يصحّ اليوم قول المسيح “مرثا مرثا، تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد”، المطلوب من الجميع اليوم وقفة مع الذات ومع الحق انتصاراً للعدل والسلام، وإلا علينا وعلى الدنيا السلام.
يعيش العالم اليوم على وقع التصعيد الذي افتعله دونالد ترامب بتوقيع القرار القاضي بالاعتراف بالقدس عاصمة للدولة الإسرائيلية، ما لفت الأنظار إلى ما يُحاك في الخفاء للقضية الفلسطينية وخاصة الضغوط التي تُمارَس على الفلسطينيين لقبول بما يُسمّى “صفقة القرن” والتي انخرط فيها بعض العرب، للضغط على الفلسطينيين للتنازل التام عن الحقوق.
وقد يكون الموقف اللبناني بشكل عام، والمواقف الرسمية للدولة اللبنانية من النوادر حيث لم يشهد اللبنانيون وحدة تجاه أية قضية خارجية أو داخلية، كما توحّدوا في مواجهة تهويد القدس، وضد قرار ترامب.
وانطلاقاً من أهمية المقاومة اليوم، يبدو من المفيد، ومن ضمن خطّة المواجهة والمقاومة أن تنضم كل الكنائس الشرقية كما المؤسّسات الدينية الإسلامية إلى الأصوات السياسية الداعية إلى المواجهة وعدم السماح باغتصاب القدس وإنهاء القضية الفلسطينية.
ننطلق من القدس، لِما لها من أهمية دينية تاريخية، تشكّل مصدر إلهام روحي لجميع الديانات التوحيدية الثلاث، وتدخل في معادلة تكوينها الثقافي وهويّتها الحضارية والتاريخية، لذا باستطاعتها أن تكون الجامِع والإطار الذي تنطلق منه القوى العربية لرفض هدر الحقوق التاريخية للفلسطينيين في أرضهم ومقدّساتهم، وهذا مطلوب من المسيحيين والمسلمين على حد سواء.
في الأساس، تنظر المسيحية بمختلف مذاهبها إلى القدس على أنها “مدينة الرب” لأنها المدينة التي شهدت الأحداث الأكثر أهمية في حياة السيّد المسيح وقيامته؛ فقد ارتبط اسم القدس في الإنجيل بمحطات أساسية في حياة يسوع المسيح، فقد أخذ والدا يسوع – الطفل إلى المعبد المقدسي “ليقدّماه إلى الرب”، وتحادث الطفل ذو الإثني عشر عاماً مع علماء الدين في المعبد… وارتبطت في هذه المدينة بمحطات آلامه الكبرى ودرب جلجلته، وقيامته. إذاً، في الفكر المسيحي ما عادت القدس مدينة أرضية، بل سماوية، فيها تكوّنت أول كنيسة مسيحية، وكانت مكاناً برزت فيه أولى دعوات الرسل للتبشير بالله واستشهاد أول مسيحي.
وبالرغم من هذه الأهمية الدينية، يختلف مسيحيو المشرق عن المسيحيين الغربيين في النظرة إلى القدس ليس من منطلق ديني بل من منطلق سياسي قومي، فالقدس أو “أمّ الكنائس المسيحية” هي مدينة عربية بامتياز بالنسبة للكنائس الشرقية، أهلها عرب وجذورها عربية بالرغم من كل الادّعاءات التي حاولت تشويه صورة المدينة منذ أقدم العصور.
وقد تكون الضربة التي تلقّتها الكنائس العربية، كانت حين تمّ تنصيب بطريرك يوناني وتسلّمه مقدّرات الكنيسة الأرثوذكسية، فعلى أثر الفتح العثماني للقسطنطينية بات البطريرك القسطنطيني رئيس “الملّة الأرثوذكسية” في السلطنة، ونظر إليه العثمانيون على أنه ممثل جميع الأرثوذكس في السلطنة، ما أدّى إلى سيطرة البطريركية القسطنطينية ومن خلالها الإكليروس اليوناني على جميع البطريركيات الأرثوذكسية الخاضعة للأستانة. فتمّت “يَوْنَنَة” البطريركية الأورشليمية في القرن السادس عشر، وحلّ البطاركة اليونان مكان العرب في الأبرشية، وهو ما أدّى إلى ضياع الكثير من الأماكن المقدّسة، فقد قام البطاركة اليونانيون ببيع الأراضي المقدّسة وأوقاف الكنيسة وفرّطوا بالمقدّسات، كونهم لا ينتمون إلى هذه الأرض العربية، ولا يتجذّرون فيها.
أما بالنسبة للكنائس الغربية، فنجد إنها، بشكل عام، لم تهتم يوماً للقضية العادلة والمحقّة في فلسطين عموماً والقدس خصوصاً إلا من منطلق قدرة أتباعها للوصول إلى الأماكن المقدّسة للحجّ. وبالفعل اتّخذ الفاتيكان موقفاً دينياً أضعف الموقف السياسي للمسيحيين الفلسطينيين بتوقيعه اتفاقاً مع إسرائيل في 30/12/1993 للاعتراف المتبادل وإشارته فقط إلى تسهيل حجّ المسيحيين إلى الأماكن المُقدّسة المسيحية، وهو ما ردّ عليه المطران اللبناني جورج خضر بالقول “…إن المدينة المقدّسة أقدس شيء فيها حق سكانها عليها. فالإنسان دائماً خير من المكان مهما عظم وسما. ولهذا يبدو لي تدويل القدس موقفاً فاسداً من أساسه لأنه مشتقّ من قدسيّة الآثار ومحجّر لهذه القدسية على حساب حق الناس وتالياً حق الله…”.
ويبقى هناك بعض الكنائس البروتستانية في أميركا، وهم الذين رحّبوا بقرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدر، التي تذهب إلى أكثر من ذلك، حيث يقرأون في نفس الكتاب الذي يقرأ به اليهود ويعتقدون بأن ما فعله ترامب اليوم سوف يؤجّج النزاعات والصراعات، وبالتالي سوف يسرّع في تحقّق نبوءة “هرمجدون” وبالتالي مجيء المسيح الثاني.
وهكذا، نستطيع القول إن اليهود استطاعوا – على مرّ الزمن- اختراق موقف الكنائس لتأمين سيطرتهم الأحادية على القدس وادّعاء ملكيّتها التاريخية، لكن مسيحيي المشرق ومسيحيي فلسطين خاصة ما زالوا يرفضون ويقاومون كل مخطّطات التهويد. لكن ما هو مطلوب اليوم أبعد من ذلك، مطلوب موقف مسيحيي عارم، ينطلق من الكنائس والمدراس والرهبانيات والبطاركة إلخ…
في ظل الخطر الذي يحيط بالقضية الفلسطينية والمواجهة التي فرضت نفسها على الجميع ضد ما سُمّي “صفقة القرن”، إن السكوت جريمة، والحياد خيانة، ويصحّ اليوم قول المسيح “مرثا مرثا، تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد”، المطلوب من الجميع اليوم وقفة مع الذات ومع الحق انتصاراً للعدل والسلام، وإلا علينا وعلى الدنيا السلام.
المصدر: الميادين
لقراءة الخبر من المصدر (إضغط هنا)