– ملاكها الحارس قال لها بأحد الأيام: “لا أحد رأى هذه الأشياء بالدرجة عينها”..
***
كانت آن إيميريخ في أحد الأيام تعمل في الحقول، فسمعت جرس دير راهبات البشارة في كسفلد يدق صلاة التبشير الملائكي ما اشعل في نفسها رغبة قوية بالحياة الدينية، فأغمي عليها. وبعدما جرى نقلها إلى منزل والدها، عانت لفترة طويلة من ألم مجهول، لم يكن سوى رغبة حارقة بأن تكرس نفسها بالكامل للرب؛ وقد حلت عليها نعمة سماوية كانت تعكس الهدف الإلهي لحياتها الرائعة.
وبالعودة إلى حديثها عن نفسها: “قبل نحو 4 سنوات من دخولي إلى الدير، أي في العام 1798، عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، كنت جاثية أمام الصليب في كنيسة صغيرة لليسوعيين في كسفلد أصلي بكل حرارة وأنا أغوص في تأمل هادئ حين رأيت خطيبي السماوي يخرج من بيت القربان على شكل شاب يشعّ نوراً. كان يحمل بيده اليسرى إكليلاً من الزهر وبيده اليمنى إكليل شوك وخيّرني بين الإثنين، فطلبت إكليل الشوك الذي وضعه بنفسه على رأسي، وقمتُ بغرزه بيدي في جبيني. وبعدها إختفى فشعرت فوراً بآلام مبرحة حول رأسي”.
ولم تلبث الجراح أن ظهرت على شكل وخزات شوك تنزف. ولكي تبقى آلامها سرية، كانت آن كاثرين تعتمر قبعة تخفضها أكثر فأكثر لتغطي جبيينها بالكامل.
ومرت بتجارب لا تحصى كانت بمثابة اختبار لدعوتها. وقد عارضت عائلتها لفترة طويلة قرارها، كما كان فقرها المدقع سبباً في إغلاق الأديرة أبوابها في وجهها. في سن الـ 20، وبعدما إدخرّت 20 طالر (أي نحو 12 يورو) جنتها من الخياطة، حملت المبلغ الذي يعتبر ثروة بالنسبة إلى فلاحة فقيرة وذهبت إلى عازف أرغن تقي في كسفلد. وكانت تأمل أن يسهل تعلمها العزف على الأرغن دخولها إلى بعض الأديرة، لكن عطفها على الفقراء وإحسانها إليهم سرعان ما حال دون تنفيذ هذا المشروع. وفي غضون بضعة أيام، باتت لا تملك أي شيء بحيث اضطرت والدتها المسكينة إلى إحضار بعض المؤن لها من المنزل لكي تقيها من الجوع. وأخيراً تحققت بدخول الدير، أهل الأغسطينية في “دولمان” يرغب في إستقبالها اشترطوا قبول كاثرين. وقد تدخلت العناية الإلهية بحيث دخلت إلى دير راهبات القديس أغسطينوس وقُبلت راهبةً في العام 1802.
لكن أحداً لا يتخيّل أن تعاني بسبب الراهبات زميلاتها في الدير اللواتي لم يجعلهن إيمانهن يفهمن السبل الإستثنائية التي يحلو أحياناً للرب أن يقود بها مختاريه. وبالتالي، بما أنها كانت ترى وتسمع عن بعد كل إستثناءات القاعدة وكافة الأحاديث الفارغة وغير اللطيفة، وفي حين كان الألم يعتصر قلبها وتبذل جهداً كبيراً لتقريب أخواتها الراهبات منها عبر إسداء نصائح رقيقة، كانت تسمعهن يصنفها بالفظاظة ويتهمنها بالبوح بالأسرار وغيرها من الصفات. وحتى أن الأمر وصل إلى حدّ اتهامها بالتنصّت على الأبواب لترضي رغبتها في الإنتقاد.
غير أن أياً من هذا لم يبدّل السلام العميق الذي بداخلها، وعندما تسببت الثورات السياسية بتدمير ديرها كانت تقول بنبرة حزينة: “إن كنيسة ديري الصغيرة، التي كانت جنتي على الأرض وحيث أن المخلص تجسد بيننا في القربان المقدس نحن الخطأة غير المستحقين، باتت من دون سقف ولا نوافذ. وما الذي ينتظر ديرنا المتواضع حيث كنت أكثر سعادة في غرفتي على كرسي المكسور من ملك على عرشه (لأنني كنت أرى المذبح حيث القربان المقدس) في السنوات القادمة؟ فقريباً لن نتعرف حتى إلى المكان حيث صلت أرواح كثيرة كرست نفسها للرب لفترات طويلة لخلاص الخطأة. كانت سعادتي لا توصف، في غرفتي كان يوجد كرسي من دون مقعد وآخر من دون ظهر، مع ذلك كانت تبدو لي غنية ورائعة بحيث كنت أعتقد أحياناً أنها تجسّد السماء”.
وقد شكلّت هذه السنوات القصيرة التي قضتها في الدير الجزء الأغنى من هذه الحياة المتميزة. وباتت حالات النشوة التي اختبرتها تتكرر وازدادت الرؤى واتخذت طابعاً رائعاً. فقد رأت العهد القديم بكامله والمعنى العميق والأزلي لكل من الصور التي حملها، أي الرابط المتين الذي يجمعها عبر كافة النقاط بأسرار تجسد المسيح وخلاص البشر. وبدت لها هذه العلاقات حية على مر القرون والأجيال المهيأة مسبقاً لإستقبال المخلص. وكانت ترى كافة الشخصيات التي دعاها الله للتعاون من أجل سر تجسد الكلمة وتاريخها بأدق تفاصيله والمعنى المجازي لكافة هذه الوقائع بالنسبة إلى المسيح. وكانت تعرف كافة النعم التي أغدقها الله عليها وترى ثمار أعمالها المقدسة تنتقل من جيل إلى آخر. باختصار، إختبرت الأخت الحدس العميق والكامل الذي أنبأها بوحدة العهدين في يسوع المسيح، وهو المحور والنهاية لكل شيء.
في الوقت نفسه، رأت أعمال الجحيم، مصدر وانتشار الوثنية، أنواع الخطيئة المختلفة والخرافات المستوحاة من الشيطان والتي يعمد إلى نشرها، لكي يوقف التقدم الحقيقي الوحيد ألا وهو ملكوت الله عبر تزييفه.
أخيراً، تجلت قصة خلاص البشر أي حياة المخلص بكاملها، يوماً بيوم وبكل تفاصيلها في عيني روحها المبتهجة. وقد سارت على خطى المخلص واستمعت إلى كافة تعاليمه، وشهدت على كافة عجائبه.
“إن كل هذه الرؤى، بحسب كليمانس برنتانو، تتسم بدقتها التاريخية. وليست مجرد آراء حول وقائع، كما هي الحال مع “ماري داغريدا”، إنه المشهد البسيط والمضيء للأحداث نفسها التي تنعكس في فكر آن كاثرين وكأنها انعكاس في مرآة”.
ورغم أن كافة الشخصيات التاريخية موجودة في المشاهد التي ترويها، لا يجب أن ننسى بعض تفاصيل هذه الرؤى ليست سوى رموز تضاف لإيضاح المعنى العميق بشكل أفضل. وخير دليل على ذلك الظهور المختلف للشيطان، الأشكال المريعة التي تغطي الإغراء والخطيئة لجذب الإنسان، الدخان الأسود الذي تراه يخرج من الذين يسكنهم الشيطان لحظة نجاتهم. والأمر نفسه بالنسبة الى الأشكال الملائكية التي تظهر عليها وتكون مرتبطة بالمشهد التاريخي، والأعياد التي يُحتفل بها في السماء والصور العظيمة التي تكشف لها الأسرار الأبدية بحسب تسلسه. وتعتبر معظم رؤى القديسين والأخت نفسها مجرد رموز أكثر منها إعادة إحياء الوقائع..
وكانت ترى الله بنعمه اللامتناهية كرأس الإنسانية المتجددة فيه. وكانت ترى كافة الصراعات الماضية، الحاضرة والمستقبلية للكنيسة، عروسه البتول القديسة… إزاء هذا المشهد، لا تعود مستغربةً العبارة التي تلقتها الأخت إيمريخ من ملاكها الحارس في أحد الأيام: “ما من أحد رأى هذه الأشياء بالدرجة عينها”.
(المجلّد الأول – ص:19-20-21-22-23)
***
تمّ إختصار الفَصل، ويمكن العودة الى الكتاب لقراءة النصوص بشكل كامل.. والكتاب متوفّر في مكتبة “البولسية”في جونية – ودير القديسة تريزيا الطفل يسوع في السهيلة..
عن كتاب رؤى “آنا كاثرين إيميريخ” حول حياة سيدنا يسوع المسيح (المجلّد الأول – الجزء الثالث – السنة الأولى من الحياة العامة).
كتابة الراهب الموقر الأخ جوزيف ألفار الدولي من رابطة الرهبان الدومينيكيين. ترجمة حديثة بالكامل للنص الإلماني نفذّها شارل ديبيلينغ.
ترجمته الى العربية كاتيا عازار مظلوم تحت إشراف وتنسيق الأب مروان خوري.
***
حياة آن كاثرين إيميريخ: طفلة تطلب من الله أخذها من العالم قبل أن تبلغ سناً قد تسيء إليه (1)
حياة آن كاثرين إيميريخ.. طفلة تطلب من الله أن يأخذها من العالم قبل أن تبلغ سناً قد تسيء إليه (1)