البابا بيوس العاشر القديس، يكشف “العصرنة”
لم تكن الكنيسة لتَعرف هذه الدرجة مِن الجحود، لو لم تكن الأغلاط الفلسفيّة قد تسلّلت إلى أعماق الفِكر الكاثوليكي. ولِئن كان البابا بيوس العاشر قد نشر رسالته الآنِفة، فلأنّه كان يعرف أنّ العصرنة ستكون ربّما الهجوم الأخير ضدّ الكنيسة في زَمننا.
لقد قال: «يجب أن نكسر الصمت منذ الآن، لكي نُظهرَ أمام الكنيسة كلّها، اللّون الحقيقي لهؤلاء الناس الذين تنكّروا بهذا اللّباس السيّء”. وكنائبٍ للمسيح على الأرض، يتوجّب على الحبر الأعظم أن يُنذِرَ بأنّ فلسفة العصرنة هي خلاصة كلّ الأغلاط لهذه الأنظمة الفلسفية الحديثة، في ما يختصّ بالله، ويسوع المسيح، والكتاب المقدس، والتقليد، وآباءُ الكنيسة، والأسرار، والعقائد، والبابوية، والسُّلطة الكنسية، والهرّمية.»
لقد فضح البابا بهذه الطريقة بشكلٍ عميق آراء العصريين مُضيفًا:
«لكي ندحض أيَّ لومٍ بأنه ليس لدينا سوى معلوماتٍ قليلةٍ عن عقائدهم، فإنّنا نرغب أن نُبرهِن أنّ نظامهم لا يرتكزُ على أطروحاتٍ مُتفرّقة ومُبَعثَرة بدون أيّ رابط، إنّما بالأحرى هو وحدةٌ مُتكاملة مُنظَّمة تنظيمًا كاملاً، كلُّ جزءٍ فيها هو متَّحدٌ بشكلٍ متين إلى بقيّة الأجزاء، لدرجةٍ يستحيل القبول بواحدةٍ دون قبول جميع الباقين. إنّنا نَصِفُ فلسفة العصرنة كخلاصةٍ لجميع الهراطقات، مُحاوِلةً هكذا جَمْعَ كل الأغلاط التي عبَّرَتْ عن رَفض الإيمان في كيانٍ واحد، وحَصْر أو تركيز النُسْغ والجوهر نفسه في جسدٍ واحد. إنّ العصرنة تطمح إلى تدمير ليس فقط الديانة الكاثوليكية، ولكن جميع الأديان.»
بالإضافة إلى ذلك، إنّ العصرنة تتحوَّل مع الوقت، لكي تتلائم مع كل زمنٍ وعصر. البابا بولس السادس قال:
“إنها أخطر ثورةٍ آلَمَتْ الكنيسة، وهذه البلية (العصرنة)، ما زالت باستمرار تجلدها بشكلٍ قاسٍ. إنّ هذه الثورة، هي طريقة تدميرٍ ذاتيّ، وهي تحاول دفع الكنيسة إلى حافة طريق الضّياع. إنّ الينابيع الثلاثة المسؤولة عن هذا الفساد المعروف بالعصرنة، نجدها في:
1 – السَلَفُ الديني الذي هو الإصلاح البروتستانتيّ
2 – القرابة الفلسفية مع الفلاسفة المستنيرين
3 – الإرث السياسي المتأنّي من الثورة الفرنسية (المشؤومة)
البابا بيوس العاشر أظهر أنّ “…هذا النظام المُتكامل، مع كل أغلاطه، قد وُلِدَ مِن تحالفٍ بين الإيمان والفَلسفات الخاطئة. إنّ العصريين يضعون أساس الفلسفة الدّينية في هذا التعليم الذي يسمّونه: اللّاغنوصية (Agnosticisme). إنّ إحدى خاصيّات العصريين الأساسية، هي في الجدل باستمرار عن العقائد الدينية، التي يعتبرونها كعروضٍ بسيطةٍ ثانوية، ترتكز على صِيَغٍ بدائية. إنّهم ينظرون إليها كرموزٍ ووسائل، أي صورٍ عادية وناقلاتٍ للحقيقة قابلةٍ للتغيير، يجب أن تنمو وتتحوَّل !!!
إنّها نقيض الفلسفة المسيحية (Scolastique). البابا بيوس العاشر قال:
“إنّهم يتّهمون بكل جرأةٍ الكنيسة بأنها تتمسّك بالوجهة الخاطِئة بسبب عدم قُدرتها في التمييز بين الحسّ الخُلُقي والحسّ الدّيني للصِّيَغ، ومَعناها الأدبيّ – وبأنّها تتمسَّك بطريقةٍ غبيةٍ وغير مُجدية بصيَغٍ لا معنى لها، بينما الدّيانة تسير نحو الإفلاس”.
وفي مناسبةٍ أخرى قال: “العصريون لا ينكِرون، لكنّهم يقبلون بشكلٍ مفتوح وبكثير من الفوضى، أنّ الديانات كلّها صحيحة”.
ويتابع البابا فيقول: “يعترف العصريون أنّ الصّعوبات الثلاثة التي يواجهونها هي: الفلسفة المسيحية، قوّة الآباء في التقليد الكنسيّ، وكذلك السلطة في الكنيسة. إنهم يخوضون حربًا متصلّبة ضدّ هذه المؤسّسات المقدّسة. ليس لديهم سوى السخرية والازدراء تجاه الفلسفة المسيحية، وتجاه اللاهوت. وإذا كان هذا الموقف هو وليد الخشية والجهل، أو الاثنين معًا، فممّا لا شكَّ فيه أن شَغَفَ التغيير يتّحد في داخلهم إلى بغضهم للفلسفة المسيحية. ليس هنالك من علاقةٍ أكثر دلالة من أن نكون على طريق العصرنة، إلاّ عندما نبدأ في إظهار إشمئزازنا ونفورنا من النظام القائم”. وقد أظهر بيوس العاشر أيضًا، أن العصريين يحتكرون المناصب في الإكليركيات والمعاهد، ويحوِّلونها تدريجيًّا إلى مناصب نَتِنة. وانطلاقًا مِن مناصبهم هذه، ينشرون ولو بشكلٍ غير علنيّ دائم، بذور معتقداتهم، ويعلِنون تعاليمهم دون تخفٍّ في المؤتمرات. كما يحاولون بكل الوسائل إضعاف قوة الكنيسة والحدّ منها، بهدف إقصاء السُلطة فيها، بتزييفهم بطريقة دنِسة منشأها، طابعها، وحقوقها، مردِّدين بحريةٍ افتراءات أعدائها”.
(مُقتطف مِن مقال للدكتور هنري كريمونا، مجلّة الحركة الكهنوتية المريمية، لبنان -2002)