– اليوم نكتب التاريخ (أمين أبوراشد)
***
مشهدية صباحية لتلامذة صغار ينتظرون باص المدرسة، أمطرت السماء بغزارة، فالتحفت طفلة بالعلم اللبناني الذي تحمله لإحتفالية عيد الإستقلال، وزميلها الذي يرتدي بذلة الجيش اللبناني وقف تحت المطر، وبدا وكأنه يستمدّ القوة من الأخضر المُرقَّط، وبدا مغتبطاً واثقاً أن رداءه هو الذي يحميه من كل شيء، ويمنحه قوة الرجال، والإيمان بأنه تحت سقف الوطن يعيش كل الأمان.
شعرت بأن أطفال اليوم يعيشون نعمة الإستقلال، إستقلالٌ حقيقي، أنا الذي عايشت مدى عمري احتفاليات استقلالية زائفة، يوم كان الإحتلالات تربض على صدر وطني، وكنت أنظر إليها أنها عادية وطبيعية، وشتَّان بين رؤيتنا التي كان قاصرة في الماضي عن فهم الإستقلال، وبين ما نشهده في قصر بعبدا، الذي استقبل هذا العام أكثر من 4000 طفل لبناني يحملون أعلامهم ويتوسطهم “فخامة الختيار” وكأنه سانتا كلوز، يهديهم وطناً في ذكرى الإستقلال، ويستبق الأعياد المجيدة ليقدِّم إليهم أغلى الهدايا، بأن يطمئنوا الى غَدِهم وأن يحلموا بمستقبلٍ واعدٍ على أرض لبنان.
وشعرت أنا الكهل الذي بات مستقبله خلفه، أن وطني يعيش عرس الكرامة، ورميت خلفي ما هو مؤلمٌ من ذكريات على دروب تحرير وطن، وتراءى لي كابوس ياسر عرفات يوم كان يصعد الى بعبدا وكأنه شريك لي في وطني، وتراءى لي الفلسطيني ضيفاً ثقيلاً والسوري يوم وقفت أمامه ذليلاً، والإسرائيلي المحتلّ الحاقِد النَّجِس، وابتسمت للإنتصاراتٍ التي كانت حلماً، وبأن أرضي تحلم بالسنابل المكتنزة بحبيبات الأمل، أننا قادرون على دحر كل من سوَّلت له نفسه أنه يستطيع البقاء على حبَّة ترابٍ من أرض لبنان.
تذكَّرت أولائك العنصريين الأنجاس الذين سحقتهم أقدام رجال الميدان، وصهرت أجسادهم بفولاذ دباباتهم في وادي الحجير، وكيف شمخت رؤوسنا يوم اعتلينا مارون الراس، وتذكَّرت الشياطين الغزاة الذين قدِموا من شرق التخلُّف والجهل، يحملون راياتٍ سوداء كما قلوبهم، يحلمون برفعها على مداخل قصر بعبدا، وخطفتني اللحظة الى هناك، الى حيث الجرود التي باركتها أقدام الجيش والمقاومة وباتت الأرض طاهرة لأنها احتضنت شهداء وارتوت دماء كرامة.
واليوم، وفي ذكرى الإستقلال الحقيقي، وبعيداً عن محيطٍ عربي يبدو كما السفح الذليل عند أقدام جبال لبنان، أقول لكل طفلٍ لبناني يلتحف العلم ويتفيأ الأرزة ويتدفاُ ببذلة عسكرية: لا تصطحب معك الى مدرستك كتاب التاريخ، لأننا اليوم نكتب التاريخ، وكل احتفاليات استقلالنا الماضية كانت تحمل غصَّة الذلَ، وهنيئاً لك الوطن العظيم لشعبٍ عظيم، صنعته زنود رجال لبنان، وإرادة الشعب اللبناني والقرار السيادي باستعادة الأرض والكرامة، ولم يعُد نشيدنا الوطني مجرَّد كلمات ببغائية لا نراها على أرض الواقع، لأن نشيدنا كتبناه على صخورنا من قلعة الشقيف الى جرود عرسال.. رسمناه بالدم من عروقنا التي يسري فيها عشقٌ لوطنٍ لبناني كريمٍ عزيزٍ آمن، يحتفل باستقلاله على وقع نبضةِ قائدٍ من مدرسة الشرف والتضحية والوفاء إسمه ميشال عون، وحُدوده الجنوبية والشرقية مُصانة بسواعدِ شرفاءٍ من رجال لبنان، وبقبضة يدٍ حاضنةٍ مباركةٍ يرفعها حسن نصرالله، واكتب أيها التاريخ صفحات استقلالنا بحروفٍ من ذهب لثلاثية أغلى من الذهب…