– المعلومةُ في التاريخ ليست مُلكًا لأيِّ معلِّم…
***
كلمة المكتب التربوي في التيار في مؤتمر المركز التربوي للبحوث والإنماء عن مادة التاريخ
نظّم المركز التربوي للبحوث و الإنماء مؤتمرا تربوياً في اوتيل “الكساندر” حول موضوع “تعليم مادة التاريخ في لبنان”.
حضر المؤتمر عدد من الأخصائيين وعدد من معلّمي المادة وتربويون.
مثّل المكتب التربوي في التيار في المؤتمر، مسؤول الجامعات الخاصة في التيار الوطني الحر الأستاذ الدكتور جوزف الأسمر.
خلال المؤتمر ألقى الدكتور الأسمر كلمة ركّز فيها على أهمية تعليم مادة التاريخ إن كان في الشكل لناحية تطوير طرائق التعليم، أو في المضمون لناحية وجوب شمول المادة لمراحل دقيقة من التاريخ الوطني؛ وجاء في كلمته:
للحديثِ عن منهجِ تعليمِ التاريخِ في مدارسِنا أهمِّيَّةٌ “كبرى، لأنَّ الإنسانَ عليه أن يعرفَ تاريخَه لكيلا يكرِّرَ أخطاءَهُ، فيبنيَ مستقبلَهُ بخُطًى ثابتة. عليه أن يُولِيَ أهمِّيَّةً كبرى للذاكرة لكي يتخطَّى في حياته كلَّ ما أعاقَهُ على التقدُّم والتواصل والانفتاح على الآخرين. ولذلك نحرصُ، كما الشعوبُ، على تعليم أولادنا تاريخَنا. ولكنْ، لا بدَّ من التوقُّفِ هنا عند طريقةِ إيصال هذه المادَّة لهم. فأيَّ أسلوبٍ نعتمدُ لنتوجَّهَ إليهم؟ وهل تؤدِّي هذه المادَّةُ في مدارسِنا أهدافَها العامَّة والخاصَّة؟ هل طريقةُ تدريس التاريخ اليومَ هي الطريقةُ الأفضلُ الَّتي يجبُ أن نحاكيَ بها عقولَ اليوم؟ هل تُراهُم يتشوَّقون إلى حصص التاريخِ في مدارسِهم؟ أم إنَّ المادَّة تشكِّل مصدر مللٍ فيتعبون لمجرَّد تخيُّل عملِ الحفظ الَّذي سيقومون به للمعلومات؟
ما زال تدريسُ التاريخ يعتمدُ على الأساليب التقليديَّة، أي أسلوبِ المحاضرة، إذ إنَّ المعلِّم هو صاحبُ الرأي الصحيح، وعلى جميع المتعلِّمين أن يستمعوا إليه، ولا يحقُّ لهم المناقشة، أو معارضة أيديولوجيَّتِه. وعلى الرغم ممَّا يتضمَّنه كتابُ التاريخ من ثغراتٍ ونَواقِصَ، فالمتعلِّمون مُلزَمون به، وعليهم حفظُ المادَّة عن ظهرِ قلب طمعًا بالحصول على علامة عالية في الامتحان. وعليهم أن يتقبَّلوا آراء المعلِّم، وأخطاءَ الكتب المدرسيَّة، ومغالطاتِ المرويَّاتِ التاريخيَّة، إن لم نقل أكاذيب. فأيَّ جيل منفتحٍ نبني؟ وأيَّةَ عقولٍ مُنتِجَةٍ نُشعِلُ؟ وأيَّةَ مصابيحَ نُوقِدُ للغد؟ هل العقولُ الَّتي نبنيها هي عقولٌ مُتَلَقِّيةٌ خاضعةٌ أم عقولٌ مُبادِرةٌ حُرَّة؟
وضعَ منهج تعليم التاريخ في لبنان أهدافًا خاصَّة، أبرزُها تنميةُ الروح الوطنيَّة لدى الأجيال المتعاقبة من اللبنانيِّين، وترسيخُ الاعتزازِ بالهويَّة الوطنيَّة، وتقويةُ حسِّ الولاء للبنان، والتأكيدُ على وحدة اللبنانيِّين والعيش المشترك بين طوائفهم، وتعزيزُ الشعور بهُويَّة لبنان الوطنيَّة وانتمائه العربيّ، وإبرازُ التراث الثقافيِّ والحضاريِّ المشترك بين لبنان وأشقَّائه العرب في مختلف الحقبات التاريخيَّة، والمساعدةُ على تنمية روح التضامن الوطنيِّ والعربيّ. وبعد مرورِ زمنٍ على وَضْعِ هذه الأهدافِ نسألُ: هل اختفت ظاهرةُ التعصُّبِ الطائفيِّ في عقول أجيالنا الجديدة؟ هل تبني أجيالُنا الجديدةُ أُسُسَ التواصلِ وجسرَ الانفتاحِ، وتَهدِمُ ما خلَّفَتْهُ يدُ الحرب البشعة من دمار وتقوقع وانعزال؟ هل تتعلَّق هذه الأجيال بلبنان أم تنتظر أيَّة فرصة لتهاجر؟ هل تتمسَّك وتتقبَّلُ العيش المشترك وتقتنعُ به لتبنيَ لبنان؟ إذا كانت الأجوبة على كلِّ هذه التساؤلات بـ “نَعَم” فهذا يعني أنَّ التاريخ يُدرَّس وفق الطرائق الحديثة والمثاليَّة ويحرصُ المعلِّمون والسياسيات التربويَّة في المدارس على تحقيق هذه الأهداف الموضوعة.
ما هي حاجتُنا اليومَ في مادَّة التاريخ؟
مادَّةُ التاريخ ما زالت مادَّة تلقينيَّة تكبِّلُ المتعلِّم بدلًا من أن تفتحَ له نوافذَ الأمل والإبداع. وهذه المناهج لم يتمَّ تحديثُها، ولا إصدارُ كتابٍ وطنيٍّ جديد، وهذا ما يحرص عليه المركزُ التربويُّ للبحوث والإنماء.
يجبُ إدخالُ بعض التطبيقات على الكتاب، ما يتيح للمتعلِّم العملَ بشوقٍ ورغبةٍ، فهذه الحركة تُخرجُ المادَّة من الجمود، ويكون هناك مجالٌ للتحليل.
كما أنَّ التكرار يشكِّل عنصُرَ مللٍ لدى المتعلِّمين، فكم من دروس يعود المنهج ويمرُّ عليها في أكثرَ من صفٍّ ومرحلة، كمرحلة الحرب العالميَّة الأولى وصولًا إلى الاستقلال.
والأخطرُ في ذلك هو أنَّنا في كلِّ مرَّة نتوقَّفُ عند الاستقلال ونُهمِلُ التكلُّمَ على المرحلة الحديثة، وهذا ما يخلُقُ بعضَ الغموض عند أجيالنا الجديدة. علمًا أنَّ المرحلة الحديثة هي بغاية الأهمِّيَّة وباتت مصيريَّة في تاريخ لبنان، كإتِّفاقيَّة القاهرة مثلًا، أو اتِّفاقِ الطائف.
لا بدَّ من إعادة النظر جدِّيًّا وبخطًى مدروسة في هذه المادَّة، والعمل ضمن استراتيجيَّةٍ على المدى البعيد، وبناء ورشةٍ تربويَّة تحاكي العصر.
وأخيرًا أقول: المعلومةُ في التاريخ ليست مُلكًا لأيِّ معلِّم، وهي مطروحة في متناوَلِ الجميع، فالتحدِّي هو في الطرائق الَّتي نستحضر فيها الأحداث، ونضع المتعلِّمين في ظروفٍ، صحيحٌ أنَّها مرَّت وصارت من الماضي، ولكنَّها متوقَّعةُ الحُصولِ في أيَّة لحظة، وهنا علينا أن نساعدهم على إيجاد الحلول لأخذ القرارات المناسبة فيما لو مرُّوا هم يومًا في ظروف مشابهة. هكذا نستفيد من ماضينا، هكذا نتجنَّبُ تكرارَهُ، هكذا نَبني شعبًا حُرًّا للمستقبل.”