– أقوال مفخّخة وإجتزاء للعلوم.. نحن أموات بالخطايا، بالنعمة نحن مخلّصون.. (ar.zenit.org)
***
جيزل فرح طربيه – كيف تتسلّل أقوال العصر الجديد المفخّخة ويستشهد بها المؤمنون إكليروساً وعلمانيين، عن حُسن نيّة ولكن بدون دراية منهم ولا روح تمييز، فينساقون عن جهلٍ منهم ورغمًا عنهم، إلى أضاليل وكذبات العصر الجديد.
تكلّمنا في المقالات السابقة عن بعض الأقوال المفخّخة للعصر الجديد والتي تروّج لتعاليم تتناقض مع الإيمان المسيحي، مع أنّها تبدو في الظاهر أقوالاً حكيمة وبنّاءة وهادفة وإنسانية، لكنّها في الحقيقة أقوال مبطّنة مقنّعة بمصطلحات العلم الكاذب وتخفي في طيّاتها خُبثاً ما بعده خبث وكذب الشرير “الكذّاب أبو الكذب”! إنّ أغلب هذه الأقوال والشعارات كما قلنا، تروّج للحلولية Panthéisme التي تؤلّه الخليقة ولا تميّز بين طبيعةٍ للخالق وطبيعة للمخلوق، وعقيدة التقمّص وميزان الكارما وسلسلة من الولادات التي لا تنتهي. كما تروّج لألوهة غير شخصيّة هي طاقة كونية مزعومة منها مصدر الخليقة ونفَس الحياة وفكر تطغى عليه “النسبوية” Relativisme التي تساوي الخير بالشر ولمذهب المتعة Hédonisme ، في قالب من الممارسات الخفائية الإيزوتيريكية والوثنية.
نشاهد مثلاً على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، وهي صفحة تدّعي أنّها تُعنى بعلم النفس، صورةً كُتب عليها مقولة للكاتب إيكهارت توللي Ekhart Tolle وهو كاتب معروف جداً تابع للعصر الجديد، تقول: “كلّ ما نحن بحاجة إليه، هو أن نُعيد ترتيب داخل ذواتنا والخارج يهتمّ بنفسه”.
“Tout ce qu’il nous faut est de mettre de l’ordre à l’intérieur de nous et l’extérieur prendra soin de lui-même”
إذا تأمّلنا فيها نلاحظ الأمور التالية:
أوّلاً: أنّ الكلمات مدوّنة على صورة خلفيّة لإمرأة تمارس اليوغا وهي جالسة في وضعية اللوتس وتقوم بيديها بحركة المودرا Mudra. بالطبع الأمر ليس صدفةً بل هو مقصود، هدفه الإيحاء للقارئ أنّ إعادة ترتيب دواخلنا تتمّ بواسطة التأمّل الشرقي الآسيوي. وكما هو معروف، اليوغا ليست مجرّد رياضة للإسترخاء بل طقس عبادة هندوسي، بشهادة معلّميه، وهو إحدى طرق الخلاص الست المسمّاة “دارشانا” Dharshana وحركة “المودرا” هي من الطقوس الفيدية المقدسة ولها علاقة بالتانترا Tantra وتكون عادةً مصحوبة بترداد “المانترا” Mantra وهي ترمز إلى إله من الآلهة الهندوسية أو البوذية، هدفها الحصول على قوّة روحية وسحرية فائقة للطبيعة. [1] ونتساءل ما هي علاقة التأمّل وصوفية الشرق الأقصى وطقوس عبادتها، بعلم النفس؟؟
ثانياً: إيكهارت توللي (1948-..) ليس عالم نفس ولا معالجاً نفسيّاً ولا أستاذ فلسفة. بل هو محاضر كندي من أصول ألمانية وكاتب من العصر الجديد له كتاب مشهور عنوانه: “قوة اللحظة الحاضرة” صدر سنة 1997. أطلقته المقدمة التلفزيونية أوبرا وينفري Oprah Winfrey (التابعة للعصر الجديد) في برنامجها الذي يتابعه الملايين عبر العالم. يقول إنّه عالم روحاني وهو كمثل كل أتباع العصر الجديد متأثّر بديانات الشرق الأقصى خصوصاً بالهندوسية والبوذية وبأشخاص مثل كريشنامورتي ورامانا ماهارشي وغيرهم من المعلّمين الباطنيّين والخفائيّين (وغالباً ما يستشهد بكتاباتهم المقدسة). يركّز على قوّة اللحظة الحاضرة وكيفية تفعيلها بتقنيات التنمية البشرية كالتنويم والإيحاء الذاتي والتركيز على محورية الذات وقدراتها اللامتناهية، من أجل بلوغ السعادة وتحقيق نوع من الكمال أو التألّه الشخصي. باختصار هو من كتّاب العصر الجديد الذين ابتدعوا علمًا كاذبًا يخلط البدائل النفسية بالروحانيات الوثنية والميتافيزيقيا والأرواحية والخفائية وما شابهها.
لماذا يستشهد الموقع بهذه الخلطة العجيبة؟؟ يبدو أنّ من وضع هذه المقولة، إمّا يجهل أنّ كاتبها هو من العصر الجديد أو أنّه يعرف ذلك وهو يتبنّى هذا الفكر بالرغم من أنه هو نفسه عالم نفس (هذا النوع من الخلطات بين العلوم مثل علم النفس، وحكمة الصوفيات الشرقية، أصبح ويا للأسف، أمرًا شائعاً ومقبولاً في بعض الأوساط العلمية).
ثالثاً: بالنسبة إلى مضمون قول إيكهارت، لا شكّ أنّ إعادة ترتيب بيتنا الداخلي أي كياننا، أمرٌ بالغ الأهمية وله علاقة بمعالجة الكثير من مشاكلنا واضطراباتنا النفسية. مثلاً إعادة ترتيب أولويّاتنا، تحديد ضعفاتنا، التخلّي عن عاداتنا السيّئة، تصحيح ما قد أفسدناه رُغماً عنّا في علاقاتنا أو حتى في إساءة تقدير ذواتنا، نتجَ عنه صِغَرٌ أو كِبرٌ في النفس، تهاون في الدراسة أو العمل نتج عنه خبرات فشل متكرّرة الخ… لكن هل كلّ هذا يكفي؟ هل باستطاعتنا، مهما كانت قدراتنا النفسية كبيرة، أن نحلّ هذا الكم من العقد والمشاكل؟ أليس جذر المشكلة أكثر عمقاً؟ ألسنا بحاجة إلى سندٍ ما، ربّما إلى معونة تتخطّى محدوديتنا؟ وإذا كنتَ مسيحيًا، أين هو المسيح في كلّ هذا؟ ألم يقل المسيح: “بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً”؟ (يو15/ 5)
في الحقيقة “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو3/ 23). إنّ ترتيب البيت الداخلي أي النفس، لا يقتصر على تصحيح أو تعديل بعض السلوكيات، بل هو في إيجاد حلّ للخطيئة المتجذّرة فينا. لذلك يقول الرسول بولس: “الله الذي هو غنيّ في الرحمة، من أجل محبّته الكثيرة التي أحبّنا بها، ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح، بالنعمة نحن مخلّصون” (أف 2/ 4 -5). إذن نحن بحاجة إلى خلاص المسيح لأنّنا بكلّ بساطة لا نستطيع أن نخلّص ذواتنا مهما بذلنا من جهود. كلام يصعب فهمه على إيكهارت وأمثاله، لأنّ لا مكان للخطيئة ولا للنعمة المخلّصة وعمل الروح القدس في قاموس العصر الجديد! لذلك يقول إيكهارت في موضعٍ آخر: “نحن لا نصبح صالحين عندما نحاول أن نكون صالحين، لكن عندما نجد الصلاح الذي هو من قبل في داخلنا!” مع أنّ الرسول يعقوب أكّد بالوحي الإلهي وقال: “إنّ كلّ عطية صالحة وكلّ موهبة كاملة هي من العلاء منحدرة، من لدن أبي الأنوار!” (يع1/ 17)
من أهمّ الركائز التي يستعملها العصر الجديد في تعاليمه، التمحور حول الذات والأنانية Selfism وإنكار الخطيئة فالخير والشر عندهم سواء. لذلك يقول إيكهارت “رتّب داخلك واترك الخارج يهتم بنفسه”. لأنّ الخارج بما فيه الآخرين لا يهمّ بالنسبة لنا. الأولوية هي نحن بمعزل عن الآخر. هذا الكلام يشجّع النفعية وروح الإستغلال والمصلحة الشخصية والأنانية. لا وجود عندهم لجماعة كنسيّة، لجسد سرّي رأسه المسيح. لأنّه، برأيهم، كلّ واحد منّا هو المسيح ونحن نستطيع أن نحقّق “الوعي المسيحاني” أي أن نصير مسحاء ببرارتنا وصلاحنا الذاتي، متى اكتشفنا ألوهيتنا وأننا والكون شيء واحد!
أمّا بالنسبة إلى أهمية عيش اللحظة الحاضرة، فهذا أمر صحيح لكن ليس بالشكل الذي يوحون به. نتذكّر هنا القديسة تريزيا الطفل يسوع، التي تكلّمت عن أهمية عيش اللحظة الحاضرة لأنّ فيها تقديسنا، ولكن إذا عشناها في حالة اتحاد حميمي بالربّ يسوع. إذا عشناها والمسيح هو المحور وحجر الأساس فيها. إلّا أنّ أتباع العصر الجديد يشدّدون على قوّة اللحظة الحاضرة إذا عشناها مع ذواتنا وذواتنا هي المحور والأساس. لأننا آلهة بالطبيعة!
هذا قولٌ من الأقوال المفخّخة التي يروّج لها أنبياء السعادة الكاذبة أمثال “أنطوني روبنز” و”وين داير” و”بوب دويل” و”إيستر وجري هيكس” واللائحة تطول. وهذه الأقوال، ويا للأسف، تجذبنا وتدغدغ مشاعرنا وتنفخنا كما ينفخ الطاووس ريشه، لأنّنا صرنا أغنياء بذواتنا واستغنينا عن المسيح إلهنا الذي “فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” (كو2/ 3). إذن يا ليتنا نفتقر وننكر ذواتنا لنغتني بالعلم الإلهي، بوداعة الإله الذي أحبّنا إلى المنتهى فأخلى ذاته من أجلنا “آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس… وأطاع حتى الموت، موت الصليب” (فل 2/ 7- 8)
حقاً هذا هو زمن الإرتداد الذي يحضّر “للماترايا” Maitreya الآتي في عصر الدلو، المخلّص المزعوم ورئيس السلام الزائف. هذا هو زمن “الوعي المسيحاني”Conscience christique المزعوم، زمن “ضدّ المسيح” والمسيانية الكاذبة! يا رب ارحمنا!
جيزل فرح طربيه – باحثة في البدع.
[1] لمعرفة المزيد عن اليوغا والتأمل التجاوزي مراجعة كتاب: “اليوغا والتأمل التجاوزي من وجهة نظر الإيمان المسيحي”، جيزل فرح طربيه، دار المشرق