عَ مدار الساعة


التجليات في دستور الايمان- الجزء 2

 fr.Bassilالتجليات في دستور الايمان

اسبيرو جبور – السقوط – رواية الكتاب المقدس للخلق والسقوط موجزة، ولكنها رائعة في تصويرها للإنسان. كان على صورة الله فسقط:

1- اشتهى التأله بدون معونة الله، فاتكل على ذاته وتكبّر.

2- اشتهى ثمراً محرَّماً بعينيه، فذاقه، فانفسدت حواسه.

3- دخلت المعصية الى جوفه، فمات روحياً قبل أن يموت جسدياً. كان الموت الجسدي نتيجة للموت الروحي.

4- انفصل من الله فألقاه اللهُ إلى مصيره الذاتي في الفساد والشر والهلاك الى أن يحين أوان الرحمة.

5- أظلمت قواه، فغرق في الوثنية والانحلال الأخلاقي.

6- تمزَّقَ داخلياً في صراعات وانقسامات. هذا يستحق عنواناً خاصاً ومعالجة فنية بايجاز معقول ومبسَّط[1].

5- الانقسام والتمزق الداخليان

بلبلة الألسنة في بابل صورة عن تبلبل الإنسان في داخله وتبلبل الأفراد والشعوب فيما بين بعضهم بعضاً.

بولس الرسول صوّر الأمر، في رومية (7) وفي غلاطية (5)، صراعاً بين إرادتين أو بين ما تشتهي الروح وما يشتهي الجسد. يوحنا فم الذهب شرح رومية (7) بما يوضح أن الخطيئة تسكن في أعضائنا ولكنها ليست أعضاءنا. وهذا يتفق مع تقليد الآباء في القول: إن إساءة الاستعمال هي التي تجعل أعضاءنا وقوانا أدوات للشر. ولهذا ذهب مكسيموس المعترف و غريغوريوس بالاماس إلى أن اساءة استعمال الأهواء هي التي تجعلها أدوات للشر. أي ان الهوى ليس فاسداً بذاته بل بسوء استعمال إرادتي له. وهذا معنى جديد للهوى بعد أن ساد (وما زال) معناه على أنه فاسد. اهتمَّ إيفاغريوس في كتابه “الراهب”[2] بمداواة النفس البشرية. فالنسك ضروري لشفاء القسم الأهوائي من النفس، عبر تطبيق وصايا الانجيل للخلاص من الاهواء الفاسدة. وقد سمّاها أحياناً “أرواحاً”. وسمّاها أيضاً “أفكاراً” مستعيراً من يسوع في الانجيل[3]. ومع هذا فالانتصار عليها والوصول إلى حالة عدم الهوى[4]، لا يتمّان إن لم يتمتع المرء بالمعاينات الالهية[5].

في مقدمتي لـ”قانون يسوع” لم أفرّق بين الفضائل والصلاة. هما توأمان ملتصقان، لا يفترقان. منسكٌ بدون صلاةٍ عناءٌ ومشقة. وصلاة بدون نسكٍ طائرٌ ذو جناح لا جناحين تامّين.

يوحنا فم الذهب، من بعد باسيليوس، تعرّض للموضوع بإسهاب ما. ذهب الى أن حالة آدم وحواء في الفردوس كانت حالة بتولَين. ولكن سقوطهما طوَّح بالبتولية. وهكذا انتفت البتولية من الجنة ومن الأرض. إلا أن يسوع المسيح  أعاد البتولية الى الارض[6]. وكان آدم وحواء في الجنة مثل ملائكة[7]، فكان الانسان سيّد أعماله، وكانت أعضاء الجسد فيه خاضعة لارادة النفس[8].

ولكن بعد السقوط تبدّل الموقف.

الحرب الداخلية – فصارت الطبيعة البشرية منقسمة ضد ذاتها، وقامت حرب في الانسان يتعذر تسكينها[9]، فصارت الاهواء تعلن الحرب عليه. وهي أخطر بكثير جداً من الوحوش الضارية الهائجة. وصار يواجه ثورة هائلة جداً في داخله[10] يرى نفسه عاجزاً عن السيطرة عليها. وقبل مجيء المسيح كان الجسد مطواعاً للإثم يخضع له بسهولة. فلما خضعت طبيعة الانسان للفساد والموت اندسّ فيها عشّ من الاهواء العديدة. ولهذا لم يعد الانسان رشيقاً جداً ليجري في سباق الفضيلة. وقبل المسيح لم يكن الروح القدس قد حلّ بعد كما حلّ في يوم العنصرة ليساعده، ولم تكن بعدُ، المعموديةُ لتميت فيه شوكة الخطيئة. فكان مثل حصان شامس (أي جموح)، يركض، بلا شك، وانما يقع غالباً ويكبو. ومع أن الناموس كان ينير السبيل، الا أنه كان عاجزاً عن المساعدة إلا من قبيل النصائح للمحاربين[11]، كان الحصان قد أُثقل وصار شامساً[12]. فلولا يسوع لما كان رجاء خلاص.

وهكذا أسمعَنا الذهبي هذه الصخرة الخالدة:­­

“ولو بذلنا ألف جهد، فلن نستطيع أبداً أن ننجز أي شيء صالح اذا لم نكن نتمتع ايضاً بالقوة التي من­­ العلى”[13]. ويستفيض الذهبي في الكلام عن تزامل يد الله ويد الانسان، وعن احترام الله لحريتنا، فلا يأخذها قسراً بل يدعم نياتنا الطيبة واختيارنا للخير، ليدعمنا في مسيرة الفضيلة[14]. فالذهبي خلقيدوني قبل مجمع خلقيدونية (العام 451) وذيووثوليتي (قائل بالمشيئتين) قبل مكسيموس المعترف (662) والمجمع السادس المسكوني (680-681).

الصراع الروحي – وهكذا وجد الذهبي الفم نفسه مسوقاً الى الكلام عن الصراع الروحي بعبارات خاصة. فاعتبر هجمات الاهواء أعنف من هجمات في الحروب. ولذا اعتبر الذين يحاربون الاهواء مناضلين في صفوف الشهداء، يحملون “سمات” المسيح (غلاطية 6:17)، واعتبر الرهبان خلفاء الشهداء والمقتدين بالمسيحيين الأولين[15].

ذياذخوس قال إن “حمّام” عدم الفساد (أي المعمودية) يطرد الحية المتعددة الأشكال من كنوز النفس. ولكن تبقى ثنائيةُ إرادتنا، ويبقى الشياطين يحاربوننا بواسطة الجسد[16]. وسنعود إلى رأي ذياذخوس في حل المعضلة.

مكسيموس المعترف طرق الموضوع. أوردت نصه في مقدمتي لقانون يسوع[17].

التناغم – قال بولس الرسول إن الاعتراف بكون يسوع رباً يصدر عن الروح القدس (كورنتوس الأولى3:12). مكسيموس ذكر الحالة المثالية في التناغم. ويتم التناغم بزوال الفرقة بين قوى النفس. فكيف يزول الانشقاق بين قوى النفس الثلاث العاقلة والشهوانية والغضبية؟ يزول عن طريق: أ- القراءات والتأمّل والترتيل والصلاة بالنسبة للقوة العاقلة. ب- السيطرة على النفس والاصوام والاسهار وو… بالنسبة للقوة الشهوانية. ج- المحبة والوداعة والتواضع وطول البال وو… بالنسبة للقوة الغضبية. د- الصبر ضد الكسل الروحي الذي يخلخل هذه القوى الثلاث[18].

وحشية الناس – فالخطيئة شقَّقت الناس. قال مكسيموس: “نحن الذين نؤلف طبيعة واحدة، يلتهم بعضنا بعضاً بالمقابلة، مثْلَ الحيات”[19]. “انما المحبة وحدها تعلو انشطار الطبيعة البشرية”[20]. آباء كثيرون تحدَّثوا عن فساد الانسان. أحد أواخر القدامى، ثيئوذوروس أبو قرة أسقف حرّان (المتوفى 825 ) قال: إن تسعة أعشار الناس أشرار، وإن الامم كانت سباعاً تبتلع الناس وتسحق عظامهم، وتأكل لحومهم بلا رحمة ولا مرثية[21]. هذا قديماً. في عصر السلاح الذري، نعجز عن الوصف.

التشتُّت – “خاتم الخطيئة هو عليَّ”. إن عادة التفكير بالأشياء الأرضية هي سبب تشتتي. أبقى بدون قوى لان الروح (القدس) لا يأتي إليَّ، مساعِداً أياي. (أي الروح القدس الذي يعيد وحدة الذهن والقلب والجسد المفترقين بسقطة الانسان الرهيبة). بدون مساعدة الروح (القدس) القادرة على كل شيء، الخلاَّقة، قواي وحدها تبقى فارغة[22]. وأيضاً: “إنه لأمر طبيعي أن تطلع جمهرة من الافكار والصور من الكائن الساقط…”[23]. “الإغراء والعيوب تكاثرت إلى اللانهاية. فالحب الاجرامي ذو الاشكال المتعددة يسود المجتمع البشري مثل طاغية قادرة على كل شيء”[24]. وأيضاً: “حالتنا الاعتيادية، حالة كل البشرية هي حالة سقوط ووهم وضياع”[25]. وقال أيضاً القديس ثيؤذوروس :”إن الطبيعة الساقطة تولِّد الخطيئة في أشكال شتّى بالأفعال والأفكار وعواطف القلب وإحساسات الجسم[26]“.

لدى الوجوديين والشخصانيين عبارات تدور على هامش هذا التفكير الآبائي دون نجاح كبير. مارتن هايدغر أتى بفكرة حالة التَرْك (déréliction). هي لديه: الانسان موجود هكذا، متروكاً. هذا موقف فلسفي سلبي لا روحي، بعيد عن مفهوم الآباء الروحي. الآباء تحدثوا عن إهمال الله لهم بعد إنعامات غزيرة، ليزيدهم تواضعاً، وتدريباً، وتفجّعاً، ونحيباً، وحنيناً، وبطولة، وخبرة، وحنكة، ومهارة، وحكمة[27].

لا أود أن أخوض في البحث حتى نهايته. الآباء نصحوا بعدم طرح الأمور قبل النضوج لها[28]. المحللون يقولون إن التفسيرات المعطاة للمرضى قبل صعود الأفكار المكبوتة من اللاشعور إلى “ما قبل الشعور” تبقى بلا نتيجة لأن المريض لا يقبلها عن فهم على الأقل. الرب يسوع علمنا أن لا نعطي القدس للكلاب وأن لا نرمي الدُّرر أمام الخنازير.

الأثرة، التضاد – مكسيموس المعترف جعل “الأثَرة” أم الخطايا جميعاً. التحليل النفسي قال بوجود غريزتين (جنسية وعدوانية)، وقد أولى التضادَّ[29] (ambivalence) اهتماماً: ففي اللاشعور يتعايش الحب والكراهية. ما يجري من صراعات في نفوس البشر هائل. تكالُب الناس على الكسب واستعداداتهم للعدوان بمليارات المليارات من الألوان والأسباب الضارية والمعتدلة والبسيطة تعيي كل عقل وفهم عن تحليليها وإدراكها.

عدم الاستقرار – الآباء تحدَّثوا مطوَّلاً عن سرعة تحوّل النفس، عن عدم استقرارها. التضادّ يتسبّب بما تعجز عن أن تحصيه الأدمغة الالكترونية من التقلبات المتناقصة في حياة الفرد والجماعة. والحديث ذو شجون.

الانشغال بالله – ما الحل؟ ديادوخوس طرق ازدواجية النفس وكيف تتجاذبُها الرغبات المتضاربة المتضادة[30]، وأتى على ذكر الذهن. فالذهن لا يتوقف عن العمل. فلا بد من تشغيله بعمل ما. فإذا حاربْنا الافكارَ الشريرة وسدَدْنا منافذها إلى الذهن، فماذا يبقى من عمل له إن لم نشغله ببديل أصيل يُبقي الأفكار الشريرة والشياطينَ، حلفاءَها، مطرودين؟ باسكال قال: “الانسان هو قصبة، وإنما قصبة مفكِّرة”. وديكارت قال: “أنا أفكّر إذن، أنا موجود”[31]. الحل لدى ديادوخوس هو أن ندفع اسمَ الرب يسوع إلى الذهن[32]. والله “نار آكلة” (تثنيه 24:4). يسوع المسيح يملأ الفراغ، ويحرق الخطايا، ويكوي الشياطين، ويلهب حرارة النفس وحبَّها لله، ويرفعها درجة درجة الى عليائه. يوحنا السلمي وكالستوس واغناطيوس اكسنثابولي وسيرافيم ساروف نصحوا بأن نجلد الشياطين بالصلاة[33]. وفي نهاية المطاف، الى أين؟

لو شئتُ أن أحلّل البشر والمجتمعات واستطعت الكتابة لأنشأتُ عشرات المجلدات الضخمة، فيها من التفاصيل عن دقائق تلافيف نفوس البشر ما يقلب العقول حيرة.

ولكن كل هذا لا يعادل في نظري شيئاً يُذكر على طريق السماء. إنه مضيعة للوقت. الصلاة أهم من هذه الاهتمامات الفارغة.

نقل الشوق – اللاهوت كله محصور في إنسان نجح في نقل أشواق عقله وقلبه وحواسه وجسده نقلاً تاماً في اتجاه الله. هذا الانسان – كما قال آباء – قد مات وقام قبل أن تدركه الوفاة. هذا شهيد حيّ. قد يكون هذا الانسان أمَّياً لا يفقه إلا الهتاف في اليقظة والحلم والنوم: “ربي يسوع المسيح، ابن الله، ارحمني أنا الخاطىء”. وقد يكون أكبر العلماء. يسوع يقود الاثنين في التواضع والمحبة والصلاة. علم اللاهوت ليس أطروحات دكتوراه. كل إنسان يستطيع أن يضع نفسه في مدرسة الصلاة، مدرسة استدعاء الرب يسوع، من أكثر الناس سذاجة إلى أوسع الناس فكراً وعلماً.

صلاة يسوع – لا تحتاج صلاة يسوع إلى فلسفة وكيمياء وفيزياء وعلم فلك ورياضيات و… و… من أتقنها صار أكبر لاهوتي، لأنه يكون قد احتضن في قلبه الآب والابن والروح القدس الاله الواحد، أي مصدر كل علم ومعرفة وقدرة ووجود.

آباء عديدون – منذ باسيليوس وحتى بالاماس – أسفوا على الوقت الذي أضاعوه في علوم الدنيا: فإنَّها لا تُدنينا من الله.

كل علم باطلٌ إلا علم صلاة يسوع الكاملة، قائدةِ جوقة الفضائل. وإذا كان قالبي التعليمي التبشيري قد دفعني إلى انشاء الكتب والدفاع عن الايمان، فإن كل ابتهالي إلى الله هو أن يقطع ذهني عن الدنيا ويحصره في اسم يسوع انحصاراً تاماً. هذه غبطة الإنسان على الارض.

وما تبقّى باطل الاباطيل. ما النفع إن ربحت العالم وخسرت يسوع …؟ فليستجب الله هذه الرغبة التي ينخر عظامي عجزي عن تحقيقها، لأن اهوائي ديكتاتور يجلدني بسبب التراخي والتقاعس والتشتُّت. ما العمل؟ مكسيموس قال إن الطبيعة تمزقت إلف قطعة – إنها مرآة سقطت أرضاً فتهشمت. يسوع انتهر مرتا المشتَّتة، وامتدح مريم التي اختارت النصيب الصالح الذي لا يُنْتَزعُ منها.

الانسلاخ عن الدنيا – فلا بدّ من عملية هجر جذرية، ليلتصق المرء برمَّته بيسوع. لا بدّ من انسلاخ مطلق عن الدنيا لنلتصق بالآخرة. لا بدّ من القضاء على بعثرة الافكار، والرغبات، والمشتهيات، والتذوقات، والاهتمامات، والآمال، والاحلام، والمقاصد، والأهداف، والتطلّعات، وكلِّ لون من ألوان شرود الفكر والعواطف والميول. لا بدّ من إغلاق جميع منافذ تعلُّقِنا بذاتنا وبالعالم، لنجمع قدرة عشقنا كلها، لننقلها برمتها إلى يسوع.

آنذاك أفقد الاهتمام حتى بصحتي. الشهداء فقدوا الشعور بألم التعذيبات. تحمَّلوا فوق طاقة البشر، بفرح عظيم.

اشتهاء الاستشهاد – وما دام المسيحي الكامل هو الشهيد، فإن انتفت ظروف الاستشهاد فعلاً، كان عليَّ أن أستشهد بفكري، بنيَّتي، بقولي، باشتهائي ميتةَ الشهداء استشهاداً صادقاً حارّاً. عليَّ أن أكون في كل لحظة شهيداً بالنية والاستشهاد.

الضمير الحيّ – فهناك ما أسماه الآباء “استشهاد الضمير”. الضمير الحي مكواة حامية مثل قرص الشمس: يكوي شرِّي وخطاياي.

هذا الضمير الحي هو مسكن نار الروح القدس. منه يقود الروحُ القدس أفكاري وعواطفي وميولي وأفعالي ويكبح جماح أهوائي . ضميري هو سلطاني الموضوع في نار الروح القدس.

متى قولَبَ الروحُ القدس كل كياني من موقع برجِهِ الحصين في ضميري صارت إرادةُ الله هي إرادتي، صار الله كل شيء في حياتي، فقدت امتلاكي لنفسي، فقدت شعوري بنفسي، تعطلتْ مشاعري وحواسي وسيطر الروح القدس عليها[34].

الزهد الكامل – في النتيجة: لا أعود أنا فلان ابن فلان وفلانة. ولذلك علَّم الرب يسوع أن لا نتعلق لا بالمال ولا بالأهل ولا بالخلاَّن ولا بالذات. علَّمنا أن نزهد حتى في النفس، وأن نتقدم ببطولة إلى محرقات الاستشهاد.

 أقول ولا أفعل – ولكن بين هذا الكلام وواقعي المرّ بون شاسع. فأنا فصيح في الكلام، ولكن مجرم في الأفعال والأفكار والنسيان والرغبات. ولو كشف الروح القدس لي كل إساءاتي لأصابني إغماء الموت. انما أتحصّن بالهرب من رؤية نفسي على حقيقتها السافرة. ما ان يبدأ ضميري في التنقيب عن جرائمي حتى أطمره لئلا يصيبني الاغماء من شدة شعوري بالنقص والخزي والعار الشنيع والفضيحة.

قبل أن أصل مع القديسين إلى القناعة التامة بأني شرّ (أي “أشرّ”) الناس قاطبة أبقى معلقاً بالشياطين. عليَّ الاقتناع بأني منحلٌّ فاسد: فيا يسوع، يا ابن الله! لماذا أتيتَ إلى الأرض إن لم تنقذني من هذا الغلاف المتحالف مع أهوائي الشريرة؟ كلامي إثمٌ. صلواتي إثم. أنا الإثم، أنا الشرُّ بعينه، أنا قعر الخطيئة النهائي.

ولكن أقول هذا باللسان والقلم، ويبقى قلبي صخرة صلدة فاقدة الشعور بذلك. ربي أنسْني فصاحة القول والقلم، وعلِّمني فصاحة المشاعر الجيّاشة. ربي إكوِ لساني وقلمي وانتقل إلى جوفي. خلِّصني من الظاهر، واستقرَّ في الباطن. ظاهري متوجه إلى الناس رياءً. ربي اسلخه بل أحرقْه، لتبقى وحدك قائماً وحيداً في جوفي. إفضحْ شروري أمام باصرتي، بكل أبعاد قذارتها ونجاستها.

ليس في الدنيا حلاّن. هناك حلّ واحد: إما أن يمتصّني يسوع برمتي حتى نقيّ (مخيخ) العظام، وإما أن اكون أبناً لجهنم.

آباؤنا القديسين الذين أورثونا منذ القدم التحصّن باسم الرب يسوع هم بين ملائكتنا الحارسين والمرشدين.

الصلاة أهم من الدراسة – هذا التراث العظيم الذي يمثّله رهبان جبل آثوس منذ قرون هو جدير بأن يعمّ كل العالم المسيحي. ظروف الكاثوليك والبروتستانت التاريخية والثقافية أولت المعرفة أهمية شبه مطلقة على حساب الصلاة. تأثير ديونيسيوس السوري على الروحانية الغربية كان عقلانياً، بينما عدّلت الروحانيةُ الارثوذكسية تأثيره بصوفية مكاريوس السوري المنحول. مدرسة صلاة يسوع هي وحدها مدرسة. وكل مدرسة اخرى سراب خدَّاع. حنية رأسٍ عند قدمي يسوع تبلّل الارض بدموع من دم، بعرق من دم – كالمسيح في الجسمانية – أقوى بمليارات المرات من كل مكتبات الدنيا.

صلاة: فيا يسوع، يا ابن الله! أعطني سيولاً من دم أرحضُ بها دنس نفسي القذرة التي تدّعي محبتك، بينما هي ألعوبة ابليس. امنحني أن أُصاب بالخرس والصمم ليكون حديثي معك في القلب فقط حيث لا أسمع ولا أناجي سواك. ربي، ربي، ربي، أنا فصيح كسيح، فصيح في الكلام، كسيح في الاعمال. إجعل أعمالي قويمة لئلا يعود كلامي سيف دينونة حاراً يكويني يوم الحساب. فالأفعال هي الأساس وإلا كان الكلام فارغاً وخداعاً للنفس والاخرين. تجسَّدْ في أفعالي لتأتي أقوالي من فضلتها.

في النتيجة – على المرء أن يفرِّغ نفسه من ذاته ليملأها بالمسيح. هذا هو الدِين كله: يتناقص المرء شيئاً فشيئاً حتى يصبح ثوباً أبيض شفافاً لا يبين منه أي شيء سوى يسوع، حتى يصبح بلّوراً يظهر منه يسوع من كل جهة.

كتب الأوروبيون والأمريكان ألوف الكتب في الديانة المسيحية. ما نفعها لو حفظتُها برمتها إن لم يكن المسيح شمساً منيرة تقيم فيَّ وأنا فقط ثوب شفَّاف لا يحجب أي قبس من نوره مهما كان ضئيلاً؟

يوحنا السلّمي وسواه نبَّهوا إلى خطر استفحال الدراسات على الحياة الروحية. بعضهم طالبَ بأن نقطعها دائماً بفترات من الصلاة.

ليس الدِّين عِلماً[35] – ليس الدين علماً، بل صلاة بارّة ترتفع سهاماً ناريّة قدسيّة من نفس لا تحيا هي… بل يحيا فيها يسوع.

راعٍ تقيّ – ما يعتري المسيحيين من ضعف ناتجٌ عن انحراف عن هذا الطريق الملوكي. فراعٍ  أميٌ في أعالي الجبال جعل حياته مزماراً يسبّح الثالوث القدوس خيرٌ من مليارٍ من حَمَلة شهادات في اللاهوت لا ينسجون الحياة من تمجيد الثالوث القدوس، ولو كانوا ذروة المجتمع المسيحي وسادته. والباقي قشور.

فيا يسوع! حوّل خلايا كياننا جميعاً إلى نيران من الصلاة. دع الصلاة تخرج حتى من شعر رؤوسنا، وأطراف أظافرنا، وجفون أعيننا، وخلجات صدورنا، وحركات تنفُّسنا. دعنا نتنسّم اسمك أكثر من تنسّمنا الهواء. كنْ أنت هواء رئتينا المنعش وحدك لحياتنا.

خالصين ليسوع – إن لم يخترقنا يسوع كما تخترق السهامُ الجسمَ كنا تافهين. إن بقي لنا من أنفسنا مقدار ذرّة كنا مزيفين، لا أصلاء. إني أعجز عن تصوير الحقيقة. الله نار آكلة (ثنية 24:4). المسيحي هو ملقىً في هذه النار لاستخراج المعدن. هو كتلة مظلمة حلّت فيها الشمس فتحوّلت الى نور.

حذف الذات – المسيحي هو كائن حذفَ نفسه وأقام مكانها يسوع.

الزهد في المال – وهذا مستحيل بدون الزهد والنسك والتواضع. فالمتقلبون على موائد الطعام والشراب، والسابحون في جهنم اللذات، والغارقون في بحر الذهب والمقتنيات يدورون خارج فلك يسوع. يسوع ما سمح لنا أن نهتم بالقوت اليومي واللباس حتى لا ينشغل ذهننا عنه بسواه. فكيف نضع رجاءنا في المال والطعام؟ وكيف نخشى الموت، والموتُ من أجل يسوع هو وحده يحيي؟ ربَّنا! نلتمس لطفك بنا.

6- هل تبدل معدن آدم …؟

ولكن لم يتبدّل معدن آدم. إنما وَهَنَتْ قواه، وغَشِيه الظلام. أظلمتْ قواه. تشوهت صورةُ الله فيه. مكسيموس قال إنها تقطَّعت ألف قطعة. لمَّا كان في حماية الله في الفردوس فشل (آدم) في البقاء مع الله. لمَّا كانت قواه سليمة للاتصال بالله خسر قدرتها، وعاد عاجزاً عن أن يصل نفسه بالله.

ما العمل؟ لم يعد من حلّ إلا أن يتدارك اللهُ النقص.

هذا ما سيجري حين يتجسد ابن الله.

بؤس آدم – وطرد الله آدم من الجنّة، ليعيش وحواء بائسَين. كانا في الجنة ناجيَين من الألم والفساد والانحلال، وخالدَين بنعمة الله. كانا بتولين بريئين. خارج الجنة أصبحا بائسين تعيسين. وتعارفا فولدا نسلاً ورث عنهما الموتَ والبلى، فغرق في الظلام والعبادات الوثنيّة والشرور والهمجيّة. ما هي الضمانات في الانسان؟ إنه خائن غدّار سفّاح إلا إذا بدَّلَه يسوع.

7– وبالربِّ الواحد يسوع

يسوع ربٌ – في العهد القديم وردت لفظة “يهوه” أكثر من ستة آلاف مرة. وخشي اليهود هَيْبة الله، فكتبوا لفظة “يهوه” ولفظوها “أدوناي”. “أدوناي” تعني بالعربية “رب”. المترجمون اليهود ترجموها إلى اليونانية بلفظة “كيريوس”، أي ربّ. العهد الجديد استعمل للرب يسوع لفظةَ كيريوس على نطاق واسع. وسمّاه “الله” أيضاً كما سمّى الآبَ “ربّاً” والروحَ القدس “ربّاً” و”الله”[36].

فيسوع ربٌّ. والآب إلهٌ في مطلع الدستور. إنما الآب إلهٌ وربٌ والابنُ إلهٌ وربٌ والروح القدس إلهٌ وربٌ، ولكن ليس لنا عدة أرباب. ربنّا واحد وإلهنا واحد هو الآب والابن والرّوح القدس.

يسوع المسيح – اسمه يسوع. بالعبرية والآرامية اسمه”يشوع”. معنى اللفظة هو “يهوه المخلِّص”. فهو الله مخلِّصنا وهو المسيح الذي تنبّأ الأنبياءُ عن مجيئه، فتحققت فيه نبؤاتهم.

يسوع ممسوح سرمدياً بالروح القدس المستقر عليه، لأن الروح القدس هو، منذ كل أزلٍ “مسحةُ الابن” كما قال غريغوريوس النصيصي[37]، وردّد صداه يوحنا الذهبي الفم فقال: “كان ناسوته ممتلئاً من الروح القدس منذ البداية”[38].

حبل بتوليّ – الروح القدس حلَّ على مريم العذراء، وقوةُ العليّ ظلَّلتها.

آدم مخلوق من أرض بكر. باقي البشر مولودون من آدم وحواء ونسلهما.

جاء يسوع يُعيدنا الى الفردوس بولادته من بتول. فقد كان آدم في الفردوس بتولاً. وهوذا يسوع يأتينا بتولاً من أمٍّ بتول، ليعيدنا إلى طهارة الفردوس. لم يولد بفعل الانسان بل بفعل الله. ولذلك فتح لنا باب ولادة جديدة من الروح القدس، لا من الأبوين الترابيين. إنها ولادة بتولية بدون وساطة رجل وامرأة. يا للمجد!

لقاء العمق – عندما قالت مريم: “هاأنذا أمة للرب” اتّحد لاهوتُ يسوع بالناسوت المأخوذِ منها، المصنوعِ منها في تلك اللحظة.

هذا أول لقاء في العمق والصميم بين الله والانسان، بعد سقطة آدم. كل ظهورات الله قبل ذلك كانت إشارات لهذا الحدث العظيم. ما نوع الناسوت…؟

جسد يسوع – أخذ يسوع جسداً وروحاً تامَّين، فصار مساوياً لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. فجسده قابل للآلام، والأعراض، والجوع، والعطش، والنوم، والحزن العميق، والصلب، والموت، والدفن. ولمّا مات انفصلت روحه عن جسده. إنما بقي جسده متحداً بالأقنوم الالهي (الدمشقي، المئة مقالة، ص208).

في الجحيم – نزلت روحه الى الجحيم لتُخرج منها نفوسَ الصدِّيقين. وأما جسده فأودعه يوسفُ ونيقوديموس القبر.

ولكن لم يكن جسمه قابلاً للانحلال والفناء لانه جسم ابن الله. لذلك أقامه اللاهوت في اليوم الثالث.

وحدة يسوع – وكيف يكون يسوع واحداً مادام فيه إله وانسان…؟

لم يستحل الاله ويصرْ إنساناً. ولم يستحل الانسانُ ويصرْ إلهاً.

كيف اتحدا في شخص واحد…؟

لا يكون تجسّد يسوع تاماً، الا اذا كان إنساناً كاملاً له جسدٌ ذو نفس عاقلة.

ولكن النفس العاقلة لا تكون موجودة الا اذا كان الانسان شخصاً. بسبب الاتحاد الأقنومي صار الأقنومُ الثاني شخصاً للطبيعة البشرية في يسوع.

البنوة الروحية – يسوع هو ابن الله الوحيد. ليس لله ابنٌ سواه. فهو ابنه الأوحد.

ولكن ما نوع هذه البنوّة؟ الله روح بلا جسد. الولادة روحية لا جسمانية.

وعلّمنا يسوع أن الناس في العالم الآتي يكونون كملائكة السماء، لا يأكلون ولا يشربون ولا يزوِّجون ولا يتزوجون.

تعوّدنا أن نتصور الولادة ثمرة لزواج.

هنا: الولادة روحية سرمدية: أي يسوع مولود دوماً. ليس لولادته بداية ونهاية.

كلمة الله – عقولنا عاجزة عن الفهم. العهد الجديد سمّى الرب يسوع “كلمة” الله “وحكمة” الله “وابن” الله و…

كل التسميات نسبية، من أجل تقريب الموضوع من أذهاننا. الابن هو من جوهر أبيه. هو مماثل له. إن سمعنا أنّ يسوع هو ابن الله علِمْنا أنه مساوٍ له في الجوهر وأنه صادر منه.

والأب أكبر من الابن سناً. ولكن الآب ليس أقدم من الابن يسوع. إن سمعنا أن يسوع هو كلمة الله وحكمته علِمْنا أن الولادة روحية. ولا يمكن أن يكون لله كلمة وحكمة في الزمن: فهل يكون الله ذا حكمة اليوم وبلا حكمة في أمس؟ حاشا.. هو كلمته وحكمته منذ الأزل.

لوغوس – ولفظة “كلمة” ترجمة عربية للفظة لوغوس logos اليونانية. وهي مصطلح فلسفي استعمله معاصرُ يسوع الفيلسوفُ والعالم اليهودي الاسكندراني الشهير فيلون. ولا يتّسع المجال لشرحها، بل يجب الرجوع الى المعاجم اللاهوتية المختصة[39]. فوردت في الفلسفة اليونانية وبخاصة لدى زينون.

بهذه التسمية، نتعلم أن المسألة روحية وإلهية بدون أي شبه مادي أو جسماني صحيح.

نور – قال الدستور إن يسوع هو: “النور من النور”. كما يصدر النور من النور كذلك يصدر ابنُ الله من النور الآب. الشمس ونورها موجودان معاً منذ خلقَ الله الشمس. لا يمكن تصور لحظة واحدة من وجود الشمس بدون وجود النور صادراً منها. والله نور روحي لا مادي[40].

وهكذا نحصل على النتائج التالية: 1- الولادة روحية. 2- ما جرت في الزمن. 3- لم ينفصل فيها الابن عن الآب: كما أن نور الشمس لا ينفصل عن قرصها. وبما أن الله سرمدي (أي لا بداية ولا نهاية له في الزمن) فإن الولادة أيضاً سرمدية: لم تقع في زمن. ولادة الابن ملازمةٌ لوجوده مع الآب وفي الآب. الابن هو موجود دائماً بلا بداية.

ولادة سرمدية – ما نعني بالولادة السرمدية؟

لا نعني أن حال ولادة يسوع من الآب قبل كذا مليار سنة. لم ينفصل من الآب كما انفصلتُ من أمي. يسوع لم يولد: بل هو مولود، أي مولود على الدوام. هو المولود منذ الازل حتى الآن وحتى الأبد. هو في حالة صدور دائمة سرمدية من الآب. لم يولد في الزمن بل سرمدياً.

لو ولَدَه الآبُ قبل مليار سنة لكان طرأ على أقنوم الآب شيء جديد لم يكن قبلاً. والله ثابتٌ لا يعتريه تغيير وظل دوران.

الآب وَلَدَ الابنَ ولم يخلقه. لو خلقَه لكان الابنُ مخلوقاً، لكان خليقةً لا إلهاً.

يجب الانتباه الى أن الابن مولود من أقنوم الآب لا من جوهره. الروح القدس منبثق من أقنوم الآب أيضاً. شخص الآب وَلَدَ شخص الابن. ولكن بدون أن ينفصل عن أقنوم الآب. الآباء القديسون قالوا: “بدون جري”.

بدون جري – ماذا يَعنون؟ يعنون أن الساقية تجري من الينبوع ولا تبقى فيه. أما يسوع فلم يجرِ، فيصبح ساقية. هو موجود في الينبوع وإن كان مولوداً. لم ينفصل من الآب، لم يتحرك خارج الآب. هو في الآب بدون امتزاج. صَدَرَ من الآب بدون جري خارج الآب.

كيف؟ ربي! أرجوك أن تحمي عقلي من الفناء والتطاير كشظايا، إذ أتجاسر على كتابة هذه الأمور. إني أتنطّس لما ترتعد الملائكةُ إن فكَّرتْ فيه. ربي! تداركْ عقلي بالحراسة والحماية والصيانة. فإني أرتعد من جسارتي على النطق بما يفوق مدارك الملائكة والبشر.

ربي! أنت وحدك صالح للنطق بما أتجاسر على التفوه به.

نور لا ينقسم – الآب نور، والابن نور. الابن نور صَدَرَ من نور الآب. هل انقسم النور؟ وهل صار الابن بعضاً من الآب؟ حاشا.

كل أقنوم إلهٌ كامل – الآب هو إله كامل. والابن هو إله كامل. والروح القدس إله كامل. ليس أحدهم بعضاً من الآخرَين. وليس أحدهم أنقص من الآخرَين. وليس أحدهم إلهاً حقيقيّاً بينما الآخران شِبه إلهَين. الآب إله حقٌ أي حقيقي. وكذلك الابن والروح القدس. ولا ينقص الآبُ لأن الابن والروح القدس يصدران منه. لا يمكن أن يكون إلا إلهاً حقيقياً. كل أمور الله إلهية وكاملة. ليس فيه أزود وأنقص. إن قَبِلَ الزيادةَ كان غير تام. وإن قبل النقصَ كان غير مصون وغير منزَّه من الشوائب. كل ما لله هو كمالٌ بل فوق الكمال.

8- المساوي للآب في الجوهر

اللفظة اليونانية omoousios تعني أن للثالوث جوهراً واحداً بعينه[41].

خلال القرون الاولى للكنيسة ظهرت هرطقات عديدة. أخطرها الغنوسطيون والآريوسيون. جميعهم غير مسيحيين إجمالاً لأنهم أنكروا قواعد هامة من بنود الايمان. الآريوسيون ظهروا في القرن الرابع. أنكروا الثالوث القدوس وألوهة يسوع والروح القدس. شجبهم المجمع المسكوني الاول (325).

في كتابنا “يهوه أَمْ يسوع” ذكرنا أن آباء الكنيسة يعتبرونهم وأشباههم – مثل شهود يهوه في أيامنا – مارقين في الديانة المسيحية لا هراطقة بسطاء. أستاذ العقائد سابقاً في كلية اللاهوت في أثينا المرحوم پنايوتي ترامبلسّ اعتبر شهود يهوه مارقين[42].

9- الذي به كان كل شيء

في كتابنا “يهوه أَمْ يسوع” عالجنا مسألة استعمال العهد الجديد لحروف الجر. ودلَّلنا على أن يسوع هو – بموجبها – إله مثل الآب.

الثالوث خَلَقَ – الله الآب خلقَ كل الاشياء بالاشتراك مع الابن والروح القدس. آباء الكنيسة قالوا: إن الفعل والمشيئة يصدران عن الطبيعة، وإنه إن كان الفعل واحداً كانت الطبيعة أيضاً واحدة.

المشيئة خَلقتْ – ففِعلُ الخلقِ الصادرُ عن مشيئة الله هو صادر عن المشيئة الالهية الواحدة، والمشيئة الصادرة من الطبيعة[43]. وقدْ خلقَنا بفعل حر خالٍ من الإكراه والضرورة لأن حريته مطلقة[44].

اذن: فعلُ الخلق صَدَرَ عن الثالوث القدوس. فليس الابن أداةً بيد الآب. هو شريكه على قدم المساواة. والمجمع السادس المسكوني علَّمنا أن للثالوث القدوس فعلاً إلهياً واحداً وإرادةً (مشيئة) إلهية واحدة.

من خلقنا؟ من خلق الخلائق جميعاً؟ الآب والابن والروح القدس. كيف نشكره؟ لا ندري. نصرخ اليه صرخة ـ تخرج من بطّة الرجلين كما تقول العامة ـ تشق الفضاء، ونقول: أنت أعطِنا الكلام والعواطف التي تعبِّر عن شكرنا لكَ. أنتَ اعطنا الحرارة اللازمة للتعبير، لأن الخطيئة تعيق قدرتنا على الانطلاق اليك كصواريخ من الشوق اللاهب، فتكبِّلها بالأصفاد[45].

10- الذي من أجلنا

        الجزء الاول خاص بلاهوت يسوع. الجزء القادم خاص بناسوته: “الذي من أجلنا نزل من السماء”.

يسوع تجسد – ابن الله نفسه هو الذي نزل من السماء وتجسَّد. فِعْلُ تنازله غمرَنا فوضع رؤوسنا أرضاً. الذي تجسَّد هو واحد لا اثنان.

شخص يسوع واحد. كان يحوي اللاهوت قبل حَبَل العذراء به.

في لحظة الحَبَل صنع الروحُ القدس من أحشاء مريم العذراء ناسوتاً (أي طبيعة بشرية) ضمَّها يسوعُ الى شخصه الالهي.

الموضوع دقيق جداً، ويحتاج إلى عون إلهي لكي نقتبله بخشوع.

بولس قال إن الملائكة تعلَّمته من الكنيسة (أف3 : 10). فكم أنا في أمَسِّ الحاجة إلى معونة الله لكي أكتب عنه. يسوع! أسعِفْني إحمني من الزلل، فإن نارك تهدّدني بالفناء، إن لم أخشع عند التفكير في جلالك.

لاهوت وناسوت – قلنا سابقاً: إن يسوع إله تام مثل الآب والروح القدس. وهو شخص مثلهما – وبالاشتراك معهما – إنه يملك كل اللاهوت.

ولما شاء الثالوث القدوس أن يخلِّصنا، ضمَّ الروحُ القدسُ إلى شخص الابن ناسوتاً. فصار شخصُ يسوع يحوي اللاهوتَ والناسوت. بقي شخصاً واحداً. لم يصرْ شخصين، إنما صار صاحب طبيعتَين. الطبيعة الإلهية غير مخلوقة أما الطبيعة البشرية (أي الناسوت) فقد خلقها الروحُ القدس يوم البشارة.

شخص واحد في طبيعتين – فيجب إذن أن يكون يسوع شخصَين لا شخصاً واحداً.

لا! إن كان للاهوت يسوع شخصاً ولناسوته شخصاً لكان التجسد وهماً، لكان اتحادُ الناسوت واللاهوت سطحياً، لكان مجاورة لا اتحاداً. اتحاد الشخصين اتحاد أدبيّ، معنوي. أما اتحاد الطبيعتَين في شخص يسوع فاتحاد حقيقي.

تقول الكنيسة إن ليسوع شخصاً واحداً. هذا الشخص الالهي الواحد ضمَّ اليه ناسوتاً، فصار شخصُه الالهي شخصاً لناسوته، صار شخصاً للاَّهوت والناسوت: مذ أن صارا موجودَين معاً في هذا الشخص الواحد، صار شخصُ اللاهوت قواماً للناسوت.

كيف؟ هو يعلم. إنما الكنيسة تقول بأن اللاهوت والناسوت لم يمتزجا، ولم يستحلْ أيّ منهما. ليس أحدهما منفصلا عن اللآخر، ولم يتجاورا كما يتجاور الماءُ والزيت في كوب الماء.

وتُعلِّم الكنيسة أن اللاهوت أوعب[46] الناسوت جذرياً[47]. استنار (الناسوت) ولكن لم يتبدل جوهره. صار مسكناً للنور الالهي الذي شعشع في جسد يسوع على جبل ثابور.

وهكذا بقي اللاهوت ذا فعلٍ إلهي ومشيئة (إرادة) إلهية، وبقي الناسوت ذا فعل بشري وإرادة بشرية.

علَّمتْنا الكنيسة اذن: أن المسيح أقنوم (أي شخص) واحد في طبيعتين (إلهية وبشرية)، وفعلَين (إلهي وبشري)، ومشيئتَين (إلهية وبشرية). وأعطت حلاَّ لمسألة الشخص الواحد، فقالت:

التقنيم – أقنوم الابن قنَّم الناسوت أي ان الناسوت صار صاحب أقنوم، لأن أقنوم الابن ضمَّه اليه، وجعل أقنومَه الإلهي أقنوماً لطبيعته البشرية. وبفضل هذا التقنيم[48] انضوى اللاهوت والناسوت في شخص يسوع متحدَين اتحاداً وثيقاً لا ينفصم أبداً الى أبد الأبدين، اتحاداً حقيقيّاً.

كيف اتحدت الطبيعتان؟ – طريقة اتحاد الطبيعتين عجيبة: اللاهوت غير مخلوق. الناسوت مخلوق. كيف اجتمع غير المخلوق مع المخلوق في شخص واحد بدون أن يطغى اللاهوت على الناسوت: بما أنه أعظم منه بما لا يُقاس؟

إنه سرّ رحمة الله. لما شاء أن يخلّصني لم يسحقني. ترك الطبيعة البشرية فيه كاملة في فعلها وإرادتها وحكمتها وعِلمها وحريتها. وهي تمتلئ بصورة حرّة من أنوار اللاهوت.

طريقة الاتحاد فتحت لي باب الاقتراب من الله بدون أن يسحقني جلالُ الله. طبيعتي لا تحتمل اللاهوت. طريقة اتحاد اللاهوت والناسوت في شخص يسوع فريدة.

اللاهوت يؤثر في الناسوت. ولكن الناسوت لا يؤثر في اللاهوت، لأن اللاهوت ثابت سرمدياً. ولا يستطيع الناسوتُ أن ينفذ الى جوهر اللاهوت لأن الأول محدود ومخلوق أما الثاني فغير محدود، وغير قابل لأي من الأعراض التي تعتري الخلائق.

يسوع ضمّ الناسوت الى اللاهوت. ولكن اللاهوت لم ينل أي شيء يضاف اليه، وإلا كان ناقصاً قبل التجسّد، فحصل على كماله في التجسّد. حاشا لله ذلك! اللاهوت هو فوق الكمال منذ الازل وإلى الأبد.

التجسّد عمل صَدَرَ عن إرادة الآب والابن والروح القدس: الآب سُرَّ مرتضياً، الابن أتى متنازلاً، الروح القدس خلق الناسوت وضمَّه إلى اللاهوت.

طبعاً لم يكن ناسوت يسوع موجوداً قبل يوم البشارة، قبل لحظة التجسّد: فهو مخلوق في حينها.

نزل من السماء – يقول الدستور: “نزل من السماء”[49]. الله لا ينتقل لا في الزمان ولا في المكان.

ولكن اللفظة “نزل” هامة جداً. نزول يسوع من السماء هو تنازل من مقام العلى إلى مقام أدنى. إنما هو تنازل الأب الحنون الشفوق.

يسوع عمل المستحيل بل أقصى المستحيل، من أجل ذرية آدم الساقطة المتمردة على الله. قَرَنَ اللهَ والانسانَ بأسلوب تخشع له أبصار الملائكة في ذهول ما بعده من ذهول.

هو ابن الله – يسوع هو معاً ابن الله وابن الانسان. في كلا الحالتين هو ابن الله[50].

لذلك ما كان يليق التجسد إلا بالابن من بين الاقانيم، ليبقى الابن ابناً: ابن الله، وابن الانسان.

الابن وحده تجسَّد – ولكن كيف نقول إن جوهر اللاهوت واحد، ونقول من جهة اخرى إن الابن وحده تجسد قارناً اللاهوت والناسوت؟ إن شخص الابن هو الذي تجسَّد (الدمشقي 6:3 و11).

قلنا سابقاً إن أقنوم الآب يلد أقنوم الابن، وإن أقنوم الروح القدس ينبثق من الآب.

وهنا: أقنوم الابن يضمّ اليه الناسوت. الاتحاد الاقنومي في شخص يسوع بين الطبيعتَين يؤول إلى صيرورة الآب أباً ليسوع الاله – الإنسان، وصيرورةِ العذراء مريم نفسها أماً ليسوع الإله – الإنسان لأن شخص يسوع واحدٌ بلا انفصال.

والمسيحيون الأعضاء في جسد يسوع (أي الكنيسة) يصبحون أولاد الله بالتبني: “لما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من قبل امرأة لننال التبني (غلا 4:4-6 ورومية 15:8). فالآب تبنَّانا في ناسوت ابنه وأعطانا روح التبني أي الروح القدس الذي ينادي فينا الآبَ: “ابَّا الآب”، و”أبانا الذي في السموات” (غلا4:4-6 ورو 15:8 ومتى 9:6 ولوقا 2:11). فيصير الناسوت ابنَ الله بالتبني. فالآب تبنَّانا في ناسوت ابنه. ولكن جوهر اللاهوت واحد. وعليَّ هنا أن أكسر القلم وألجمَ عقلي ولساني مستسلماً إلى رحمة الله، لعلًّه يعوّض عليَّ عن هذا العجز في الفهم، بإدخالي في الظلمة الالهية الأكثر ضياءً من كل نور. فيها يستريح عقلي وقلبي من عناء التحليل العلمي البارد. عِلم الله هو غير عِلم البشر.

فيا يسوع ضعْ بلسمك على شروخ عقلي. أدخلْني إلى حجالك مغلِقاً عليَّ الباب، فأستريحَ من عقلي، وأنصرفَ إلى الذهول بك. ولكنك أنت تشاء أن أبشِّر بك إخوتي، فأنصاعُ لامرك طائعاً، لعلي ألقى لديك رحمةً تشفع في ذلي وحقارتي وجريمتي.

فاتنا حتى الآن أن نشرح لفظة “تأنس”، وجملة “الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا”.

تأنسَ – “تأنس” تعني أنه صار إنساناً. وهكذا قطع الآباءُ الطريق على هرطقتَي آريوس وأبوليناريوس القائلَين بأن الناسوت هو جسد بلا نفس عاقلة. فالانسان جسد ونفس عاقلة.

11- الذي… ومن أجل خلاصنا

عبارة “الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا” تعني أن يسوع تجسد لسببَين: 1- لأجلنا نجن البشر. 2-لأجل خلاصنا.

لماذا تجسد؟ – للآباء القديسين تفسيرات. بعضهم يقول إن التجسد كان سيقع ولو لم يخطأ آدم. ولكن بسبب خطيئته، تألم يسوع ومات وقام. بدون خطيئة آدم، كان التجسّد سيقع بدون حاجة إلى الفداء بالصليب والقيامة.

بطل هذا الرأي مكسيموس المعترف[51]. هاوسهر نوَّه بنص من اسحق السرياني النينوي يؤكد ذلك، وزاد أن هذا الرأي وجد له متحمسين بين الصوفيين (mystiques)، فهو يعتمد على الإيمان بمحبة الله الفائقة[52].

ديمتري ستانيلواي (رومانيا) يخالف وإيَّانا هذا الرأي المتطرف.

أثناسيوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي وابيفانيوس قبرص وكيرللس الاسكندري وسواهم قالوا: بأن يسوع تجسَّد ليفتدينا بالموت[53]… نكتفي بآخِرهم كيرللس:

“صار الكلمة جسداً وحلَّ فيما بيننا (يوحنا 14:1) فقط لكي يعاني موت الجسد، وينتصر هكذا على الرئاسات والقوات ويلاشي ذاك الذي يقبض على سلطان الموت أي الشيطان؛ لكي يرفع الفساد، ويقضي أيضاً معه على الخطيئة التي كانت تطغى علينا، ويعطِّل مفعول اللعنة التي عانتها طبيعة الانسان في آدم كما في باكورة الجنس (البشري) وفي الجدّ الاول[54].

بولس الرسول قال: “جاء يسوع ليخلص الخطأة الذين أولهم أنا”[55] (اكور 15:1). وأيضاً رسالة يوحنا الأولى[56] (5:3).

يوحنا الدمشقي هو خلاصة التراث الآبائي. لم يأخذ برأي مكسيموس بل قال في (12:3) إنَّ الخلاص هو سبب التجسد الإلهي. التراتيل جميعاً تؤيد هذا الرأي. مثلاً: في القداس نقول: “تجسّدتَ لأجل خلاصنا”. ترنيمة اللحن الخامس تقول: “المولود من العذراء لأجل خلاصنا”. ترنيمة السجود للإيقونة تقول: “أتى لخلاصنا”. ومثل هذا كثير جداً. في مؤتمر اللاهوتيين الأرثوذكس في أثينا العام 1936 اتُّخذ قرارٌ يقضي باحترام الرأي الغالب لدى الآباء القديسين. ذكرنا زعماءَ الآباء القديسين الممثِلين الكبار للتقليد الكنسي.

يوحنا الدمشقي هو ميزان الذهب في اللاهوت. أخذ برأي الآباء القدامى لا برأي مكسيموس الذي أخذ به حديثاً أستاذ يوناني في مجلة Contacts فخالفه الأب ديمتري ستانيلواي. الدمشقي مع التقليد القديم الأصيل أعلاه، وهذا ما تؤيده الترانيم: “يا كلمة الله لقد قبلت أن تتجسد من أجل خلاصنا” . “صار انساناً بسبب سقطتنا”.

الذي من أجلنا – ولكن ما معنى “الذي لأجلنا”؟ فهي حتماً غير “من أجل خلاصنا”.

ليس خلاصنا من آثار جريمة آدم هو كل شيء في عمل يسوع الخلاصيّ. تجسُّدُ يسوع قَرَنَ الاله والانسان. بذلك فتح لنا الباب لنتّحد نحن أيضاً بالله. فقد صار الاله إنساناً لكي يصير الانسان إلهاً. صار ابنُ الله ابنَ الناس ليصير الناسُ أبناءَ الله.

التأله – النعمة التي أفاضها لاهوت يسوع على ناسوته أَلَّهت الناسوت.

هذه النعمة تمتد إلينا متى صرنا أعضاء في جسد يسوع (أي الكنيسة).

النعمة – يسوع هو إله بالطبيعة. نحن نصير آلهة بالنعمة. فما هي النعمة؟ إنها قوى إلهية جوهرية صادرة من جوهر الإله. ولكنها ليست جوهر الله. هذه النعمة هي نورٌ إلهي. إن حلَّت فينا اشتركنا في الحياة الالهية، في حياة الله.

يسوع قنّم الطبيعة البشرية في أقنومه الالهي – ونحن نقنّم النعمة الالهية الصادرة من طبيعة الله في أشخاصنا. ينصبّ التقنيم على الطبيعة. وهكذا يكون التجسد انتصاراً على ضعف طبيعتنا التي سقطت وأظلمت، فجبرت النعمةُ الالهية الكسورَ التي ابتلتنا بها خطيئةُ آدم. التجسد سدَّ الهوة التي كانت تفصل بين الله والانسان. ذهب اثناسيوس الكبير إلى أن آلام الرب وموته وقيامته كانت أموراً قادمة ما دام التجسد قد حصل. فالتجسّد هو الخطوة التي اقتحمت المستحيلات.

الصليب بدايةً – يسوع مصلوب منذ البداية. تنازله ليتجّسد هو الصليب الأكبر: كيف يسكن الله في إنسان…؟ يا لعجائب الله الباهرة…! الصليب يلحقه منذ الأزل. هو الخروف المذبوح عنا في مقاصد الله، قبل كل الدهور.

التجسد أعظم – التجسّد الإلهي لم  يُعدنا إلى الفردوس بل رفعنا فوق الفردوس. جسد يسوع هو في الأعالي عن يمين الآب. به ارتفعنا الى الآب السماوي. فأين فردوس آدم الأرضي من جلوسنا في السماء عن ميامن الآب؟ لذلك فالتجسد هو أعظم من خَلْقِ العوالم جميعاً بما لا يقاس.

آلامه و… – أما خلاصنا فقد تمَّ في كلِ حياة يسوع وعلى الأخص في آلامه وصلبه ودفنه وقيامته. فالتجسد خلاصيٌّ أيضاً. نسميه “التجسد الخلاصي”، إنما يسوع أنقذنا بآلامه من الآلام، وبموته من الموت، وبدفنه من الدفن، ليعيدنا – يوم قيامته – مولودين جديدين مخلوقين لأعمال البِرِّ وقداسة الحق. كل ما عاناه يسوع عاناه بالنيابة عنا لكي يمحو الحكم الصادر علينا بمعاناته. شفى بجراحه جراحاتنا، وبآلامه آلامَنا. بموته أقامنا، وأجازنا معه من الأرض إلى السماء.

12– وصُلب عنا

الصليب هو درع المسيحي وسيفه. لعن الله الأرضَ بسبب خطيئة آدم. وجاء في العهد القديم: “ملعون كل من علِّق على خشبة”. تحمَّل يسوع الشتيمة ليرفع عنا وقْرَها الثقيل. بعد صلب يسوع لم تبقَ لعنة. حلّ عهد البركات عوضاً عن زمان اللعنة.

عنَّا – لم يكن يسوع مستحقاً الصليب بل نحن. بصليبه تعرّض لكل ما كان يجب أن يحلّ فينا، محترفي الذنوب. كل ظروف حياة يسوع وحركاته وسكناته وأقواله بَلاسمُ شافية لذنوبنا. غسَّلَنا بدمه.

علامة الظفر – أما صَلْبُه فقد سَمَّرَ على الصليب خطايانا وسحق أمْخَالَ الجحيم. فغدا الصليبُ للمسيحيين علامةَ الظفر وعَلَمَ الغلبة المرفوع فوق حطام الخطايا والموتِ والفناء والجحيم. أين غلبتك يا موت…؟

13– وتألم وقُبِر

قابل للألم – كان من المفروض، نظرياً، ألا يكون جسد يسوع قابلاً للألم والموت لأنه مأخوذ من عذراء طهَّرها الروح القدس. ولم يكن ممكناً أن يكون فيه ميل إلى الخطيئة ما دام هو جسدَ ابن الله. ولكن لأجلنا قَبِلَ الآلام.

وللموت – ومع هذا ارتضى يسوع – من أجلنا – أن يكون جسده قابلاً للآلام. وليس للآلام فقط، بل للموت والدفن كسائر الناس. في بستان الجسمانية صلّى حتى تساقط العرق منه كقطرات دم.

في القبر – ونزلت روحه الى الجحيم[57]. أما جسده فرقد في القبر.

هنا تعترضنا صعوبة مهَّدنا لها سابقاً.

ولكن بالناسوت – الآلام أصابت الناسوتَ لا اللاهوت.

لا باللاهوت – الموت وقع على الناسوت لا على اللاهوت.

ولم ينفصلا – واللاهوت لم ينفصل عن الناسوت. بقي متحداً بالروح التي ذهبت الى الجحيم لتسبي منها نفوس الأبرار الراقدين. وبقي متحداً بالجسد الموجود في القبر[58]. لذلك ما كان ممكناً أن يعتري البلى جسدَ يسوع، ولا كان ممكناً أن يبقى نائماً في القبر. كانت القيامة أمراً محتوماً. موت الرب حرَّرَنا من الموت. أما لاهوت يسوع فلم يمت. بقي يسوع الإله مع الآب والابن كما هم. ولكن كيف أتجاسر على القول موت الرب…؟

ما دام يسوع شخصاً واحداً فهذا ممكن. أما أن نسمي العذراء “أُمَّ الله”…؟ مع أنها لم تلد اللاهوت، ولكن وحدة الشخص تؤدي إلى ذلك.

14- وقام في اليوم الثالث

لا يبلى – كان اليهود يعتقدون بأن الجسد ينتهي ويأخذ بالانحلال في اليوم الرابع. يسوع قام في اليوم الثالث. لم يكن البلى وارداً في شأنه، لأن لاهوته أقام ناسوته، ولم يتركه عرضة للفساد والبلى[59].

“على ما في الكتب”– يسوع تألم وصلب ومات وقُبر وقام على حسب ما جاء في الكتب. التعبير  مستعار من الفصل 15 من رسالة كورنثوس الأولى. عنى به بولس أن كتب الأنبياء التي تنبّأت عن ذلك قد تمت في يسوع .

جسد يسوع بعد القيامة – ولكن ما نوع جسد يسوع…؟ بعد القيامة تبدّل جسده إلى جسد روحاني خرج من القبر وبابه مغلق، ودخل على التلاميذ والأبواب مغلقة، فقد اجتاز الحواجز المادية. وظنَّتْه مريم المجدلية بستانياً، وظنه كلاوبا ورفيقه مسافراً، وظنه التلاميذ – لما أتاهم عشية الأحد – روحاً. ولم يعرفه التلاميذ الذين كانوا يصطادون لمّا وقف على الشاطىء يسألهم عما إذا كان لديهم شيء من المأكول (يوحنا 5:21-13).

وفي عشية الأحد اعترى التلاميذ عدم التصديق، فقال لهم:

لحم وعظم – “لمَ الهواجس تنبعث في قلوبكم؟ أنظروا يديَّ ورجلي، فإني أنا هو! جسّوني وانظروا، فإن الروح لا لحم له ولا عظم كما ترون لي. وإذ قال هذا أراهم يديه ورجليه… فقدَّموا له قطعة من السمك المشوي. فأخذ وأكل أمامهم” (لوقا 38:24-43). وقال بطرس: “نحن الذين أكلوا وشربوا معه بعد قيامته من بين الأموات” (أعمال 41:10). ودعا يسوع توما لوضع إصبعه في أثَر المسامير ويده في جنبه.

أكل وشرب[60] –  فيسوع قام حقاً وفعلاً بجسد روحاني. أكل وشرب مع التلاميذ. له عظم ولحم. هو قابِلٌ لأن يجسّه الإنسان. آثار المسامير الأربعة واضحة في يديه ورجليه. أثر الحربة واضح في جنبه.

جسد روحاني – إنما هو جسد روحاني يجتاز المادة. اجتاز الحجرَ المدحرج على باب القبر. اجتاز الابوابَ المغلقة. الذين شاهدوه لأوّل الوهلات لم يعرفوه.

سنكون مثله – هذا الجسد هو نموذج أجسادنا عند قيامة الاموات: سنكون مثله.

المسامير – وهذا الجسد يحمل آثار المسامير والحربة، لأن يسوع حرص حتى بعد قيامته أن تبقى الآثار موجودة في جسده الممجَّد. هي علامات عمق آلامه المجيدة من أجلنا. ولكنه أحبّنا، فكانت علامات المحبّة[61].

وقد حملها معه في صعوده، كما قال غريغوريوس اللاهوتي (الخطبة45:25).

يسوع! إن النظر إلى هذه الآثار يستدعي الذوبان ذهولاً بك. إلا اني إنسان بليد، قاسي القلب، صلب الرقبة، فاقد الاحساس، سميك الحسّ. لذا أعجز عن ذلك. فهذا مستحيل بدون قلب قد جعلته سخونةُ دموع التوبة أرقَّ من الدهن، وأسرعَ من الشمع إلى الذوبان، وأرهى من الزيت. فامددّني بقطرات منها تبلُّ لساني المكتوي بنار الجحيم، جحيمِ الخطايا.

البشارة بالقيامة – إن قيامة يسوع حدثٌ خالد أدهش التلاميذ، فجعلوه موضوع بشارتهم الأول. إنها مُذهِلَة حقاً. كيف قام المضطجع في القبر دون تدخل أحد لإنهاضه؟ نهض بسلطانه الذاتي. أنهض ذاته. اذن: هو إله لا إنسان فقط.

قام بقدرته – يسوع تدخّل، فأقام ابنة بايروس وابنَ ارملة نايين ولعازرَ. لم يتدخل أحدٌ يومَ قيامته، لنقول إنه قام على يد فلان أو فلان.

أقامنا معه – هو أقام نفسه، فأقامنا معه. قيامته مقدِّمة لإقامتنا معه بالمعمودية أولاً ثم يوم الدِين. يسوع انتقل في القبر من الموت إلى الحياة. بهذا وهب لنا أن نُولد ولادة جديدة، أن نخلع آدم الساقط، ونلبس المسيح الناهض من القبر. يسوع حلَّ في أحشاء مريم، فولدته بجسم قابل للموت. من القبر قام مولوداً لحياة عدم الفساد. يسوع حلَّ في القبر كما حلَّ في مذود البهائم في بيت لحم. ففي القبر يُولد ثانية بجسد روحاني يوم قيامته. هذا الجسد نلبسه في المعمودية أولاً.

قيامته قيامتنا – هذا الانتقال كان لأجلنا. قيامة المسيح هي قيامة كل واحد منا. نقوم هنا بميلادنا الروحي يوم نعتمد فيه. نقوم ثانية حين هتاف البوق الاخير. المعمودية طريقنا إلى المجد الأبدي. نعمتها تُنمينا لنقوم في المجد الأبدي.

يسوع عاش من أجلنا منذ الحبَل به حتى جلوسه عن يمين الآب لكي يجبلنا في ذاته جبلة جديدة. إن سلكنا في النعمة قاهرين الخطايا ورثنا المجد.

15– وصعد الى السماء

في اليوم الأربعين من القيامة صعد يسوع إلى السماء وجلس عن يمين الأب.

يمين الله – كلمة “يمين” في العبرية والسريانية والعربية تعني القوة والتكريم. فليس للآب يمين ويسار وعلو وعمق وأمام ووراء. هو فوق كل الحدود الزمانية والمكانية. إنما الإنسان مرتبط منذ طفولته بحواسه. الجهد الروحي جهد إضافي للارتفاع فوق ارتباط الذهن بالمحسوسات.

ألَّه طبيعتنا – صعد يسوع، فشرَّف طبيعتَنا البشرية، التي أخذها، بالجلوس عن يمين الآب. أشرك فيها المجد الذي كان له عند الآب من قبل كون العالم. هذا المجد سكن فيه منذ التجسّد، إنما حجَبَه عنا لنستطيع أن نراه. أظهره للتلاميذ بطرس ويعقوب ويوحنا على جبل التجلي بقدر ما استطاعوا. من يستطيع أن يبصر الشمس عن قرب؟ نور يسوع أقوى من كل الشموس.

ألَّهها، أدخلها مجده السرمدي.

يوم تجلّى يسوع على جبل ثابور استطاع تلاميذه أن يروا مجده بمقدار ما أعطاهم الروحُ القدس أن يحتملوا.

يسوع هو الآن متلألىء ببهاءٍ كامل يراه الناس بعد الموت بحسب درجاتهم. أما في يوم القيامة البهيّ فسننعم به بأجلى بيان إلى الأبد، روحاً وجسداً. نور الشمس باهت بالنسبة للنور الذي سننعم به. طبعاً هناك درجات (1 كور 15).

16– وأيضاً يأتي بمجد ليَدِين

         يسوع سيأتي في نهاية العالم ليدين الأحياء والأموات.

المجيئات – سيأتي بمجده. لن يأتي كما جاء أولاً، بتواضع، مجهولاً من قبل الناس . سيأتي جهاراً بمجدٍ، كديان عادل يجازي كل واحد على حسب أعماله. فيذهب الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة. الصدِّيقون الأموات ينهضون من القبر، فتلتصق أجسادهم بأرواحهم. ولكنها تصير أجساداً روحانية مثل جسد يسوع. أما الاشرار فيقومون للظلمة.

الأحياء – والصدِّيقون الأحياء لا يموتون، إنما يتم اختطافهم إلى السماء. لا يعود قانون الجاذبية يشدّهم إلى الأرض. جاذبيّة النعمة الإلهيّة ترفعهم إلى السماء. تنقلب الموازين (1 تسالونيكية 4).

الدينونة – الدينونة سريعة جداً لأن اللّه يعرف كل شيء.

يذهب الأبرار إلى قيامة الحياة، فيشرق فيهم الروح القدس ببهاء.

يذهب الأشرار إلى قيامة الدينونة والعذاب الأبدي.

جسد الصديقين يكون نورانياً.

جسد الأشرار غير نوراني. عذابهم أبدي. ظلمتهم أبدية.

مراتب – الصدِّيقون يشتركون في كل مجد يسوع على قدر رتبة كل واحد منهم. تجلّي يسوع على جبل ثابور نموذج لمجدهم. يتلألأون – مثل يسوع – بالأنوار الإلهيّة في غبطة أبديّة. يرتاحون من شقاء الدنيا وينعمون بالمجد الأبدي في اطمئنان وراحة. محبتهم للّه تفوق الحدود وتزداد باستمرار، لأن اللّه غير المحدود وهو مشتهاهم الدائم. فمهما أحبّوه عجزوا عن أن يسعوه[62].

عقب الموت – و لكن ما مصير الناس بعد الموت وقبل الدينونة…؟

آ-العذراء – سيدتنا مريم العذراء أُمّ اللّه صعدت بجسدها كما صعد يسوع. ودخلت المجد الابدي إلى جانب ابنها. صعدت بمجدها ونالت المجد سلفاً. قامت سلفاً لذلك لا تقوم يوم القيامة العامة، ولا تخضع لحساب يوم الدِين.

ب- الشهداء – الفصل السابع من الرؤيا قاطعٌ، والآباء القديسون علَّمونا: الشهداء ينجون من الدينونة ويدخلون المجد فوراً. وإنما ستقوم أجسادهم في يوم الدين، وتنضمّ إلى أرواحهم وتشترك في مجدهم.

ج- العذراء، الرسل… – الكنيسة تعتبر العذراء باكورة المجد إذ سبقت البشر بعد ابنها اليه. يليها الرسل. يليهم الشهداء. وكثيرون من الآباء صنَّفوا الرهبان وأقرانهم مع الشهداء.

د- أبرار العهد القديم – الكنيسة تعلّم أن جميع أبرار العهد القديم كانوا في الجحيم ولكنّ يسوع مات على الصليب، فنزل الى الجحيم، وأخرج منها أرواح الصدِّيقين، ونقلهم إلى الفردوس. وكذلك أدخل معه اللص إلى الفردوس في يوم الوفاة أي يوم الجمعة العظيمة.

لقد أعدّ الله لنا هذا الملكوت الأبدي قبل إنشاء العالم. إنه ملكوت المجد. فيه يصبح يسوعُ الكلَّ بالكلّ. يقدّمنا يسوعُ لأبيه السماوي كبواكير، ليُغدق علينا مجده السرمدي.

هـ – ما دمنا هنا – هذا في الآخرة… ولكن ما حظنا على الارض…؟

كنا أمواتاً في الخطايا والزلات، فأعتقَنا منها يسوع، ورفعَنا إلى المجد الأبدي لنحيا في الثالوث القدوس بدون العوائق التي تعيقنا على الارض.

فما الحد الفاصل بين حياتنا الأرضية وحياتنا في الأعالي…؟

ما دمنا في الجسد فسنكون في ضيق، لأن الخطيئة لا تسقط إلا في لحظة الوفاة. ستبقى التجربة ممكنة حتى المنية (أنطونيوس الكبير). الموت وحده ينقذنا من مشاغبات الجسد والخطيئة… ولا كمال على الأرض إلا بموت الشهادة والاعتراف الكامل[63].

و – فالزمان حرب – قال يوحنا فم الذهب: “زمان الحرب إنما هو كل زمان حياتنا”[64]. وقال ايضاً: “يجب أن تكون حياة المسيحي مملوءة من الدم، لا بإهراق دم الآخرين، بل بأن يكون مستعداً لاهراق دمه هو”[65].

كان الآباء الأوائل يسعون لتقليد المسيح المصلوب والشهداء، وذلك في أعمالهم النسكية. كان موت الشهادة قمة الكمال في نظر المسيحيين القدامى.

نعم! كان موت الشهادة حلم الأحلام لدى الغيورين من مسيحيي القرون الأولى، فتهافتوا عليه. تكلم عنه أثناسيوس الكبير وغيره بعبارات شائقة. ولما خفّت وطأة الاضطهادات، استشهد الناس في حياة البراري، أي النسك. وليس النسك قفزة طارئة ظهرت بعد انخفاض حدة الاضطهادات، فقد كتب اقليمس (كليمندوس) الاسكندري (المتوفي 211/216): “المسيحي الكامل يمارس الإماتة الخارجية في كل مكان ودائماً؛ في النهار والليل، في أقواله، في حياته، في سلوكيّته، هو شهيد حقيقي”[66].

هذا الكلام تكرَّر كثيراً عبر التاريخ المسيحي، وما هو إلا شرح لما جاء لدى بولس الرسول عن صلبنا مع المسيح، وحملِنا سماتِه، (غلاطية 20:2 و12:6 و17 و2كور 4:6 -5 و23:11) وتكميل ما ينقص من آلامه فينا (كولو: 24:1). والرهبان هم النماذج الحية لهذا الجهاد الروحي المرير المفروض على كل مؤمن، راهباً كان أم مدنياً.

الموت – فماذا يجري في الموت…؟

نتخلص من حكّة الخطيئة، من محدودية وجودنا، من القيود التي يقيّدنا بها ارتباطُنا بجسد الخطيئة الفاني، البالي، الذي صار بعد خطيئة آدم سميكاً لا يخترقه النور الالهي. لقد خسر الشفّافية التي كانت تؤمّن له اختراق النور الالهي لكيانه بما فيه جسده. بولس تحدث عن مسكن الخطيئة فينا، في أعضائنا (رومية 7)، فصرنا فريسة حربٍ داخلية بين شوقنا الروحي القديم الى الله وشوقنا الطارىء – وانما الجارف – إلى الدنيا الراحلة. تتصارع فينا إرادتان وعاطفتان، فنرى أنفسنا في تخبّط دائم لا يجدي ضميرنا معه – إلا قليلاً – مهما كان حيّاً، ومهما كوانا بتوبيخاته القطّاعة أكثر من السيف المهنَّد.

التلألؤ – الذهبي الفم ذكر عن آدم تلألؤه الساطع قبل الخطيئة لمّا كان عرياناً[67]. ومع أن المعمودية والميرون والقربان المقدس تعيد إلينا النور ببهاء أعظم، فإن أجسادنا تبقى حجاباً لا يخترقه النور الساكن فينا بسهولة، إلا تبعاً لنموّنا في يسوع. وقلما يظهر التلألؤ للعين المجردة إلا متى شاء الله. فهذا تابع لمقاصده الإلهية. ما دمنا في الجسد فنحن معرَّضون للزلل والسقوط. لا تنتهي غربتنا إلا بالموت. آنذاك يظهر ما سنكون عليه أبدياً. مهما ذقنا المجد الأبدي هنا، نبقى بلا ضمانة نهائية. ولذلك تتبعنا دموع التوبة حتى ضجعة الموت، فينتهي صليبُ الدموع ويبدأ صليب المجد الأبدي[68].

في لغز – بولس ذكر أننا نرى هنا في مرآة، في لغز، أما هناك فوجهاً لوجه (كورنثوس الأولى 13). فهنا العوائق. تنتقل الروح البارَّة الزكية إلى الله شفّافة نورانية. يرى غريغوريوس اللاهوتي أنها تتابع هناك سيرتها على الارض، ولكن بعد الخلاص من العوائق التي ذكرناها، فضلاً عن سطوع النور فيها بأوفر بهاء وأجلى بيان مما كان عليه هنا[69].                                        

موت الأهل – ولذلك، علينا أن نبذل كل الجهود المستطاعة لتأمين موت الأهل والصحب ميتةً صالحة بدون خوف. الموت لا يخيفنا لأنه ينقلنا من الموت الى الحياة. فأهمّ خدمة نسديها ألى اهلنا المدنفين (المشرفين على الموت) هي الإتيان بكاهن ليعترفوا، ويتوبوا، ويتناولوا القربان القدوس[70].

والذين يخدعهم الشيطان، فيتوهمون أن قدوم الكاهن لهذا الغرض دليل على أن موتهم قريب، فيرتعدون أمام هذا الوهم، هم ضعفاء الإيمان. المؤمن يهلِّل لدخول الكاهن حاملاً القربان، وإلا كان شبه كافر. والأهل الذين يخدعهم الشيطان، فيشفقون على مرضاهم، فيتجنبون الإتيان بالكاهن لئلا يخاف مرضاهم الموت، هم ألعوبة الشيطان. يرتكبون شبه كفر: أَشفَقْوا على الجسد ولم يُشفقوا على الروح.

كل هذا من علامات قلة الإيمان التي تبلغ أحيانا حدّ الكفر. فغيرتي على جسد نسيبي هي أقوى من غيرتي على روحه. إذن: أنا أحببت الجسد أكثرَ من الروح. هذا لون من الكفر بالله لا ننتبه له لأننا غارقون في الإهمال، والتقاعس، والرخاوة الروحية، واللامبالاة بمصير الاهل والخلاَّن في العالم الآخر. ربَّنا! أيقظنا من غفلتنا، فإننا نخونك بعدم مبالاتنا.

17 – لماذا كل هذا التعقيد…؟

التعقيد غنى. التبسيط فقر. الاختزال إفراغ لا تعبئة وملء.

يعجب البعض من الصيغة السابقة للإيمان المسيحي. يتساءل: لماذا لم يختر الله أسلوباً آخر لخلاصنا…؟ أما كان يستطيع أن يخلِّصنا بدون هذه المأساة الجارية على الصليب…؟

تحليلات هامة – إن الله قادر على كل شيىء. كان يستطيع أن يبدّل تكوين كلّ واحد منا. ولكن إن بدَّل تكويني أفناني، وخلق آخر بدلاً مني. فلا أخلص أنا شخصياً. ومن يخلق الله بدلاً مني يكون هذا البدل خليقة جديدة مختلفة عني نوعياً وجذرياً.

ولو شاء لأقام ملاكاً وسيطاً بينه وبيننا. ولكن هل يصلح الملاك وسيطاً بين الله والانسان؟ الملائكة أرواح مرسلة لخدمة الذين يرثون الخلاص. الشيروبيم والسيرافيم يرتعدون أمام بهاء مجد الله ويخشعون. فكيف يظهرون أمامه وسطاء؟

لا وسيط إلا الذي يكون إلهاً وإنساناً. يسوع إله يتوسط مع أبيه، ويسوع إنسان يتوسط مع الانسان. في ناسوته، صالحَ اللهَ مع الناس. هذا هو الحلّ اللائق بمجده. لم يستحقنا بتدبير معيَّن لا دخل لنا فيه. دنا الآبُ إلينا في شخص ابنه، فجذبنا إلى أحضانه.

ويتسائل البعض: إن العقل النقّاد يرتاب أمام هذه الصورة من التدبير الالهي. والعلم يرفض الحلول التي لا تكون بدقّة الرياضيات والفيزياء والكيمياء.

ونجيبه: بعد أن عرفْنا أن الآب أحبّنا أبلغ الحب، فأرسل روحه القدوس، ليعقد من أحشاء مريم البتول ناسوتاً لابنه الحبيب ينزف دماً على الصليب، لم نعد نقبل أي حلّ آخر.

الغير المعقول معقول – فهذا الحلّ الغير المعقول هو وحده المعقول.

كيف لا يرضى به قلبي وأنا أرى نفسي حاملاً الموت في جسدي، والبؤس في نفسي، أخبط في العمر خبطَ عشواء على غير هدى ولا رويَّة؟

الانجيل عرض عليَّ الثالوث القدوس مقدِّماً يسوع ذبيحة ومحرقة من أجلي. عرض عليَّ الآب مقدِّماً ابنه ضحية على الصليب.

الانجيل عرض عليَّ يسوع المصلوب النازف، طعاماً وشراباً في القربان. فاخرسْ يا عقلي، واصمتْ يا لساني، واختفِ يا وسواسي ويا شكوكي، فإن دم المسيح قد طغى عليك. دم المسيح غيّبك في الرمال.

مَنْ أنا الدويبة لكي يقدم يسوع نفسه ذبيحة من أجلي، ويدفع جسده ودمه إليَّ طعاماً وشراباً؟

من هو هذا الكاهن أو الاسقف الذي يبارك الخبز والخمر فيصبحان جسد يسوع ودمه؟ هو نفسه يسجد أمامهما مع أنه هو الذي باركهما. وهو الذي يرتعد مذهولاً حين يتناولهما (أي الاسقف أو الكاهن).

الفراغ الوجودي – العقل يتكبر. “العلم ينفخ” (كورنثوس الاولى 1:8). أما أنا فإني أتنكّر لعقلي وعِلمي وفهمي مهما سموا على كل عقل وعلم وفهم، لانهم لا يسدّون لديَّ أي فراغ وجودي. هم عبء ثقيل على كاهلي، هم بدون متعة حقيقية ثابتة. مهما طال استمتاعي بهم، فإن الشيخوخة أو المرض سيذهبان بهم.

القربان آية – أما جسد يسوع ودمه، فأحتاجُ إلى عقل الله – لا إلى عقل الملائكة – لكي أستطيع أن أبذل شيئاً بسيطاً من القدرة على تأمل مجدهما. الملائكة عاجزون عن أدراك عظمة سر القربان. فأي شيطان يحرّكني لأتفلسف فيه وأنتقده؟

قد يعرض عليَّ العلماء والفهماء ملايين الصيغ التي كان يمكن لله أن يستعملها من أجل خلاصنا بدون التجسد والصليب والقربان.

كلها مرفوضة رفضاً قاطعاً.

قد يقنعني علماء بأن الانجيل غير صحيح تاريخياً. ومع هذا سأبقى متعلقاً بجسد يسوع ودمه بدون الإنجيل، طبعاً هذا افتراض.

فالانسان عاجز عن تأليف الإنجيل، عاجز عن تصوير صيغة خلاصنا في الانجيل.

أُفضِّل- مع باسكال  Pascal– أن اعيش على أساس وجود الآخرة. ذلك أفضل من العيش على أساس الفناء كالحيوانات، فأتصرف حيوانياً مهما طال الأمد.

وأفضّل أن أعيش على أساس أن ما أتناوله هو جسد الرب ودمه. فكل جوعي الوجودي – لا العقلي فقط – لا يجدُ ضالَّته المنشودة إلا في احتضان فمي لجسد الرب ودمه. هذا وحده قنبلة ذرية تفجّر كوامن الضعف والانحلال في نفسي وجسدي. هذا وحده يعِدُني وعداً صادقاً بأن وجودي الهزيل في الجرائم والموبقات سيستحيل يوماً بفضل هذا الدم وهذا الجسد إلى مجد أبدي.

لا حلّ لمشاكل الانسان الكبرى إلا بوضع جسد يسوع بين أضراسنا لنعضَّه، كما قال يوحنا فم الذهب. لا حلَّ لها إلا بغسل نجاسة أفواهنا ونفوسنا بدم يسوع.

فديانة يسوع ديانة تمريغ الرؤوس في التراب هولاً من ملامسة جسده ودمه، لا ديانة متفذلكين وعلماء يجعلون من الدِّين نظاماً فلسفياً أو علميّاً، “على البارد، لا على السخن”.

أعجب العجب هو أن يسع فمي جسد يسوع ودمه، بدون أن أحترق مثل بنزين الطائرات، بدون أن أتلاشى في عدم الوجود، كأنّ أمي لم تلدني يوماً ولم أكن. إن جهنم مع دم المسيح وجسده خير من الوجود بدونهما. فالعلماء، وبالاحرى أدعياء العلم المتفذلكون، خالون من حرارة الروح المضطرم وباردون أكثر من الصقيع. فالمسيحي حرارةٌ لا برودة، حرارة أقوى من حرارة الشمس.

مناجاة: يسوع! يسوع! يسوع! كيف تحتمل أن تدخل فمي بدون أن أحترق، مع أن نارك أشدّ لظى من قلب قرص الشمس؟ هذا سرّ تدبيرك. هذا سرّ محبة أبيك. هذا سرّ عطف روحك القدوس. هذا سرّ انحناء الثالوث القدوس على بؤسنا وشقائنا.

والأعجب من ذلك، اني أتقدم اليكَ بفكرٍ غير طاهر، وقلبٍ نجس ونفس مبعثرة بين أصابع الشياطين ومجاري رياحهم العاتية.

ومع هذا تقبلُني، تناولُني جسدَك ودمك، بدون أي شرط تضعه عليّ. إلا اني أشعر بأني أُذنب حين تجاسرت، فتناولتك. وأشعر بأنه علي أن أتقدم إليكَ – لاحقاً – بقلب أوفر نقاء. ولكن دمك وحده يطهرني.

ومع هذا فأنا صامد في الشر، وصامد في الوقاحة. فأتقدّم إليكَ بلا استحقاق، بلا توبة، بلا دموع، بلا انسحاق، بلا اعتصار.

يا للعجب! لمْ ولن ترفضني. فإلى متى تصبر عليَّ؟

أعرف أن صبرك لن ينفد، وأن حجمه هو أكبر من حجم فظاظة وقاحتي وإجرامي. أنت غير محدود. وشناعتي غير محدودة. كلانا على طرفَي نقيض. ويلي!

لذلك، ألجمُ لساني مُقْتَصِراً على الطلب إليكَ: إصبر عليَّ حتى المنتهى. آمين.

18- تبادل الصفات: مريم أمُّ الله

هذه مسألة دقيقة جداً. نقول في مريم إنها أمُّ الله، أمُّ ربِنا يسوع.

نقول: آلام الرب، ودفنه، وقيامته، وصعوده ومجيئه الثاني. نقول: جسد الرب ودمه.

هل ولدت العذراء لاهوت يسوع؟ لا.

هل يمكن أن يكون لله جسد ودم؟ هل يموت الاله؟ هل تدخل الحربة جنب الإله؟ هل نستطيع أن نحصر الله في قبر؟ هل لله قبر؟

المسألة بالغة الدقة. يسوع شخص واحد لا شخصان. عندما أتكلم لا أقول: أكل وشرب وقام ونام جسدي. لا أقول في أبي وأمي: أبو جسدي، أمُّ جسدي.

“أنا” الانسان – جسدي هو الوسيط بيني وبين العالم الخارجي. وكل ألوان العلاقات أنسبها إلى شخصي لا إلى جسدي. لفظة “أنا” موجودة في كلامي عن أي شأن يتعلق بي. رأسي، عيني، يدي، كتابي، ثيابي، حقلي. (أنا) أكلتُ، شربتُ، لبستُ، عملتُ، مشيتُ… وهكذا دواليك.

فقد نسبتُ كل شيىء إلى “أنا”. إلى شخصي أنا.

ليس للحيوان شخص، ليس له “أنا”. لا يشعر الحيوان بأن له “أنا”. ولا له شخصية.

الله شخص – الله شخص. الإنسان شخص. يسوع شخص متأنّس.

بما أنه شخص متأنس قال: “جسدي، دمي”.

نحن ننطلق من هذا الاعتبار: أي التركيز على الشخص.

أقنوم الطبيعتين – يسوع نضد في شخصه اللاهوت والناسوت.

شخصه موجود قبل الناسوت. لما تجسد، جعلَ ناسوتَه يوجد في شخص لاهوته الصائر شخصاً (أقنوماً) للاثنين. هو موجود فيهما. بالنسبة للاَّهوت، شخصه وجوهره اللاهوتي سرمديان: ليس شخصه قبل جوهره زماناً، ولا جوهره قبل شخصه.

منذ الأزل شخصه موجود حاملاً لاهوته. اللاهوت موجود في شخصه.

في الزمان ضمَّ إلى شخصه الالهي ناسوتاً، فصار الناسوت موجوداً، قائماً في شخص ابن الله.

شخص في الطبيعتين – هذا الشخص موجود في الطبيعتين الالهية والانسانية.

ليس شيئاً إضافياً أزود منهما. ليس خارجهما، ليس إلى جانبهما. هو فيهما. التقتا فيه بإرادته الالهية. يعمل  فيهما. يظهر فيهما وعبرهما. هو موجود، قائم فيهما. قوامهما هو فيه. وهو موجود فيهما. لا وجود لهما خارجه، ولا وجود له خارجهما. هو عاملُ اتحادِهما. فيه تتحدان. لا يمكن تصوره خارجاً عنهما أو خارجتين عنه.

بلا تناوب – لا يتناوب شخص يسوع بين الطبيعتين، أي لا يكون الآن أقنوم اللاهوت ثم أقنوم الناسوت ثم يعود ليكون أقنوم اللاهوت. هو معاً ودوماً أقنوم كليهما. ولا يمكن تصور أي فجوة بين اللاهوت والناسوت.

الثالوث والتجسد – نقول في الثالوث: إله واحد في 3 أقانيم. نقول في يسوع: أقنوم في طبيعتين.

أقنوم غير منقسم – نميز الطبيعتين، ولكننا لا نقسم الأقنوم ولا نباعد بين الطبيعتين لأنهما متحدتان اتحاداً وثيقاً في الأقنوم إلى الأبد، بلا انفصال.

أمُّ الله – لذلك نؤمن بأن العذراء هي أمُّ الله. هي طبعاً أمُّ يسوع، لا أمُّ الآب والروح القدس. أليصابات قالت لها: “أمُّ ربي”[71].

فهذه التي أعطت يسوع ناسوتاً ملكتْ قلوبَنا وسحرتْ ألبابَنا، فوضعنا أنفسنا وديعة بين يديها لتقدمها إلى عرش ابنها.

19- التألّه

يسوع ضمَّ ناسوتاً إلى لاهوته في شخصه الواحد. “اللاهوت مسح الناسوت”[72]. أشبعه من الإشعاعات الالهية: ألَّهَه.

النعمة من الجوهر – هذه الإشعاعات تصدر من جوهر الله. ولكنها ليست جوهره. إنما هي إشعاعات جوهرية. نقلت إلى الناسوت الحياةَ الالهية، أشركتْه في حياة الله. والنور هو نعمة الله، هو قوة الله.

يسوع هو ابن الله من جهة ألوهته.

يسوع هو ابن مريم من جهة ناسوته.

تبنَّانا الآب – اتحاد اللاهوت والناسوت جعل الناسوتَ ابناً للآب.

وبما أن التجسد صار من أجلنا، فما هو مردوده علينا؟

نعمته فينا – النعمة الالهية تحلُّ فينا، وتلِدُنا ثانية في يسوع. لا تصِّيرنا ويسوع أقنوماً واحداً. إنما تتغلغل فينا (كما تغلغلت في ناسوت يسوع) مع أخذ الفرق – بيننا وبين يسوع – بعين الاعتبار.

نقنِّمُها – مرَّ معنا أن شخص يسوع الإلهي صار أقنوماً لناسوته. إنه قد قنَّم الناسوت، قد جعل للناسوت أقنوماً، هو أقنوم ابن الله المتجسّد.

بالمقابل يضمّ اللهُ النعمةَ الالهية إلى شخصنا، فيقنِّمُها شخصُنا فيه، ونصير شركاء الحياة الالهية. نصير أبناء الله بالتبنّي.

نعمة غير مخلوقة – النعمة غير مخلوقة، أما أنا فمخلوق. انما تنقلني من وضع مخلوق لتُدخلني في عالم غير المخلوق. تصبح جزءاً مني. أُصبح مؤلَّفاً من نعمة وروح وجسد (بالاماس ولوسكي).

التجلي – وهكذا أقتني إمكانية التجلي مثل يسوع على جبل ثابور. تجلّى قديسون عديديون وهم بعد أحياء. في رأي كالستوس واغناطيوس اكسانثوبولي، قد يدوم الأمر يومين، ثم يعود المرء الى حاله. فما دمنا في الجسد، فنحن في ضيق. اما بعد الموت – وبخاصة بعد القيامة العامة – فإن نورانيتنا تكون أسطع من الشمس. يسطع النور من كل جوانبنا.

قلنا إن النعمة غير مخلوقة. عاد الغرب إلى الرأي الارثوذكسي. في مقدمتي لكتاب “ميامر افرامية” عالجتُ الموضوع وذكرتُ المصدر الكاثوليكي (معجم الروحانية). وهذا كسب مسيحي وحدوي كبير.

ونور التجلي في ثابور هو نور غير مخلوق. أخذناه بالمعمودية والميرون، إنما تحجب خطايانا تلألؤه (ذياذوخوس، وكالستوس واغناطيوس اكسانثوبولس: المئوية 5).

فوق الملائكة – وآباء كثيرون قالوا إن التجسد رفعَنا فوق مستوى الملائكة (سر التدبير، ص 64، 66).

فيا طبيب الأجساد والنفوس طبّبْ نفسي المريضة ببلسم نعمتك هذه الالهية، لكي أستعيد قواي التي أوهنتْها الخطايا، فأرفع إليكَ يدي شاكراً مهللاً. أللهم! ارحمني وألطفْ بي. اجعل تجسُّدك مسحة حياتي وخاتمها. اجعل آلامك ودمك المسفوك دهناً وحنوطاً لنفسي المثخنة بالخطايا والمشوّهة بقروح الآثام المنتنة. اجعل صلبك صلباً لأهوائي وصليبك سيفاً لقطع رؤوسها. اجعل موتك موتاً لزلاتي، ودفنك دفناً لفسادي وانحلالي. كفِّنْ بكفنك، وقيّد بأربطة دفنك كل حركات نفسي وجسدي المعادية لمجدك، حتى اذا ما اندمجتُ أقوى اندماجٍ بصليبك، وآلامك، وموتك، ودفنك، وقبرك، أفوز بقيامتك.

على الصليب نحرَكَ الجنديُ بالحربة، فكنتَ خروفنا الفصحي المذبوح عنا. في القبر صرتَ مائدة طعامنا الشهيّ. فيا قوتنا وشرابنا! كن لنا – بواسطة سرّ قبرك – ترياقَ الحياة الذي يقتل فينا سموم الخطايا، ويحيي رميم العظام. وأعطِنا، بقلوب طاهرة، أن نسجد لتجسدك، وتأنسك، وآلامك، وصلبك، وموتك، ودفنك، وقبرك، وقيامتك، وصعودك، وذلك في أرواح تتلظّى شوقاً وحنيناً إلى تجلّي مجدك. إن لم تتداركْنا بواسطة روحك القدس، لكي نقدم هذا السجود، صرنا مثل عشب الحقل، بل أشقى الكائنات.


[1]  – في العربية راجع: 1- الدكتور عدنان الطرابلسي: آ- الرؤية الارثوذكسية للانسان. ب- وسقط آدم. 2- اسبيرو جبور: سر التدبير الإلهي وسواه. 3- مكسيموس المعترف وأَمسية جبل آثوس: “تحطَّم الإنسان ألف قطعة. مرآة سقطت فتهشَّمت”. في النظرة الأرثوذكسية، تصارع الروح والجسد (رو7 وغلا5) ، وانما يبقى المرء شخصاً في روح وجسد. لم تنفرط وحدة الاقنوم، أي الشخص. ديكارت الفرنسي فصل الروح عن الجسد وعمي عن مفهوم الشخص فكان – وهو مؤمن – أبا سقوط الفكر الغربي في المادية والالحاد. الانسان واحد لا إثنان. الروح هي المحرك لا الجسد. القوة تكمن في الروح. ليس الجسدُ المادةَ، والنفسُ الصورةَ كما لدى أتباع ارسطو ومنهم فلاسفة الغرب وعلماؤه وصولاً حتى كارل ماركس. ليس الانسان حيواناً إلا بجسده. قيمته في شخصه الروحاني الخالد.

[2]– Practicos, Sources chrétiennes, p666…, Centuries II.19 (in Clément, Sources, p123).

[3]  – متى (19:15) ومرقس (21:7).

[4]  – عدم الهوى (باليونانية apatheia). استعمل الرواقيون هذه اللفظة بمعنى انفعالي – سلبي. غريغوريوس النيصصي أعطاها معنى الانتصار على الأهواء، فساد معناه هذا.

[5]  – قال إيفاغريوس: “جسد المسيح، انما هو الفضائل المكتسبة. ومن يأكله يجد الحرية الداخلية. ودم المسيح، انما هو معاينة الكائنات، ومن يشربه يستنر به (أي ينيره يسوع). وصدر المسيح، انما هو معرفة الله، ومن يسترحْ عليه يَصِرْ لاهوتياً” (مرآة الرهبان، 118-120 عن كليمان ص 120). 

[6]  – الذهبي، مين اليوناني 350:51 . علي بن أبي طالب قال ببتولية آدم وحواء في الجنة (ص23 من نهج البلاغة وشروحه لمحمد عبدو).

[7]  – الذهبي، المواعظ على التكوين 5:15 ، مين 123:53 و 247:43  ب.

[8]  – الذهبي، المواعظ على التكوين 5:12 ، مين 104:53 آ.

[9]  – الذهبي، في البتولية 83، مين اليوناني 594:48 .

[10]  – الذهبي، المواعظ على المزمور 3:148 ، مين اليوناني 460:55 آ.

[11]  – الذهبي، المواعظ على رومية 3:11 ، مين اليوناني 487:60 – 8 .

[12]  – الذهبي، المواعظ على رومية 3:12 ، مين اليوناني 498:60 ث . كما كرّر شيئاً من ذلك في موضع آخر: “لما خطئ آدم صار جسده مائتاً وخاضعاً للألم، أصاب في طبيعته ألواناً عديدة من النقص (القصور)، فوُجد الحصان مثقلاً وعسير الانقياد” (المواعظ على رومية 3:12 في مين اليوناني 490:60).

[13]  – الذهبي، المواعظ على التكوين 5:58 ، مين اليوناني 513:54 . أنظر المواعظ على متى 4:82، مين اليوناني 742:58 .

[14]  – أيضاً مواعظه على العبرانيين 3:12 ، مين اليوناني 99:63 .

[15]  – مين اليوناني 677:50 و 124:60 و 478:63 و 52 و 267:49 .

[16]  – المئوية 78 و 79 في ترجمة دير الحرف والينابيع المسيحية.

[17]  – قانون يسوع، المنشورات الارثوذكسية 1984 . ونيكيتاس ستيثاتوس المئويات الثلاث 14:1 و52 .

[18]  – مكسيموس، المئويات 52:2 و 54 و 57:4 و 58 . وأيضاً 70:2 و 20:3 . وأيضاً 79:1 و80 و47:2، الكتاب النسكي، 19-27.

[19]  – مكسيموس، مين اليوناني 260:90 . نعم: البشر أفاعٍ في حقدهم وأذاهم.

[20]  – مكسيموس، مين اليوناني 396:91 .

[21]  – حرّان مدينة سورية اغتصبها الأتراك. تقع شمالي محافظة الجزيرة. راجع كتابه “ميمر في وجود الخالق والدين القويم”، المكتبة البولسية جونية 1982، ص 188 و 252–253 و 256 و 265-267.

[22] – Emile Simonod, La prière de Jésus, édition Présence, p137.

[23]  – Idem. P130.         

[24]  – Idem. P126.

[25]  – Idem. P100.

[26] -Ignance Briantchaninov. Introduction à la tradition ascétique de l’Eglise d’Orient. Édition Présence, Paris 1978, p.137.

[27]  – دياذوخوس، المئوية:77 و87 و90 و94 و95 ومكسيموس، المئويات في المحبة 96:4 .

[28]  – عن برينتشانينوف، صلاة يسوع ص109 : “ليس صحيحاً بالنسبة إليك أن تعرف ما سيجيء قبل أن تقتني معرفة تجريبية عما سبق. فضول كهذا هو علامة بلادة وعقلٍ معجب بنفسه”.

[29]  – سبق لي أن طرقت موضوع التضاد بالفرنسية في كتاب مشترك عنوانه:

L’anbivalence dans la culture arabe. Jacques Berque et divers, Édition Anthropos, Paris 1967.

[30]  – المئوية 24 و25.

[31]  – ديكارت وباسكال عقلانيان. الوجوديّ الارثوذكسي بردياييف عَكَسَ قول ديكارت فقال: “أنا موجود، إذن، أنا أفكر” .

[32]  – المئوية 69. لدى اسحق السرياني ما يشبه ذلك، النسكيات، ص161 من الترجمة العربية.

[33]  – قال السلمي: “أبسط يديك واجلد محاربيك باسم يسوع، فانه ليس من سلاح أقوى في السماء وعلى الارض (منه) (7:21 ص161). وأيصاً: هؤلاء الأنجاس سيهربون من صلاتك لأنها تجلدهم كما بنار (السلم إلى الله، 63:28، ص265 ). “أضرب خصومك (بواسطة) اسم يسوع”. فما من سلاح في السماء وعلى الأرض أقوى منه. ولا تزد أي شيء آخر (كاليستوس واغناطيوس، المئوية 49 ). وروى بريانتشنينوف عن سيرافيم ساروف: “كان يشهد بأن صلاة يسوع هي مقرعة ضد الجسد والرغبات الجسدية”. (سيمونود، ص115 ). من الواضح أن الاخرين جميعاً متأثرين بالسلّمي العظيم.

[34]  – في كتابنا “الاعتراف والتحليل النفسي” تحليل للأثرة واستشهاد الضمير واستشهاد النساك. الأثرة عدو المحبة الصافية. شكا ناصيف اليازجي من ندرة الخلّ (الصديق) الوفيّ. الأثرة هي أم عدم الوفاء للأصدقاء وسواهم. الطفل أثر. إنقاذه من الأثرة يحتاج الى تربية روحية خاصة. الشهيد وحده طاهر من الأثرة (أي الأنانية البغيضة). ما عدا ألوان وأجناس. الأثرة عدو اللمعان الروحي البارز في إيمان الشهداء ومحبتهم ورجائهم. إنه سرطان كل مولود حتى يشفيه الله.

[35]  – طبعا، لا أدعو الى الأمية والجهل والغباوة وإنما أحارب الذين جعلوا من اللاهوت المسيحي دراسات على طريقة تحليل النصوص الأدبية والفلسفية والتاريخية، فخنقوا روح الدِين المسيحي. القلوب تهتز لذكر يسوع. في الدراسات لا تهتز القلوب. نترك الصلاة من أجل البحث والمباحث. لا بدّ من تطعيمها بالصلاة والسجود والرهبنة.

[36]  – راجع كتابنا “يهوه أم يسوع” في مجمل الامر، لتعرف أن الكتاب المقدس قال بألوهية يسوع على قدم المساواة مع الآب والروح القدس.

[37]  – مين اليوناني 1249:45 د و1251 أ.

[38]  – العظة على المعمودية 3:2 .

[39]  – اللوغوس logos لدى يوحنا الانجيلي هو يسوع. وهو الله (يوحنا 1:1-3) لا وسيط بين الله والخليقة.

[40]  – غريغوريوس اللاهوتي كرر جملة انجيل يوحنا هكذا:

كان الآبُ النور الحقيقي الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم.

كان الابنُ النور الحقيقي الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم.

كان الروحُ القدس النور الحقيقي الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم.

[41]  – في دستور الايمان وردت اللفظة بشأن الابن يسوع. غريغوريوس اللاهوتي أطلقها على الروح القدس ايضاً.

[42]  – راجع كتابنا “شهود يهوه” ومجلة “النور” الغراء للعام 1957 حيث ترجمة لِكرَّاس ترامبلسّ بقلم الأب أنطون الشدراوي (أسقف المكسيك حالياً).

[43]  – هذا التعليم أقوى من بعض التيارات الفلسفية المعاصرة التي ترتكز على الإرادة او الحرية. بردياييف غالى في التركيز على الحرية. الآباء القديسون أقوى فهماً.

[44]  – أفلاطون قال إن المادة أزلية. الصانع صنع الأشياء من مادة أزلية موجودة. هذا كفر. لاحظَ – غالباً – تلميذُه البعيد افلوطين الاسكندرانيّ ضعفَ المقولة فاستدرك بالفلسفة الإشراقية. بني الضلال. راجعوا الكتب المختصة.

[45]  – اللاهوت هو تحقيق هذه الطلبة تماماً: “لقد شغفتني بشوقك ايها المسيح، ونقلتني بعشقك الالهي. فأحرِقْ خطاياي بنار غير هيولية… (من صلوات المطالبسي قبل المناولة). طبعاً، في المسيحية، عشق الله يقطر وراءه عشق البشر إلهياً كما علَّمنا يسوع فأوضحه يوحنا تلميذه: “بهذا” قد عرفنا المحبة أن ذلك قد بذل نفسه من أجلنا، علينا ان نبذل نفوسنا من أجل الاخوة (1 يو 16:3). انجيل الدينونة (متى 31:25 – 46) يدور على الرحمة والاحسان. عندما نحب الناس كما تحب الأم الحنون رضيعها نخطو خطوات نحو الله. ولكن أين هم المستعدون للموت من أجل الآخرين؟ أثِرون أنانيون بلا وفاء، ولا عهد ولا ذمة إلا إذا صرنا مسحاء كما هو المسيح.

[46] – ملأ (الناشر).

[47] – (كولوسي 2: 9) “فيه حلَّ ملء اللاهوت جسدياً”. كان النور ساكناً في جسد يسوع منذ التجسد ولكنه لم يشعشع خارجياً إلا يوم التجلي لأننا عاجزون عن رؤية يسوع مشعشعاً (القديس افرام وسواه، وتراتيل التجلي).

[48]  – استعمل الشيخ ناصيف اليازجي لفظة التقنُّم. ولكن الاستعمال غير ناجح. فليس الثالوث تحت تقنُّم. هم أقانيم. قال: “للآب لاهوت ابنه، وكذا ابنه وكذا هما والروح، تحت تقنُّم” (الروائع، ص31). في المعجم السرياني الأمر شبيه باستعمالي. القس يعقوب اوجين منَّا قال في معجمه السرياني العربي “قنَّم”. لا “أقنم” كما زعم بعض الذين لم يراجعوا المعجم السرياني.

[49]  – عندما نقول “نزل” لا نعني أن الله يتحرك من مكان إلى مكان. فيها معنى التنازل الحنون ليتخلَّى المتنازِل عن العلو ليدنو من أسفل.

[50]  – الجسد هو جسد الابن يسوع لا جسد الآبِ والروحِ القدس كما يتخيل بعض. كيف جمع يسوع الناسوت الى تمام طبيعته الالهية في شخصه وحده دون شخصَي الآب والروح القدس؟ هذا سرّ من أسرار الله العظمى. العقل عاجز عن فهم الإلهيات إلا بقدر ما يكشف له يسوع  (متى: 27:11). لا ندرك الله بالعقل وحده، بل بنور الروح القدس الحالّ في العقل. نحن دخان وعشب، فكيف ندرك الله بدون عون الله؟

[51]  – راجع كتابنا “سر التدبير الالهي” والحاشيتين 1 و2 .

[52]  – Hausherr, Etudes de spiritualité orientale, Rome 1969, p.15.

[53]  – لا تناقض تاماً بين الرأيين. انما في الرأي الاول، نفحة صوفية عالية جداً تجد في موت المسيح على الصليب حباً بنا، دعماً رائعاً.

[54]  – كيرللس، مين اليوناني 897:74 أو أيضاً غريغوريوس اللاهوتي الخطبة 29:40 و22:45 ؛ اثناسيوس، في التجسد 20-21؛ وابيفانيوس، مين اليوناني 708:41 أو…

[55]  – كرر يوحنا فم الذهب هذا الكلام في صلاة المطالبسي. وقال باسيليوس في دعاء الساعة الثالثة: “أرسلت ابنك الوحيد لخلاص جنسك البشري”. بعد كل هذه النصوص يصبح رأي مكسيموس رأياً خاصاً لا تقليداً آبائياً.

[56]  – كرَّر يوحنا فم الذهب كلامَ بولس في صلاة المطالبسي، وقال في خدمة القداس: “ولمّا أتمّ كل التدبير الذي لأجل خلاصنا…” وقال باسيليوس في دعاء الساعة السادسة: “أرسلتَ ابنك الوحيد لأجل خلاصنا…”. فهل بعد هذة الثقات من مجال لفكرٍ خاصّ لم تعتمده الكنيسة؟.

[57]  – الكنيسة تؤمن بنـزول روح جسد يسوع الى الجحيم ليبشّر فيها وتخرج منها أرواح المؤمنين به (نص الدمشقي هو النص النهائي القاطع: راجع النصوص في عظة القديس ابيفانيوس [ترجمة الاسقف يوحنا يازجي])، وفي كتاب التجسّد (المطران سلوان موسى)، ومقال الاسقف الروسي ايلاريون في مجلة Contacts.

[58]  – الدمشقي، المئة مقالة، ص208، وسرّ التدبير ص151-153.

[59]  – لما طهّر الروح القدس جسد مريم العذراء، صار ممكناً أن يأخذ يسوع منها جسداً ليس فيه ميل إلى الخطيئة. ليس في الكتاب أي دليل على أن ناسوت مريم عاد بعد ولادتها يسوع إلى حالته السابقة للتجسّد. فناسوت يسوع من ناسوتها. كلاهما بريء من الدّنس والميل الى الخطيئة. إنما شاء الله أن يكونا قابلَين للآلام والموت والدفن. عندما كان يسوع على الصليب جاز “سيف في نفسها” (لو 35:2). وبناء عليه ما كان من الممكن أن تتزوج وتلد بنين وهي بريئة بينما الزوج ملوّث. الروحانيين يثورون في أعماقهم ضد القول بزواج العذراء، زينةِ العذارى. 

[60]  – بعد القيامة، لا اكلٌ ولا شربٌ ولا زواجٌ ولا حاجاتٌ جسدية. ولكن التلاميذ ظنوا أنهم يرون روحاً، فأكل يسوع وشرب حقاً وأراهم جسده ليوقنوا أنهم يلمسون جسداً.

[61]  – لوسكي عن ثيوفيلكتوس البلغاري. لم أعد أذكر من قال بذلك قبلهما.

[62]  – ويسقط الجنس في الموت. فلا زواج ولا طعام ولا شراب بعد الموت. وحال المرأة كحال الرجل دون تمييز. هو شخص وهي شخص. السنكسار مترع بذكر القديسات (راجع: المرأة في نظر الكنيسة، حيث تقرأ أيضاً أن الذهبي يقول بمساواتهما قبل الخطيئة). في القيامة تزول الفوارق الجنسية، ويصير الرجال والنساء مثل الملائكة. فردوسنا روحي لا مادي.

[63]  – ذياخوس أسقف فوتيكي: المئوية في الكمال الروحي 90 و 94.

[64]  – المواعظ على تسالونيكي الثانية 4:3 – 5 ؛ مين اليوناني 411:62 -412.

[65]  – المواعظ على العبرانيين 15:5 ؛ مين اليوناني 52:63.

[66]  – مين اليوناني1048:8 -49 وطبعة الينابيع المسيحية Stromates 11,20.

[67]  – وقال : “إن آدم وحواء كانا يعيشان في الفردوس مئل الملائكة (الموعظة 5:15 على التكوين” مين 123:63 و…).

[68]  – قال الذهبي في شرح انجيل متّى: “يسوع يكمِّل في لحظة الموت مختاريه”. هذا يعني أننا باقون حتى تلك اللحظة في خطر. على ضميرنا أن يبقى يقظاً لا يثق بأننا سوى نفايات وتفاهات مرذولة حتى تقبض الملائكةُ الأبرار أرواحنا. ولا نستطيع ضمان ذلك ابداً لأن أعمالنا شريرة، والإيمان بدون الأعمال ميت (يعقوب 26:2). أما بالنسبة للرهبنة فبولس البسيط نسك في القرن الثالث قبل أنطونيوس الكبير بدهر.

[69]  – راجع ملحق قانون يسوع.

[70]  – نعيب على المرء إهماله العناية بطعام والديه وكسوتهم ومسكنهم. فكم جريمته أفظع إن اهمل إطعامهم – في لحظة الموت – القربان المقدس؟ الروح أهمّ من الجسد بلا قياس. وكذلك الحياة الأخيرة أهمّ من الأولى بما لا يُقاس. فليتناول المريض ويمتْ. هذا أفضل.

[71]  – في كتابنا “يهوه أَم يسوع” دلَّلنا على هذا: يعني أن ربوبية يسوع هي ألوهته.

[72]  – العبارة ليوحنا الدمشقي الذي قال: اللاهوت هو مسحة الناسوت. وقال كيرللس الإسكندري: الروح القدس سكن في ناسوت يسوع منذ لحظة البشارة.