– ضبط إيقاع النظام بالأديرة ليس بجديد على الكنيسة (رانيا نبيل – اليوم الثالث)
***
في ضوء حادث اغتيال الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أبو مقار في وادي النطرون، أصدرت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية برئاسة البابا تواضروس 12 قراراً صارماً لضبط الحياة الرهبانية. وبعد أسبوع من هذه القرارات الصارمة وفي عظة كاشفة ومطمئنة للرأي العام القبطي، وجه البابا تواضروس رسالة أكد فيها “سنصدر قرارات أخرى وعلى شعب الكنيسة أن يساعدنا فى ذلك”.
فقر – عفّة – طاعة
وقد لاقت قرارات البابا ترحيباً كبيراً من جانب الأقباط داخل مصر وخارجها، معتبرين أنه كان يجب الأخذ بها منذ زمن بعيد، خاصة بعد التطور التكنولوجي وظهور مواقع التواصل الاجتماعي الأمر الذي بات يهدد حياة الراهب والتي عُرف عنها الزهد والتقشف والبعد عن العالم تماماً دون الاتصال معه بأي طريقة. فالراهب بدخوله الدير وسيامته راهباً بشكل رسمي يتم حتى تغيير إسمه، أي أنه منذ هذه اللحظة هو إنسان وُلد من جديد داخل عالم مختلف تماماً، عن العالم الذي جاء منه، عالم جديد له قوانينه الخاصة والصارمة أحياناً، وله شروطه يجب الإلتزام بها وتطبيقها وألا يتم مخالفتها.
وقد بنيت الحياة الرهبانية على ثلاث نذور، الفقر- الطاعة- التبتل. الفقر الاختياري لأن الراهب يترك ميراثه وعمله، ولا يكون له أي ممتلكات خاصة بعد دخوله الدير، والطاعة تعني التخلي عن المشيئة الشخصية والخضوع لقانون ونظام الدير، وإذا كسر أحد رهبان الدير لا يستحق البقاء. والشرط الثالث وهو التبتل والعفة والقصد منه التفرغ الكامل للحياة الروحية مع الله، ويصير حياة الراهب صباح ومساء يفكر كيف سيقابل المسيح.
واقع الرهبنة وشروطها
ويقول البابا تواضروس الثاني “إن الرهبنة عرفها العالم من الكنيسة المصرية وظهرت منذ القرن الثالث الميلادي وامتدت للعالم كله، وفلسفة الرهبنة هي “الموت عن العالم” ولذا تم تسميتها بـ”رهبنة الكفن”، حيث يصلى على الراهب صلاة جنائزية بعد أن يغطى بستر بمثابة “كفن” ويعيش بعد ذلك بالنذور الرهبانية التى تشمل الإنعزال عن العالم والفقر الاختياري وحياة الطاعة والتبتل الطوعي لكي تكون حياته نقية.
وتشترط الرهبنة الأرثوذكسية على ألا يزيد سن المتردد عن 30 سنة ولا يقل عن 23 سنة، ولا يقل مؤهله عن التعليم الجامعي أو اتمام دراسة الإكليريكية. ويقدم طالب الرهبنة تقريراً طبياً من الجهة المتعاقد معها الدير للتأكد من الخلو من الأمراض المزمنة والمعدية التي تعوقه عن الحياة الرهبانية، وتقريرأ للحالة النفسية من الطبيب النفسي المتعاقد معه الدير.
ولمدة عام تكون مرحلة طالب الرهبنة والتلمذة داخل الدير، ومن خلال تقارير المشرف على طالب الرهبنة وأب اعترافه يتم النظر في قرار سيامته راهباً بحد أقصى 3 سنوات من تاريخ التحاقه بالدير وألا تقل عن سنتين.
المحاسبة في النظام الرهباني القبطي
بعد أسبوع من اغتيال رئيس دير أبو مقار، أصدرت الكنيسة القبطية قراراً بتجريد الراهب أشعياء المقاري من رهبنته، وبعدها بأيام اتهمته النيابة بقتل رئيس الدير وتم حبسه على ذمة التحقيق. وقد جاء في قرار الكنيسة بتجريد الراهب، “أنه بعد التحقيق الرهباني مع الراهب أشعياء بخصوص الاتهامات والتصرفات التي صدرت عنه والتى لا تليق بالحياة الديرية والإلتزام بمبادئ ونذور الرهبنة من الفقر الإختياري والطاعة والعفة، قررنا تجريد الراهب المذكور وطرده من الدير، وعودته لإسمه العلماني وائل سعد.
وقد حدد القانون 3 خطوات لمحاسبة الراهب:
“الإنذار” عبر أب الاعتراف ورئيس الدير، ويتم ذلك حتى 3 مرات مع وضع قوانين روحية تساعده.
“العرض” على لجنة الانضباط الرهباني بالدير، وإذا لم يستجب للإنذار يعرض على اللجنة لدراسة حالته ومعرفة أسباب الخطأ للإنذار والمساءلة مع العلاج.
المثول أمام “لجنة الانضباط الرهباني” التابعة للمجمع المقدس للكنيسة، فإذا لم يستجب الراهب للخطوتين السابقتين يُعرض على لجنة الانضباط المجمعية لتقرر ما تراه مناسباً.
ضبط إيقاع الرهبنة ليس جديداً
في هذا الصدد يقول القس بولس حليم المتحدث بإسم الكنيسة الأرثوذكسية ل”اليوم الثالث” إن الكنيسة كانت في أشد الاحتياج لمثل هذه القرارات والتي عبرت عن نبض الشارع الكنسي بأكمله لأنها تضبط الحياة الرهبانية بقوة، وأيضاً تعالج المعوقات والتحديات التي تعوق نمو الرهبنة.
وأكد حليم أن القرارات البابوية قد لاقت قبولاً وارتياحاً من داخل الكنيسة وخارجها. وشدَّد على أن الحياة الرهبانية تحتاج من حين لآخر للنظر في مدى انضباطها لنموها وازدهارها، فالكنيسة القبطية هي التي أسست الرهبنة ونشرتها في العالم كله، وهي منبع الرهبنة لكل كنائس العالم، علاوة على أنها وريثة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية وحافظت على الإيمان والميراث الروحي والكنسي في الأزمنة الصعبة، لذلك يتم ضبطها باستمرار حتى تستمر منارة للعالم كله.
ولفت حليم إلى أن ضبط إيقاع النظام في الأديرة ليس بجديد على الكنيسة، ففي بداية عهد البابا كيرلس السادس أصدر قراراً لكل الرهبان –الذين يخدمون خارجها- بالعودة إلى أديرتهم، وفي عهد البابا الراحل شنودة الثالث أخذ قراراً بإنهاء خدمة الرهبان الذين يخدمون في الكنائس بعد قضاء سبعة أعوام أن يعودوا الدير سنة، ثم يعودون للخدمة خارجه مرة ثانية. كذلك أصدر البابا الراحل قراراً بمنع الرهبان استخدام الهواتف المحمولة، وهكذا بين الحين والآخر تتم مراجعة للحياة الديرية حتي تستمر وتنمو.
إعادة النظر في قوانين الرهبنة
يقول المفكر والكاتب كمال زاخر إنه لا يوجد شئ موحد حول الرهبنة، وقد آن الأون لإعادة النظر في قوانينها، باعتبارها إحدى الطرق التي يرى فيها الإنسان أنها الطريق الروحي المناسب له، وهي الكيان الروحي الذي يأتي منه الأساقفة والبطريرك نفسه، فكلما صحت الرهبنة صحت الكنيسة.
وحول أهم البنود التي يجب الأخذ بها في تعديل قوانين الرهبنة، بحسب زاخر التأكيد على أن الرهبنة حركة شعبية وليس حركة كهنوتية، لمنع فكرة طموح الرهبان في تولي مناصب خارج الدير؛ لذل يجب أولاً الحد من الرحلات للأديرة لأنها تعني مزيد من اختلاط الرهبان بالعالم الخارجي وهو ما يعني كسراً لأحد أهم النذور الرهبنة وهي “العزلة” لأن الاختلاط يهدد عفة الراهب، مع الفصل بين إدارة مشاريع الدير والحياة الرهبانية للراهب، حتى لا يستفيد الراهب في شكل شخصي بعيداً عن رقابة الدير.
الرهبنة بين الواقع والأمل
ولتوضيح ما أصاب الرهبنة خلال الفترة الماضية وكيفية علاجها؛ قدم رهبان دير أبو مقار ورقة عمل تحت عنوان “الواقع والأمل” أكدت “أن الرهبنة في هذه الأيام ضعفت أهم خصائصها، وهي نذورها الثلاثة الرئيسية المعروفة: الطاعة، والفقر، والبتولية، فاهتزَّت أعمدتها، وأضحت الطاعة فيها طاعة لأهواء الذات، والفقر مظهراً لاستدرار عطف الأغنياء، والبتولية ثوباً ممزَّقاً يكشف كلوم المجروحين بسهام الشهوة. وأشار رهبان “أبو مقار” إلى أن عوامل عديدة أدت لهذا الوضع منها؛ انفتاح الأديرة على العالم، عدم التدقيق في اختيار مَن يتقدَّم للرهبنة.
وقدد حدد رهبان أبو مقار ركيزتين للإصلاح المنشود؛ الأولى تقنين زيارات العلمانيين إلى الأديرة، والتدقيق الشديد في اختيار طالبي الرهبنة، مع الوضع في الاعتبار وكقاعدة عامة، يُحسن جداً ألاَّ تَقِلَّ فترة الاختبار عن ثلاث سنوات، مع توافُر إمكانية إخلاء سبيل الأخ طالب الرهبنة في أيِّ وقت خلال هذه الفترة، رحمةً به وبالرهبنة.
الباحث والمسؤول عن ملف حرية الاعتقاد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية اسحاق إبراهيم اعتبر من جهته أن عزاءنا الوحيد في تجاوز هذه أزمة اغتيال أسقف رئيس دير أبو مقار، هو أن نرى في الظروف الحالية فرصة في إجراء إصلاحات هيكلية في تعليم الكنيسة، ونظام الإدارة بها، وإعادة التوازن المفقود للعلاقة بين رجال الدين وعموم الأقباط. وذلك بداية من الإعلان عن المتهم بقتل الأنبا أبيفانيوس وقرارات لجنة الرهبنة الـ12 لضبط الحياة بالدير، وعظة البابا تواضروس –عقب الحادثة- الكاشفة والمطمئنة للأقباط.. فكل ذلك يعد خطوة مهمة في طريق لمعالجة تداعيات الأزمة، وذلك بالإشتراك بين قادة الكنيسة والأقباط.
صحفية مصرية أرسلت هذا المقال إلى “اليوم الثالث”