مرونته إزاء تضخّم القوى في مشهدٍ غير اعتياديّ لبنانيًّا، وضمن دولةٍ صغيرةٍ وضعيفةٍ، في مقابل تنامي قوّة الطوائف بمحرِّك إقليميّ. ومهما سعت القوى اللبنانيّة إلى إخفاء رهاناتها بتورياتٍ لفظية، فإنّ الحقيقة تكمن في أنّ الشيعية السياسيّة تريدُ توسيع حصّتها في النظام، في مقابل ممانعةٍ سُنيّة، ومساعي المسيحية السياسيّة لحماية آخر مواقعها في هذا النظام، وتفرّج الدرزية السياسيّة بقيادة وليد جنبلاط على هذه التحوّلات انطلاقًا من “انعزاليةٍ” تقليديةٍ تتراجع إلى آخر معاقل “الهنود الحُمر”.
ومهما يكُن شكل الإخراج الحكوميّ للأزمة الراهنة، ستكون هذه الدينامية أبرز محرّك للمعادلة السياسيّة من الآن وحتّى الانتخابات الرئاسية المقبلة، بين مهاجمٍ ومدافعٍ ومتفرّجٍ…
الغليان الاجتماعيّ وهاويةُ الانهيار الاقتصاديّ
هذا النظام الساعي إلى التجدّد وفق محرّكات قواه الطائفية – السياسيّة ودوافعها، بات يهتزّ على وقع صفيحٍ جديدٍ من صفائح الزلازل المعتادة لبنانيّا، وهو العجز عن معالجة التحديات الاقتصاديّة والمالية في بلدٍ وصل إلى شفير الهاوية نتيجة سياسات اتُّبعت منذ تسوية الطائف وتسلّم الحريريّة السياسيّة إدارة هذا الملفّ، ضرَبت الإنتاج ورهنت البلد لسياسات الريع وحكم المصارف وضياع الهوية الاقتصاديّة لبلدٍ صغير ذي مجتمعٍ متحوّلٍ ومتنامي الحاجات والمطالب.
استُنفِدت تلك السياسات التي نهبت الدولة وفق منسوبٍ منتظم وفق مبدأ مراكمة الثروات للطبقة الطفيليّة المتخمة مع توزيع مغانم في قنوات الزبائنيّة السياسيّة المتلازمة مع التركيبة الطائفيّة، في ظلّ عدم قدرة الدول الأوروبيّة والمؤسّسات الدوليّة على الاستمرار في دعم هذه الطبقة كما في التسعينيات عندما استخدمت بشائر “السلام” الموعود بين دول الطوق وإسرائيل لتبرير سياسات إعمار المركز وإهمال المناطق الطرفية وضرب الإنتاج، واستهداف كلّ قوّة سياسيّة أو اجتماعية تواجه هذه المصالح. ذلك أن وصفات الدول الغربية والبنك الدوليّ وآخرها مؤتمر “سيدر” باتت كأوكسجين الإنعاش لمريض في غيبوبة لا ينقذه منها إلّا صدمة قاسية، يريدها بعض أنصار السياسات السابقة أن تكون مجدّدًا على حساب الطبقات الفقيرة، مع محاذرة المسّ بالبنية التقليدية وبمراكز القوى الاقتصاديّة والمالية التي صنعت هذا المصير القاتم للبنانيّين.
وفي مواجهة هذا الاتجاه، بات المجتمع اللبنانيّ يقذفُ بحممٍ تحذيريةٍ من حركات الاحتجاج للشرائح المتضرّرة، منذ انفجار أزمة النفايات بأكبر مشهدٍ معيب في تاريخ حكم لبنان، وصولًا إلى التظاهرات الراهنة التي تصبُّ في أحد روافد تداعياتها السياسيّة في مصلحةِ من يريد إبراز عجز هذا النظام لتوسيع حصّته فيه. أضحت الدولة اللبنانيّة كبقرةٍ حلوب استُهلكت حتّى النهاية وباتت هيكلًا عظميًّا، والقوى الغربية منصرفةً إلى همومها ولم تعد قادرةً على تمويل فساد طبقةٍ جشِعة مزَّقتْ بلدها لتراكمَ ثرواتها، وفي موازاة ذلك باتَ المجتمع ونخبه الملتزمة على قلتها في موقع لم يعد له فيه حول ولا قوة إلا بالمبادرة إلى الاحتجاج ورفع الصوت، خاصةً وأنًّ كوابيس الانهيار المالي الذي ذاقه اللبنانيّون في الثمانينيات وفي عام 1992 عادت لتطلّ في هذا العام مصحوبةً بتحذيرات المؤسّسات الدولية المعنية، بأبشع تهديداتها لمصير صغار المودعين والفقراء والشرائح ذات الدخل الأدنى.
ومن غير المتوقّع أن تتنازل القوى المتحكّمة وتدفع فاتورة الإنقاذ الاقتصاديّ من جيبها، على ما أظهرته تصريحات الرئيس سعد الحريري الذي أنذر بقراراتٍ غير شعبية، إلّا إذا استطاع الحراك الاجتماعيّ أن يقف في وجهها ويطرح بدائلَ واقعيةً وعملية.
صخرة النزوح على “سيزيف” اللبنانيّ
ولا تكفي المجتمع اللبنانيّ بتنوّع مذاهبه المتوجّسة الخائفة، تحدّيات الصراع الانقساميّ وتهديدات الانهيار الماليّ. فـ”سيزيف” اللبنانيّ الذي يقاوم الانهيار يحمل صخرةً أخطر وهي النزوح السوريّ الذي تريده القوى الغربية أن يتحوّل إلى توطينٍ فعليّ، مهما برَّرت وكاذبتْ وخادعتْ تحت ستارِ شعاراتها “الإنسانية” البرّاقة ومصطلحات أممها المتّحدة ووكالاتها.
لا ترغب أوروبا العجوز الساعية إلى حماية ما بقي من مسيحيّتها وثقافتها وديموغرافيتها، وهي التي تحاول حمايةَ حدودها الجنوبية من بوابة الهجرة الإفريقية عبر المحطة الليبية خاصةً، بكتلةٍ مليونيةٍ جديدةٍ تضيف في أزماتها لجهة التعاطي مع المهاجرين وتداعياتها الثقافية والاقتصاديّة، مدعومة من الولايات المتحدة المنسحبة من سوريا والتي لا تريد، بالتكافل والتضامن مع قوى “الناتو” الحليفة، أن تقدم مجانًا ورقة عودة النازحين إلى سيطرة الدولة السّوريّة، لعلّ وعسى أن تبتزّها بالمزيد.
هنا، يقاوم لبنان المساعي الدولية بالحدّ الأقصى من اندفاعة بعض أحزابه، لكن بالحدّ الأدنى من التفاهم الداخليّ في بلدٍ تسعى عصبياته المذهبية للاستفادة من التحولات الديموغرافية في سبيل تعزيز موقعها الداخليّ. ذلك أن حماس “التيّار الوطنيّ الحرّ” ورئيسه وزير الخارجية جبران باسيل، المراقب بدقّة لكلّ الألغام في النصوص الدوليّة، متقاطعًا مع مصلحة شيعية ضمنية أو مُعلنة بالنذر اليسير المقبول لعدم تلقّي اتهاماتٍ بالمذهبيّة، يواجَه بتواطؤ صقور “تيّار المستقبل” وبالمنتفعين في المجتمع اللبنانيّ من الأموال الممنوحة دوليًّا بكرمٍ “حاتمي”، لكنّها أقلّ بكثيرٍ من العجز الزائد على لبنان نتيجة استضافته، بالقوة، كتلةً من مليوني نازحٍ ذات خصوبةٍ عاليةٍ.
بالتّالي، ليس أمام المنظومة اللبنانيّة لبدء معالجة معضلة النزوح السوريّ، إلّا الاستفادة من الواقع العربيّ الراهن والتحاور مع سوريا من البوابة الإلزاميّة، حكومتها الشرعيّة. ذلك أنّ الدولة السورية المنتصرة في حربٍ شاركت فيها أطراف لبنانيّة على قدر استطاعتها، لم تنسَ الرهانات الخائبة وبالتالي لن تسمح بتذاكٍ إضافيٍّ عليها في زمنٍ تتسابق فيه القوى الخليجية التي ناوأتها إلى التحاور معها. وهنا، لا يعود بإمكان من يريد توظيف النازحين السوريّين في رهاناته الداخليّة إلّا أن يُسقطَ في يده، منعًا لانهيار الصخرة على الجميع وتكرار نموذج ما فعله التماهي مع القوة الفلسطينية المسلّحة في الحرب، قبل أن يدفع من دعمها أوائل الأثمان وأكبرها.
الإطار العربيّ الجديد وفرَصُه لبنانيًّا
هل يصنع الحراك العربيّ الراهن الدائر حول الدولة السوريّة، لا كذئابٍ جائعةٍ كما في بدايات العام 2011، بل بمنطق المفاوض الساعي إلى حصر الخسائر وبناء مساحة مشتركة مع “قلب العروبة النابض”، علَّ التوازن يعود مع التوسّعَين الإيرانيّ والتركيّ – “الاخوانيّ”، وبرعاية من حمل مشروع العروبة، مصر الدولة المركزية الوطنيّة، إطارًا جديدًا حاميًا للاستقرار اللبنانيّ، أم أنه سيعزّز من صراعاته؟
فالحطام الذي تناثر من تفكيك وتفكّك المجتمعات المشرقية بدءًا من البوابة العراقية عام 2003، تسعى القوى العربية الأساسية اليوم إلى جمعه وتنظيفه بعدما هدّدت شظاياه الجميع، ما يعني عمليًا إقفال المسرح السوريّ وإعادة إدخال سوريا، طال الزمنُ أم قَصُر، إلى الحاضنة العربية ببركة القوى الخليجية الرئيسية، وسيقود بالتالي إلى إحياء السيبة الثلاثيّة المصرية السعودية السورية التي برزت في أعقاب هزيمة العراق عام 1991 كنواةٍ لنظامٍ جديدٍ يحمي ما تبقّى من مصالحَ عربيةٍ، بمشاركة الإمارات الصاعدة في دورٍ بالغ الفعالية والأهمية.
أيُّ لبنان سيتعاطى مع التحوّل الجديد، على وقع الانسحاب الأميركيّ من الشرق وترسيخ الدور الروسيّ الراعي؟
ليس بإمكان القوى اللبنانيّة التي حملت الرهانات الخائبة إلّا التواضع ومماشاة رعاتها الخليجيين، وسيكون اللبنانيّون أمام مشاهد مماثلة لما حصل على إثر انتخابات 2009 والمصالحة مع سوريا بشار الأسد بالذات. لكنّ أحجام القوى ستبقى رهنًا بالتجاذب بين “حزب الله” العائد لترسيخ دوره، و”بذلة” النظام السياسيّ قد ضاقت على جسده الضخم، وبين قوًى متضرّرة. وبيت القصيد في مصير هذا التجاذب يبقى في نهايات توزيع الأدوار في النظام الإقليميّ الجديد البازغ من مصائر الحرب السورية، وهذا ما سيمنح “حزب الله” قوةً في اندفاعه، أو يلجم طموحاته ويصنع توازنًا يحمي صيغة الطائف قدر الإمكان، وفي كلّ ذلك ستعود دمشق بوابة التأثير الأقوى في المعادلة اللبنانيّة والاستفادة من أثمانها في علاقاتها العربيّة والغربيّة.