عَ مدار الساعة


التجليات في دستور الايمان” – الجزء الأول

بقلم العلامة المعلم الأب الشماس اسبيرو جبور –

مقدمة الطبعة الثانيةفي الستينات من القرن العشرين هبّت رياح إلهية على الكنيسة الإنطاكية فتمخّضت عن نهضة أدبية لاهوتية مزدهرة. في غمرتها أنشأتُ هذا الكتاب في كنف المغبوط المطران ألكسي عبد الكريم الصديق الحميم. الا أن حالة نظري آنذاك لم تسمح بتصحيح البروڤات تصحيحاً دقيقاً، فوقعت أخطاء عديدة. ولكن منَّ الله عليَّ بأحبّة تلوا عليَّ الكتاب فأُعيد ضربه على الكومبيوتر، فصحَّحه أحبّة أعزّاء. أسأل الله أن يكون الكتاب خالياً من الأخطاء الطباعية وسواها. وقد زدته وضوحاً وفقاً لملاحظات الأحبَّة.

طابع الكتاب لاهوتي وأدبي، ولكنه ضروري لكل بيت أرثوذكسي، ليؤسِّس في مشرقنا عمقاً لاهوتياً آبائياً أرثوذكسياً يزيل السطحية الدينية. فالنهضة الأرثوذكسية لا تقوم إلا على العمق اللاهوتي. وميزة الأرثوذكسية العمق الروحي واللاهوتي. هي عدو السطحية. هي تبني الإنسان الباطني ليكون مقراً للثالوث القدوس. الآباء القديسون هم الفلاسفة الحقيقيون وما عداهم نظريات. مكسيموس المعترف أقوى رجل فِكر في العالم وذلك برؤيته للإنسان. الأنثروبولوجيا الأرثوذكسية المكسيموسية فريدة في العالم. فيها المعنى الإلهي العميق لحقوق الإنسان. كل ما كتبه العالم من حقوق الإنسان خيالٌ بالنسبة لما كتبه مكسيموس في تأليه الإنسان. أعزَّ الله صديقنا Jean-Claude Larchet على كتابه “La divinisation de l’homme selon saint Maxime le confesseur

اسأل الله أن يجد هذا الكتاب مدخلاً الى كل بيت ليتفقّه قارئوه في أمور دينهم ويلتزموا جيداً بقواعد إيمانهم العظيم.

في 2 كانون الثاني 2011، ذكرى القديس سيرافيم ساروفسكي الحامل الإله (اسبيرو)

الإقرار بالجميل
رُبَّ أخٍ لم تلده أمّك

في يوم اثنين الروح القدس اعتنى الدكتور البارع روجيه إميل صايغ بفحص باصرتيَّ فحصاً دقيقاً. وكان قد أجرى لهما في 25 و29/1/1973 عمليتين بضمير طاهر. فالفضل كل الفضل – بعد مراحم الله – في قدرتي على المطالعة والتصنيف يعود إلى براعته. هذا الدَين في الرقبة يجعله على الدوام ماثلاً في ابتهالاتي إلى الله، وبخاصة في هذا اليوم العظيم، يوم عيد الروح القدس الإله، أَشهرِ أيام السنة في الإبتهال. صلاة الغروب هي رائعةُ الابتهال المسيحي. ولذلك أحببت أن يقترن اسمه بهذا الكتاب ليذكره المطالعون في صلواتهم، ويبتهلوا إلى الثالوث القدوس من أجل بقاء نظري سليماً ومجنّداً لخدمة مجده.

  طرابلس 11/6/1984 
 أخوه الوفيّ

وفي 10/11/1989 أجرى لي عملية ثانية للعين اليمنى نجحت أيضاً 100٪ فأسأل سيدتنا والدة الإله في عيد رقادها المجيد أن تكون شفيعته الحارة وتحميه وذويه وصحبه.

تذكار رقاد العذراء 1990

وفي 15/2/1991 عملية الماء الأزرق في اليمنى وفي 3/4/1992 الليزر لليمنى وفي 8/5/1992 الماء الأزرق في اليسرى. وبعدها توسيع الماء الأسود في 31/3/1994 لليمنى وفي 7/4/1994 لليسرى. والليزر مراراً عديدة، آخرها 13و20/5/2009.

فما بقي لي من بصيصٍ هو دَينٌ لله وله. حمَاه الله وزوجته وأولاده ورحم والديه إميل وبهيجة. هذا هو السامري الشفيق. هذه هي المسيحية الحقة: عملٌ عظيمٌ بضمير حي، لا قرقعة ألفاظ فارغة.

تمهيد

تاه المخطوط طريقه، وغابت الفوتوكبي عن نظري حتى 9/3/1994. في 11/3/1994 أعدت النظر فيها تنقيحاً وحذفاً وإضافة. العمل مرهق. إن الكتاب أرهقني في حينه إلى درجة أن ترقيم الصفحات ما خلا من الأخطاء. فنظرة تُلقى على الخطوط تبرز إعيائي في تصنيفه.

قال دي رينيون العلاّمة الفرنسي: إن آباء الكنيسة القدامى كانوا حقوقيين. وأنا محامٍ عتيق. نحن زملاء إذاً. في قالبي الحقوقي العصري أعصر زبدة تعاليم آباء الكنيسة، لأنقل إلى المسيحيين العرب شرحاً لدستور الإيمان، هم في أمسّ الحاجة إليه. النفحات آبائية أشهى من العسل. الأسلوب والقالب خاصَّان بي إجمالاً. الكتاب ثورة في ميدان تصنيف كتب “التعليم الديني” المعاصرة الخالية من كل نكهة روحية – صوفية – نسكية.

الكتاب وحدوي إجمالاً. يستفيد منه جميع المسيحيين العرب إن شاؤوا بشرف التعرّف على دينهم.

يحتجّ البعض بالعسر في كتاباتي. ليست عسيرة. فإنشائي أدبي واضح يخلو من التكلّف والتصنّع. إنّما لا يستطيع محامٍ مثلي أن يكتب بلغة العجائز. من جهة ثانية، أنا أكتب لاهوتاً لا وصفات طعام. واللاهوت علم الإلهيات. وهو عِلم يرفع الإنسان فوق المحسوسات. من جهة ثالثة يقتضي الذوق، وحسن الإلتفاتة، والتهذيب الرفيع، القول: رحم الله والديه لأنه صرف طاقاته للإرهاق والخسارة في التصنيف الديني بدلاً من الربح واليسر[1] في التصنيف الحقوقي والعلمي. ولكن…

إني لواثق أن الأجيال المعاصرة لفليوني إليان حمصي ستكون أعمق وأكثر جدّية في القرن 21 لالتهام الكتب الدينية الثمينة. لا أنكر أننا حقّقنا منذ 1969 حتى اليوم تقدّماً واسعاً، وأن الأجيال الصاعدة المبارَكة تهتم بالدِين أكثر من الأجيال السابقة. فالمعرفة الدينية انطلقت، إنما روح الثورة والاستشهاد والبطولات يرقد. النعومة تطفو على السطح وتخنق البطولة. فالجهاد الروحي لدى بولس الرسول حربٌ شعواء ضد القوات الشريرة المضادة التي تحاربنا ليلاً نهاراً. باسيليوس الكبير وأنطونيوس الكبير مصارعان روحيّان كبيران. الذهبي الفم “فلتة” كل زمان ومكان. لما استعلم أستاذُه الوثني ليبانيوسُ الأنطاكي عن أمه وقضائها 20 سنة في الترمّل بشرف نادر، أبدى دهشته من نساء المسيحيين. ما تغيّر الزمانُ إنّما انهارت أخلاق النساء. كان أبوا ثيئوذوريتوس الإنطاكي يملكان ثروة طائلة وكانت أمّه تلبس الحرير المقصَّب بالذهب والفضة. فشفى الناسكُ بطرس الغلاطي عينيها، فكفرت بالزّمنيات وهامت بالنسّاك، فحبلت ونذرت ابنها الوحيد وهي حبلى، فوزّع الثروة الطائلة على الفقراء وترهّب.

القرن 21 كفيل بخلق جيل من الرجال والنساء الصناديد الاشاوس الأبطال الشرفاء الصادقين. ألفت الأنظار إلى أن استيعاب هذا الكتاب وكتاب “المزيّفون” خير تمهيد لكتابَيْنا “سر التدبير الإلهي” و”سر الثالوث القدوس” (المخطوط بعد)، فيربح المسيحيون العرب ما تفتقر لغتهم إليه افتقاراً فاحشاً. ورحم الله والديَّ وذويهم والصحب الراقدين وجعلهم مع الأبرار الصالحين.

أحد رفع الأيقونات، 20/3/1994

ا.ج.

اللاذقية: أحد المخلع 22/5/1994

مقدّمة

يطيب لي تدبيج هذه المقدمة في أحد حاملات الطيب ويوسف ونيقوديموس، هؤلاء الشهود الأبرار (على صلب يسوع وآلامه ودفنه وقيامته) مثل سيدتنا والدة الإله وابنها الحبيب الإنجيلي يوحنا الحبيب. والسبب هو أني لا أرجو في خاتمة عمري إلاّ ما اشتقت إليه منذ الصبا: أن يكون حظي معهم، أن يكون مصيري معهم، أن أشهد معهم للآلام والدفن والقيامة.

يوسف أنزل الجسد عن الصليب. وتعاون معه نيقوديموس على تضميخه بالطيوب، ولفِّه بالكتّان النقي، وتكفينه، وإيداعِه قبراً جديداً منحوتاً في الصخر. والنسوة أتين القبر باكراً عند الغلس (أي “شقة” الفجر) يحملن حنوطاً وأطياباً ليضمّخن بها جسد يسوع، الذي حالت عجلة مساء الجمعة دون استكمال كل مراسم الدفن له، التي تتطلّبها العوائد ووفاء النسوة الشريفات البارّات. فحظيت اثنتان منهما (هما مريم المجدلية ومريم أم إخوة يسوع: يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا) بلمس قدميه الطاهرتين، وهما عائدتان من القبر. لقد لمستا أثر المسامير في رجليه قبل أن يعاينه الرسل أولاً وتوما ثانياً.

وأيّ شيء أشهى إلى قلب المسيحي الصادق من أن يلفّ جسد يسوع بكتّان قلبه النقيّ، مضِّمخاً إياه بطيوب حياته الطاهرة، ومودعاً إياه في صلابة كيانه الشجاع المقدود من الرجولة كقبر من صخر، كقبر جديد لم يقطن فيه أحد سوى يسوع؟ أي شيء أحلى على قلبه من أن تضمّ روحُه قدمي يسوع المثقوبتَين لينهل منهما دمَ المسيح المسفوك من أجل حياة العالم؟ أي شيء أحب إلى قلبه من أن يتّكئ على صدر يسوع مثل يوحنا الحبيب، فيكون وفيّاً حتى النهاية، ليسمع يسوعَ يقيمه مع يوحنا ابناً للعذراء مريم؟ وأخيراً أي شيء أعظم من أن نحضن يسوع في أحشائنا وبين أيدينا، لنضمّه إلى صدورنا، بل لنودعه صدورنا مثل مريم العذراء أمه الطاهرة؟

فيا يسوع: أعرفُ نفسي أني جحيمُ خطايا متأجّجة. ولكني أثق بعفْوك ولطفك. أتقدّمُ بغير استحقاق – كلص مختلِس يندسّ في الظلام – فأندسُّ بين أبرارك هؤلاء العظام، حاملاً إليك كتابي هذا، مثل حنوطهم وأطيابهم، لكي أعاينك ناهضاً من الأموات في قلب كل مؤمن. فإني واثق بأن ما أعطيه للمؤمنين هو من فضلك، وأني أعيده إليك بواسطتهم. المؤمنون هم جسدك، هم أنتَ. إن وضعتُ أصابعي في أثر جراحاتهم أعرف أني أضعها في ثقوب جنبك ويديك ورجليك. وإن تهلّلتُ لنجاحهم في العيش معك وبك وفيك أعرف أني شريكك في قيامتك، وصعودِك إلى السماء، وجلوسِك عن يمين الآب، لأن ما أصنعُه إليهم أصنعه إليكَ فيهم.

فيا يسوع: احفظهم (واخطفني) مع العذراء ويوحنا ويوسف ونيقوديموس وحاملات الطيب إلى العيش معك في السماء، دائسين الأرض ومقتنياتها وأمجادها الباطلة، والوجود البغيض في قمصان الخطايا البالية. أعطِنا أجنحة الملائكة لنطير إليك، ونستريح من أباطيل الدنيا الفانية الزائفة. عبثاً حاولتُ أن أجد في الدنيا ما يستحق أن ألفّه باهتمامي، لأنها زوال في زوال. لذلك التجأتُ إليك ضارعاً أن تقطع بسيف صليبك عقدةَ الخطايا، وتُزعزعَ بمنجل صليبك أقفالَ الجحيم، ليخرج الناسُ، وأنا مجرورٌ بأذيالهم، إلى احتضان آلامِك وقبرِك وقيامتِك، فنصعد معك في مجدك، لتقيمنا في حضرة الآب السماوي آلهةً صغار، بقدرة روحك القدوس الذي عمَّدَنا فلبسناك، ومُسِحنا بالميرون فاقتنيناه، وناولَنا جسدك الطاهر ودمك الكريم فحويناك جالساً مع الآب السماوي. فنحن مسكن الآب والابن والروح القدس. فاجعلْ أيها الثالوث القدوس كتابي هذا معطَّراً بروائح التبشير لمجد هذه السكنى الإلهية[2].

تعال أيها الرب يسوع، تعال: فبُعدُنا عنك قد جعل حياتنا فراغاً في فراغ، جعَلَنا أبناء القبور. فاجعلْنا أنت أبناء القيامة، إجعلنا إخوتك الأبرار كما كان يوحنا أخاك البار، وارحم الراقدين من أهلي.

 6 و8 أيار 1984

عيد حاملات الطيب ويوحنا الإنجيلي

الفصل الأول: بأي سلطان تفعل هذا…؟ (متى 23:21)

أتساءل أنا نفسي عن الأسباب الموجبة لكتابة هذا الكتاب وسواه، ما دمت أشعر بقلق كبير عندما أتجاسر بوقاحة على النطق بالإلهيات بينما أنا غريق بالآثام.

الآباء القديسون أوصوا بمطالعة الكتاب المقدس والكتابات الدينية الأرثوذكسية، أي التي تعلِّم تعليماً قويماً، وأثنوا جداً على الفائدة الجليلة من ذلك. إنما يحتاج الأمر إلى صلاة تواكب المطالعة، ليكون الروح القدس مرشدَنا إلى معانيها العميقة، وحافِظَنا من الزلل وسوءِ الفهم. كما يحتاج المرء إلى شوق ناري وإيمان ليتلقّن كلام الله في حمى قلبه كنزاً ثميناً. وهذا يحتاج إلى محبة ملتهبة. وكيف يُثمر كلامُ الله في قلب تمزّقه الأهواء، وتنخره الكبرياء وقساوة القلب؟ فالبذار الجيد يعطي أينع الثمار في الأرض الجيدة. وما النفس الجيدة إلا التي صارت وديعة ومتواضعة، فلا يصطدم فيها كلام الروح القدس بالقساوة والكبرياء. ماء الله لا يتغلغل في نفسٍ صلدةٍ كالصخر، بل في نفس ليّنة غضيضة. ونفسٌ منفوخة بالكبرياء لا تكون طيِّعة ذلولاً في طاعة الروح القدس. فالتواضع ضروري جداً لكي يجد كلامُ الله فينا “طيبة خاطر” لتنفيذ إرادات الله، ليجد مطواعية تجعلنا أداة طيبة بين يدي الله.

وفي النتيجة الانتصار على الأهواء، الطهارة المشعشعة في نور الصلاة، ولهيب الإيمان والمحبة والرجاء هي طرق مُثلى لتجسيد كلام الله في حياة الإنسان وإلا كان احتكاكنا بالله سطحيّاً، وكانت معرفتنا به نظرية. ليس الله موضوعاً للدراسة والتحليل، بل للمحبة القصوى. العقل يطير بجناحَي القلب.

والتكلم باللاهوت لا يحتاج إلى فلسفة وثقافة وعلوم دنيوية، بل إلى استنارة داخلية: هذا بالدرجة الأولى. فكلمات الله سهام من نار مشعشعة. ولا يستطيع أن يجيد الكلامَ عن الله إلا الذي اتَّحد بالله. هذا الإله الساكن فيه يُملي عليه إرادته مباشرة، ويحرّك أفكاره وأقواله وأفعاله. وهذا الإنسان من قِبَل الله[3] يُضحي – بنوع ما – شبيهاً بربنا يسوع.

كيف؟ ربنا يسوع شخص واحد في طبيعتَين إلهية وإنسانية، وفي إرادتين إلهية وإنسانية، وفعلَين إلهي وإنساني.

اللاهوتي – مثل آباء الكنيسة العظام – هو إله وإنسان: كيف لا والنعمة الإلهية الساكنة فيه تتّحد بأفكاره وأقواله وأفعاله، تتّحد بحياته، تتّحد بكيانه، تتّحد بشخصه. النور الإلهي شعشع في جسد يسوع على جبل تابور[4]. هذا النور نفسه يلمع في شخص اللاهوتي الحقيقي. إنما الفارق أن يسوع هو، في الوقت نفسه، إله بالجوهر وإنسان بلا خطيئة. النور الإلهي في اللاهوتي يصارع ظلمة الخطيئة الساكنة فيه حتى لحظة الوفاة. اللاهوتي هو من أنداد يوحنا الإنجيلي. لقد وضع رأسه على صدر يسوع مثل يوحنا وصار ابن العذراء مريم مثله، فتعلّم على يد يسوع ويد مريم العذراء مثله. سمع من يسوع مثله، أي يوحنا.

فالكلام عن الله بدون الله تعسُّف ومجازفة ومخاطرة.

وليست المسألة مسألة حفظ كتب وتمرين عقل. إنها تطبيق عملي حياتي يومي، إنها تمرّسٌ بالصلاة والفضائل لاقتناء الروح القدس. فالكتاب المقدس غذاء عظيم للنفس. نتناوله كما نتناول القربان لأنه روح وحياة (يوحنا 63:6). وأوغسطينوس قابَلَ بين القربان على المائدة والوعظ مِن على منبر الوعظ.

هذا هو رأي الآباء[5]. إنما أكتفي هنا بإيراد فقرات من كتاب “السلم إلى الله” تنير الذهن:

– “كمال الطهارة أساس معرفة الله” (20:30).

– “من اتحد بالله يلقّنه اللهُ أسرار أقواله. وبدون هذا الاتحاد يعسر الكلامُ عنه” (21:30)[6].

– “الكلمة (أي يسوع) يأتي بنا إلى كمال الطهارة…” (22:30).

– “… أما من لم يعرف الله فيكون كلامه عنه من قبيل التخمين” (أنظر 23:30، 4:30).

– “الطهارة تفقّه الإنسان في اللاهوت، فيتيقّن بنفسه عقيدة الثالوث” (24:30).

– “نفس متحدة مع الله بطهارتها لا تحتاج إلى كلام آخر لكي تتعلّم هذه النفس الطوباوية. تحمل في ذاتها الكلمة الأزلي، الذي هو ملقّنها ودليلها ونورها” (الرسالة إلى الراعي، 100).

– “بهاتين (أي الطهارة والاعتدال) أكثر من أي واحدة أخرى (من الفضائل) نستطيع أن نقترب من الله بكل طهارة، (الله) الذي وحده يساعدنا على اقتناء عدم هوى كامل، ويمنحنا إياه، والذي وحده يجيزنا، بفضله، من الأرض إلى السماء” (الرسالة إلى الراعي، 101)[7].

كان ايڤاغريوس قد سبق بعضهم، فقال: “.. كما أنه ليس سواءً – بالنسبة إلينا – أن نرى النور وأن نتكلّم عن النور، كذلك ليس الأمر سواءً أن نرى الله وأن نفهم شيئاً ما عنه”. أو في صيغة أخرى أقصر: “من لم يرَ الله لا يستطيع أن يكون لاهوتيّاً. واللاهوتي هنا هو الذي يتكلم عن الله”. إلاّ أن للَّفظة لدى ايڤاغريوس معنى آخر: “إن كنت لاهوتيّاً، فستصلي حقّاً، وإن كنت تصلي حقّاً، فأنت لاهوتي”[8]. واللاهوتي هنا هو المتصوّف الذي وصل بالنسك وتأملِ المخلوقات إلى رؤية الله. لدى ايڤاغريوس الصلاة مرادفة للمعاينة: “الصلاة هي حالة (من حالات) الذهن، تتحقق فقط تحت نور الثالوث القدوس”[9].

بناءً على هذه الأفكار، يعود التكلم في اللاهوت عسيراً على الذين لم يبلغوا كمال الطهارة والاتحاد بالله في محبة لا توصف وتواضعٍ لا يتزعزع.

فكيف تجاسرتُ وأتجاسر على طرق أخطر المواضيع اللاهوتية التي لم يفصلها إلاّ معاينو الله؟ أما أنا فلست مستحقّاً أن أحل سيور أحذيتهم. وقد تصدّيْت لما لا يجوز لي التصدّي له قبل أن يشفيني الله من سموم الخطايا التي فتكت وتفتك بي[10]. لكن قال يوحنا السلمي في الصلاة[11] ما يذكِّر بقول الذهبي الفم: “من المستحيل أن لا يجني فائدة ما، ذاك الذي يفاوض الله ويستمع إليه” (مين اليوناني 259:59). ونصح أثناسيوس وسواه بجعل تلاوة الكتاب المقدّس وتأمّلِه حرفةً يحترفها الإنسان (مين اليوناني 264:28). اسحق السرياني أسقف نينوى احترف ذلك حتى عمي[12]. وأنا احترفت ذلك بانتمائي إلى مدرسة الأب الياس مرقص اللاهوتية – الرهبانية قبل 52 سنة (11/5/42 – 11/5/94). فهل من الممكن أن أصبر كل هذا الزمن في عِشرة الكتاب المقدس وآباء الكنيسة وأنا جماد؟ وهل من المعقول أن أطمر الوزنة مهما كانت صغيرة بعد عمرٍ مديد دون أن أخشى الحساب العسير والعقاب الرهيب؟ ومهما كنت نجساً، فهل يرفض يسوع قرباني وهو الذي اشتراني بدمه الطاهر؟ أما يغسل دمُه بؤسي وشقائي وإجراميَّتي؟

وكيف أستطيع أن أقول إني خلقيدوني[13] صادق أصيل يؤمن بعمل الإرادة الإلهية والإرادة البشرية معاً (synergia) وأبقى خاملاً، خامداً نائماً، هاملاً، مثل الجمادات؟ كيف تستطيع النعمة الإلهية أن تفعل في الخامل، الكسلان، النائم، الرافض للنشاط الروحي، القابع في أوكار التلذّذ، المغلَق العقل والقلب على فِعل نعمة الروح القدس؟ نعمةُ الله تعضد المناضلين الشجعان لا القاعدين المخلَّعي الركب المسترخين الرخوين[14]. والمكافأة لدى الله.

إنما أعرف حدود رجاستي ووقاحة ادّعائي وجسارتي، وأنّ ما أكتبه يدينني، لأني أقول ما لا أفعله، وأنصح بما أخالفه[15].

ولكن لي أسوة أخرى في أستاذي القديم (منذ 1947) في النسكيات، القديس يوحنا السلمي. قال في تحديد التواضع (بعد آباء كثيرين حدّدوا معانيه): “أنا آخر الجميع، ككلب يجمع الفتات المتساقط عن مائدة أولئك الآباء المغبوطين، قلت: التواضع نعمة للنفس…” (3:25).

فما دام يوحنا السلّمي قد اعتبر نفسه كلباً فلأكن أنا جرواً جَرِباً في مدرسته. وما دمتُ أنقل فكر الآباء فأنا ناقلٌ لا مبتكِر. وإن كانت الكتابة صارت هوايتي ومهنتي – لا الطهارة ومعاينة الله – فليقدِّس الله هذه الهواية بنار لاهوته، ليكون عملي ثمرة من ثمار الروح القدس (غلاطية 22:5)، لا متعة شخصية، حتى يكون مردوده عليّ فيضاً من نورانية النعمة المؤلّهة، لا غروراً وصَلَفاً.

فيا أيها الآب السماوي الذي سكبت دم ابنك الحبيب يسوع، بروحك القدوس، على جراحنا الدامية، بلسماً شافياً، ضمّخْ به كياني المنخور بوباء الخطايا وجحيمِ الآثام، واقبلْ مني هذا الكتاب قرباناً أقدّمه لك على مذابحك الحية التي هي نفوس المؤمنين الجائعة إليك. إجعلْه لهيباً يحمِّي جوعها وعطشها إليك، حتى تصبح أتّوناً متّقداً بالأشواق إلى مجدك الآتي. فويل للنفس الباردة التي لا تتأجج بنار الحنين والشوق إليك. فلا تحرمْنا حرارة هذه النار، واجعلْ كلامي عنك دوماً ممزوجاً بالصلوات على غرار أفرام، واسحق وسواهم من آباء كنيستنا الانطاكية التي تتجدّد بلطفك وطول أناتك منذ 1942.

ولكن من أين لي هذا وأنا لم أَخطُ بعد الخطوة الأولى؟ فلم أدخل بعد إلى داخلي. “طالعنا بما فيه الكفاية، فيلزمنا الآن أن نعمل. عاينَّا بما فيه الكفاية كيف يتقدّم الآخرون، فيلزمنا الآن أن نمشي”[16] فليست المسألة مسألة معارف، بل اقتناء لله لنقول ما نقول تحت تأثير النعمة الإلهية.

الكتابة اللاهوتية الخالية من كل ضلال قد عصمها الروح القدس. من هنا كان خطر تناول القلم إلا في حراسة الله وملائكته وقديسيه لئلا يخدعنا الشيطان ويدسّ علينا كفره وسمومه.

فيا ابن الله، اعصمني بروحك القدوس من كل خطأ لاهوتي.

الفصل الثاني: دستور الإيمان

كان قد وقع بين يديّ في 18/1/1988 نص ترجمةٍ لدستور الإيمان، قيل إنها ترجمة موحّدة لاستعمال المسيحيين العرب. نقدتها فوراً مع تعليقات مراعياً النص قدر المستطاع. ثم علمتُ في حمص (كانون الثاني 1994) أن بعضهم وزّع في أسبوع الصلاة من أجل الوحدة نصّاً زعم أنه نصّ موحّد. استفاد من انتقاداتي ولكنه لم يستوعبها تماماً. الذين أخرجوا الترجمتين يجهلون اليونانية. في 21/11/1993 قمتُ بالترجمة المدرجة أدناه ووزّعت فوتوكبيات عنها.

في الترجمة السابقة يجري عطف النكرة على المعرفة والمعرفة على النكرة. أصلحت هذا الخلل. اللغة اليونانية لا تستعمل دائماً “ال” التعريف. المترجم يستنتج الأمر في الترجمة إلى لغته. اسم الوالي الروماني لاتيني Pontios Pilatos پونتيوس پيلاطس. “بيلاطس” اسم العائلة وبنتيوس اسمه الشخصي.

الجدير بالذكر أن الترجمة الموحّدة المزعومة قالت، مثل الأرثوذكس، إن الروح القدس ينبثق من الآب. هذا تقارب كبير، وزوال لنقطة خلاف كبير بين الأرثوذكس والغرب.

ونلفت الأنظار إلى أن تلاوة الدستور بدأت في انطاكية في القرن الخامس. في المجامع ورد ذكره على لسان آباء المجمع بصيغة الجمع أي “نؤمن”. إلا أن اليوناني يتلوه بلغة المفرد “أؤمن”. في 1981 احتفلت روما بمرور 1600 سنة على انعقاد المجمع المسكوني الثاني. وتلاه قداسة البابا في القداس باليونانية كما يتلوه الأرثوذكس. بالفرنسية يتلوه الفرنسيون بالمفرد. وكذلك الإنكليز.

وبالمناسبة ننوّه أن العهد الجديد مكتوب باليونانية. والأرثوذكسية تستعمل الترجمة اليونانية للعهد القديم التي أجراها علماء يهود قبل الميلاد، لا الأصل أيضاً لغة المجامع المسكونية. والألفاظ اللاهوتية في الغرب مستعارة غالباً من اليونانية. اليوناني هو اللغة العامة للاهوت المسيحي. هو لغة دستور الإيمان.

اليونانيون يتلون دستور الإيمان بنبرة خاصة كأنهم أمام منبر الاعتراف ليسقطوا شهداء[17].

دستور الإيمان: ترجمة دقيقة

جرت محاولة في 1988 لطرح ترجمة جديدة للدستور فلم تفلح، فقمتُ بالنقد. وهذا بديل دقيق جدّاً، عن السواعي اليوناني المدقَّق لاهوتيّاً (1961، أثينا).

1- أومن بالإله الواحد[18]، الآبِ الضابط الكل، خالقِ السماء والأرض، كلِّ المرئيات وغير المرئيات[19].

2- وبالربِ الواحد يسوع المسيح، ابنِ الله الوحيد، المولود من قِبَل[20] الآب قَبْل كل الدهور؛ النورِ من النورِ، الإله الحقِّ من الإله الحقِّ، المولود غير المخلوق، الذي له وللآب الجوهرُ الواحد بعينه[21]، الذي به كان كل شيء.

3- الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السمواتِ[22] وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنّس.

4- وصُلِبَ عنّا على عهد پونتيوس پيلاطس[23]، وتألّم وقُبِر، وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب.

5- وصعِد إلى السموات[24]، وجلس عن ميامن الآب.

6- ويأتي ثانية بمجد ليدين الأحياء والأموات، الذين لا نهاية لملكه[25].

7- وبالروح القدس، الربِّ المحيي الذي من الآب ينبثق[26]، الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ له وممجّد، الناطق بالأنبياء.

8- وبالكنيسة[27] الواحدة، القدوسة[28]، الجامعة[29]، الرسولية.

9- وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا.

10- وأنتظر قيامةَ الموتى.

11- وحياةَ الدهر الآتي. آمين.

يقول “أومن” فيعترف، يعلن اعترافه – مثل الشهداء – أمام الله والناس بإيمانه. ويسوع حرَّم علينا أن ننكره أمام الناس، وأمرنا بأن نعترف به أمام الناس. والإعتراف شهادةٌ واستشهادٌ يَنطق بهما فينا الروحُ القدس نفسه.

كما تَشرق السيلوات الحبوب[30]، تُشرَقُ النفس إلهيّاً حين الهتاف: “أومن”. يخرج المرء من نفسه ليرتبط بعجلة الله.

أومن” – كم من الجهد بذلتُ لكي أخرج من ذاتي، لأقول: “أومن”! إني قد انسلخت من حواسي وعقلي وفهمي لأصعد فوق المعقول والمنظور والملموس والمسموع والمحدود، وأعلنتُ يقيني بعالم آخر فوقاني يتجاوز كل التعريفات والحدود العقلية والحسية والمادية.

آمن، إيماناً – ولفظة “أومن” العربية هي فعل مضارع من فعل “آمن”، المشابه لمثيله في العبرانية والآرامية. والترجمة السبعينية اليونانية للعهد القديم نقلت إلى اللغة اليونانية معاني اللفظة العبرية في العهد القديم. في العربية نقول: آمين، أمْنٌ، إيمان، أمانة، أمين، مأمون، مؤمِن، ائتمن، ائتمان، مؤتمِن، استأمن، استئمان، مستأمن…

الثقة – في كل هذه الألفاظ، الفكرة الأساسية هي الاطمئنان، والطمأنينة، والنوم على الثقة التامة كمن حفر بيته في الصخر الصلد حفراً شاقّاً.

أليس يسوع هو صخرتنا؟ فنحن قاعدون على صخرة مطمئنين، لأننا نثق بالله. إيماننا هو اطمئنان إلى الله اطمئنان القابع في نقرة الصخرة.

ولماذا كل هذا الجهد الفوق الطبيعي؟ لكي أتعزَّى، بثقة، بشخص ما، هو الله…

الكل باطل – لم أستطع أن اجد في هذا الكون أي شيء أركن إليه. وجدتُ الموتَ منجلاً يحصد حياة البشر قاطبة. رأيت الأمراض تفتك بهم قبل الموت. رأيتُ غدر الزمان وظروفه تمحقهم قبل الموت. رأيت الناس يخدعون أنفسهم بملايين الخدع، ليجدوا اطمئناناً كاذباً خارج الله. فهؤلاء الذين يعتمدون على أموالهم وعِلمهم ومكرهم ومجدهم الموروث الكاذب متى هجم عليهم الموت كانوا أجبن من الفئران. أفنَوا ذواتهم وأموالهم في الموبقات، والقمار، والسكر وسائر المخدّرات، ومطالعة مجلات الخلاعة، وينتهون نهاية أشنع من نهاية الجرذان.

لو وضعتُ يدي على كل النجوم والكواكب وتملّكتُها، وانتهيتُ في قبر ترعاني فيه الجراثيم وتكوي نار جهنّم نفسي الشريرة الجانية الفاسقة الزنديقة، فماذا أكون قد جنيت من أموالي؟ ولو شربتُ البحر خموراً، فما الفائدة؟ ولو وسع بطني ملايين الأطنان من أفخر الأطعمة، فما الفائدة؟ ولو كانت خلقتي مثل خلقة الملائكة جمالاً، فما الفائدة؟ هل أستطيع الهرب من الشيخوخة والمرض والموت…؟ لا.

لستُ حيواناً – هل خلقني الله ذا عقلٍ جبَّار، وفهم وقَّاد ليُبيدني كما تبيد الجرذان؟ لماذا أشقاني بمنحي العقل ولم يتركني كالحيوانات بلا عقل ولا ضمير؟ لماذا غرس فيَّ الضمير سيفاً يقطّعني إرباً إرباً في توبيخات، لا نهاية لها ما دمتُ حيّاً؟

معنى الوجود – كل وجودي كإنسان هو لغز الألغاز لا أجد له معنى إلا إذا آمنتُ بأن وجودي صدر عن كائن أعلى لهدف بعيد أسمى.

أعرف أني أهوى الأرض وما في الأرض. ولكن الأرض ومَن فيها لا يعطون حلاً لمشكلتي الفلسفية:

1-            أنتَ لم تصنع نفسك.

2-            هذا الكون عاجز عن صنعك.

3-            وجودك يفقد كل معناه إن لم يكن الله قد خلقك، وقد خلقك لمجدٍ أنت الآن تجهله، لأن عُشقَ الأرض أعماك. من إفراط تعلّقك بالأرض، صرت دُوَيبة تدبّ على وجه الأرض وتلحس التراب… مرَّغتَ وجهَك الحلو في التراب. استبدلت بحسن خلقة وجهك الجميل، تجعداتِ الدويبات الكالحة. أنتَ تشوِّه صورة الله فيك بارتدائك قناع الشيطان.

لهذا رفعتُ وجهي إلى فوق، فإذا به أجملُ من الشمس والنجوم والكواكب. وتطلّعتُ إلى ما فوق الحدود وأبعد منها، فاطمأنّ قلبي إلى المرتدي النور مثل السربال، إلى الساكن في النور الأزلي الذي لا يُدنى منه.

عقيدة الإنسان – فعقيدة الإنسان هي أعمق ما في كيانه إن كان صادقاً مع نفسه. من أجل عقيدتي أتبرَّأ من أغلى الأحبة، وأصرم علاقتي بهم. الصادق الشريف يقاطع زوجته وابنه وابنته من أجل عقيدته. وكذلك المرأة الصادقة الشريفة. المؤمن الصادق يضع إيمانه فوق كل العواطف البشرية. يقول: زوجتي ليست “أنا”، ابني ليس “أنا”، ابنتي ليست “أنا”، أبي وأمي ليسا “أنا” إنما كل “أنا” كياني هو في إيماني. لا يمكن انتزاع إيماني من صدري دون القضاء على مقوِّمات وجودي الأصيل كإنسان ذي شأن. إيماني هو نور يتجلّى به كل كياني ووجودي بلمعان بهيّ.

قد أصدِّق ما تراه عيني وتسمع به أذني مباشرة أو نقلاً عن لسان الآخرين. قد تخدعني عيني وأُذُني وقد يخدعني الناس عمداً أو لأنهم مخدوعون، أو لأنهم غافلون ومتغافلون. وقد أُبدي حماساً منقطع النظير لهذه المسألة أو تلك مدفوعاً إلى ذلك بسبب من جملة آلاف الأسباب، وقد لا أكترث بها.

أما العقيدة الدينية فهي مسألة من نوع خاصّ جدّاً.

إنها تتعلّق بيقيني الشخصي الخاص بوجودي، وبوجود الباري الذي براني. فإيماني بالله ليس يقيناً شبيهاً بما تراه العين وتسمع به الأذن من حجر وشجر. إنه عملية تجلٍّ نوراني يشعّ به كل كياني فيتبدّل لون خلقتي. فأنا لا أرى الله. ولم أكن موجودًا حين خلق اللهُ العالم. فالكون موجود قبلي، والبشر سبقوني إلى الوجود بألوف السنين. وسيستمرّون يتوالدون من بعدي. ما أنا إلا حلقة في جملة مليارات حلقات الناس من قبلي ومن بعدي.

ومع هذا حمَلَتْني الضرورة الشخصية على التفتيش عن الله. لم أره ولا أستطيع أن أراه. إلا أني وصلتُ إلى القناعة بأن وجودي مستحيل بدون وجوده، إلى أن وجودي كان ممكناً أن يكون، وكان ممكناً ألا يكون. فقد أوجد اللهُ الناسَ من قبلي. وهو في غنًى عنّي. فليس وجوده مسبِّباً لوجودي فقط، بل سبباً لوجود السابقين واللاحقين. وأنا أصغر من جزءٍ من نقطة في بحر عظمته. كم أنا إذاً صغير وتافه…!

قلق وجوديّ – لذلك لم أجد في هذا العالم أي شيء صالحٍ لاعتصار كياني – مثلما تعصر العصّارات الفواكه والخضار – سوى الإيمان بخالقي. هو سبب قلقي الأكبر واطمئناني الأكبر. إن شككتُ في وجوده تقلّبت على جمر القلق على مصيري المعلّق بأذيال الرياح العاصفة. وإن أيقنت بوجوده أيقنت بأن مصيري هو بين يديه الأمينتين.

الإيمان أقوى – أومن بالله غير المنظور، غير الملموس. فكيف هذا إلا إذا كنت فاقد الرشد؟ الحقيقة هي أن نظري وسمعي ليسا إلا أضعف حواسي القادرة على إدراك الحقيقة. إيماني أقوى من حواسي. هو يدعمها. فجهدي الروحي أقدر – بما لا يُقاس – من جهدي الجسماني. يشترك جسدي، بأعصابه وحواسّه وكلّيته، في هذا الجهد، إلا أن جسدي نفسه يضحي مذهولاً بل مجروراً. روحي هي العنصر الأوّل الفعّال الذي يحرّك جسدي وراءه.

الروح نشيط – هذه الروح لم تجد في العالم المادي ما يسعها، فانطلقت إلى الله، واسِعِ الجميع. “الروح نشيط وأمّا الجسد فضعيف” (متى 41:27). الروح تجتاز السموات وتتكلّم. هذه الروح لا تجد لها مستقراً على الأرض، فترنو إلى الله ليكون مقرَّها الأسمى.

دور الجسد – ولكن أعصابي وحواسّي تشترك في الجهد وتتحمّل ضغط الفكر. إنّما يبقى فكري روحانيّاً ذا مظاهر جسمانية، لأني شخص واحد في روح وجسد. إنّما أصعد بإيماني إلى فوق الشيء المادي والجسماني والعصبي. ليس جسمي سجناً لنفسي كما زعم أفلاطون. هو مسكن لها.

بإيماني أطير، إذن، بجناحَين غير عالميَّتين. الإيمان أرفع رتبة من يقين النظر. بإيماني يرتقي شخصي إلى الاحتكاك بعالم آخر غير منظور، إلى الاحتكاك بالله. بولس صعد إلى السماء الثالثة وهو لا يدري أكان ذلك في الجسد أم خارجه.

الإنسان فتّاك – جسمانيّاً، هل أختلفُ كثيراً عن الحيوانات؟ نعم هناك اختلاف كبير ألا وهو أني أقدر من الحيوانات على الفتك والدمار بما يبتكره عقلي من أسلحة جهنّمية كالقنابل الذرية والهيدروجينية والجرثومية والكوبالتية، فضلاً عن الصواريخ والمدافع والمتفجرات. الذئب يفترس خروفاً ليسدّ به رمق جوعه. أنا أقضي على الكرة الأرضية لأتفرَّج على دمارها كما تفرَّج نيرون على حريق روما، وكما أحرق هتلر أوروبا وأحرقت القنبلة الذريّة هيروشيما. فأنا الوحش الضاري بما يفوق الذئب والنمر بملايين الملايين من الأضعاف. ومع هذا فهناك فارق آخر: إلى جانب شراستي الجهنّمية: أنا إنسان مخلوق – في الأساس – على صورة الله ومثاله. فقد زوّدني الله بدرجة خاصّة من الذكاء والمعرفة ليس للحيوانات منها سوى شبه ظلّ. أنا صورة الله الخلاّقة التي شوَّهَتْها الخطيئة، فأظلمت.

بالإيمان أرتفع – بإيماني أتجاوز هذا الحيوان المتخطِّر على الأرض، إلى الله غير المحدود. فهو غير محدود في الزمان، وفي المكان، وفي القدرة، في الحضرة الإلهية السَّنِيّة البهيّة التي تحتضن الكون بمحبة فائقة وصلاح غير متناهٍ. فهو أبونا الحنون أكثر من كل أمّهات العالم.

بإيماني أقف، أنا الحشرة، أنا الدويبة، في حضرة الله وجهاً لوجه. فهو شخص وأنا شخص. إنما أنا على صورته. شخصي على صورته. في اليونانية واللاتينية نقول: إن الله 3 أقانيم (أو 3 أشخاص) وإن الإنسان شخص. شخصي على صورة الثالوث القدوس. وفي اليونانية لفظة شخص تعني أيضاً “وجه”. فوجهي الذي يحمل ملامح شخصي[31]، ويعبّر عنه – جسمانيّاً – خير تعبير، يتوجّه شاخصاً إلى الله الذي أرنو إليه بروحي أولاً، وبعينيَّ ثانياً، لأقابله. هو موجود وحاضر في كل مكان، وشخصي ماثل بين يديه، واقف في حضرته.

الجوع الوجودي – يا لعظمة اللقاء! يا لهول اللحظة ولرهبتها! دويبة تقف في حضرة الخالق لتناجيه. أنا دويبة، إنما أنا صورته التي تحمل بصماته، وتشتاق إليه، وتشكو جوعاً وجوديّاً فتّاكاً، وفراغاً قاتلاً كلما شغرت من غبطة الإمتلاء من حضرته. ولست وحدي جائعاً. كل البشر جياع. الخطيئة تُوهِم كثيرين أن أباطيل الدنيا تسدّ الرمق. ولكن يحشو المرء بطنه ظهراً، ليجوع ليلاً. وهكذا دواليك، دون شبع حقيقي. وإن حشا بطنه بإفراطٍ تثاقلَ جسمُه، وأصابه القيء والمرض. أما المؤمن فلا يتقيّأ ولا يضربه الملاك القتال، لأن الله يوسّع طاقاته على الاستيعاب إلى أقصى مما هو ممكن. من يستطيع أن يشبع من الله؟ ومن يملّ من انعطافات حنان الله؟

يسوع فينا بالإيمان – بإيماني، أنا الهزيل، أنا الظل، أنا العدم، أنا الموبوء بجراثيم الخطايا الفتَّاكة، المنتن بروائح الآثام السامّة، أحتوي الذي لا تسعه السموات والأرض، مَن لا يسعه الكونُ المخلوق كله. ألم يقل بولس الرسول إن يسوع يسكن في قلوبنا بالإيمان (أفسس17:3)؟ ألم يقل يسوع نفسه إنه والآب السماوي يقيمان في الذي يحبّه ويحفظ كلامه (يوحنا 23:14)؟

الإيمان والمحبة – ولذلك فإيماني ومحبّتي هما أثمن شيء في حياتي، هما أثمن من حالي ومالي وحياتي. فمن أجلهما أتقدّم إلى محرقات الاستشهاد بخطوات ثابتة وقلبٍ يطفح سروراً. ولا شيء في الدنيا أغلى على قلبي من أن أبذل دمي شهيداً من أجل إيماني ومحبّتي ليسوع. ولكن هل استحق هذه النعمة؟ لا.

محبّتي وإيماني هما اللذان يعطيان وجودي معنًى. بدونهما أنا بهيمة بل أدنى من بهيمة، بل لست إنساناً. بدونهما أخسر الروادع الكاملة.

محبّتي وإيماني هما شركة. أنا شريك الله. ليس بينه وبيني حواجز سوى خطاياي. كلَّما تجرَّدت منه شعَّ فيَّ نورُه البهيّ. هناك علاقة ثابتة: كلَّما كبَّلتُ مَيْلي إلى الخطايا، ازداد فيَّ إشعاع النور الإلهي. كلَّما نام فيَّ آدم، عاش فيَّ يسوع. النسبة عكسية. يتناقص آدم فيزداد يسوع، ولكن بقدرٍ أعظم، بقدر ما يسوع أعظم من آدم. يسوع يلجم آدم الترابي. يسوع إله. آدم تراب.

بإيماني ومحبّتي يلتهب صدري وتستعر لواعجي، لأن الإيمان الحق هو لهيب نار متّقدة بنار الروح القدس. إنه نار لا تنطفئ تؤجِّجها المحبة. بمحبّتي وإيماني تتفتّق عواطفي، وتنجرح نفسي، وتسيل دموعي الساخنة لتكويني بنار توبةٍ تلد فرحاً أبديّاً. فأنا لا أومن بصخرة صمّاء، إنَّما أومن بالله القادر على كل شيء، الحاضرِ أمامي، ذي الطلعة النورانية والجمال الساحر الفتَّان، ذي الهيبة والرهبة. وهو الله الذي خلّصني بصليب يسوع، بدم يسوع. فقد أرهبني بهيبته وقدرته وجلاله أنا الدوَيْبة، حتى أشعرني بأني ترابٌ، ورمادٌ، ودودةٌ، وعدمٌ، وفناء. وجذبني إليه بالحنان البادي بدم يسوع حتى سلب مني لُبّي، وأخرجني من ذاتي، فكفرت من أجله بذاتي، لكي لا تعود عيناي تبصران سواه، ولا تلتفتان إلى سواه.

الشركة مع البشر – إن كنت متزوجاً أو ذا بنين أو أبوين وإخوة، فشركتي معهم خارجية، وغير ثابتة، لأنها قابلة للزيادة، والنقصان، والتبدّل، والانقلاب، والغدر وفقاً لأطوار كل واحد منّا. وما أكثر هذه الأطوار وأسرع تقلّباتها!

الشركة مع الله – أما شركتي مع الله فهي شركة مع معدنِ الكمال والثبات الذي ليس عنده ظلُّ دوران. وهو لا يقف بعيداً أو خارجاً عني، بل يقطن فيَّ بنعمته. وكلَّما فتحتُ له قلبي شعشع فيَّ أضعافاً لا تُحصى.

مقارنتهما – فليس الإيمان تصديقاً مجرَّداً – بأن الله موجود، ولا يقيناً فاتراً بأنه خالق كل الأشياء. الإيمان هو اختطاف يعود منه المرء وهو يؤمن بوجود الله أكثر من إيمانه بوجوده هو، ويحبّ الله أكثر ممّا يحب نفسه وذويه وصحبه، ويرجو الله ويتّكل عليه أكثر من اتّكاله على الناس وحتى على نفسه. في الإيمان قفزة إلى العلاء، خارج الزمان والمكان.

الله يستوعب كل كيان الذين يحبّونه حباً جمّاً صادراً من كل القلب. لا يطمع الله في جزء منّا. الله يريد شخصنا برمّته، روحاً وجسداً، ليخطف روحنا إلى مجده السماوي، ويقيم جسدنا – في نهاية العالم – ليشترك في مجده هذا. لذلك يرفض الله أن نقسم أنفسنا بينه وبين العالم. الخطيئة هي الثقل الذي يجرّني إلى أسفل ويجعلني عدوّاً لله.

الإيمان ناريٌ – الله يطلب منّا إيماناً ناريّاً، وثقة تامّة، ورجاءً قاطعاً، وأن ندعم إيماننا وثقتنا ورجاءنا بلظى نار محبةٍ تقطع روابطنا بالدنيا، وتنقل كل شوقنا إلى الله، فيعود معه حبُّنا لأي شيء في الأرض هشيماً قد التهمتْه محبةُ الله فينا. الإيمان الذي لا يشدُّنا إلى الله بوثاقَي المحبة والرجاء يبقى إيماناً فارغاً. الإيمان الكامل هو امتلاء من الله في شوق محبةٍ جارف. وليس الرجاء بمعزل عن المحبة. فأنا أتعلّق بموضوع رجائي. والله هو مرجوّنا الأوحد الذي إليه ترنو الأبصار، وبه تتعلّق القلوب. هو أملنا الأوحد يومَ تظلم الدنيا في الوجوه، ويومَ نقف أمام رهبة الموت جاهلين المصير. هو صديق أوان الضيق.

صلاة: فيا ربّنا! نقف أمامك عُزَّلاً من كل شيء، لا نملك سوى الابتهال إليك، فهذا هو قرباننا إليك. والقربان يحتاج إلى نار تلتهمه كما التهمت النارُ ذبيحة النبي إيليا النبي. أنت هو هذه النار. فلامِسْ، إذن، ابتهالاتِنا المرفوعة إليك من قلوب نجسة، لكي يحلّ الإيمانُ بك في قلوبنا، فتضطرم بنار محبّتك ولهيبِ الرجاء فيك. فإذا ما ضممتَنا إلى نارك الإلهية أنار نورُك ظلامنا، وتطهّرنا من خطايانا، وعشنا في بهاء نورك، فنعود نهديك أخلص الإيمان والمحبة والرجاء، وقد نجونا من رجاسات الآثام.

ربّنا! أنت الأمل. وإليك المآل. ولا مهرب من مواجهتك. فلا تسمح بأن تكون المقابلة دينونةً، نبذاً، بل مجداً خالداً. نُلقي بأنفسنا بين يدي لطفِك وعطفِك وعفوِك، فأنت المدبِّر. فتدبَّر شؤوننا بمراحمك. آمين.

مصادر الإيمان

قبل المسيح – قبل ميلاد ربنا يسوع المسيح وآلامه ودفنه، تغلغل الله في التاريخ عبر الإعلان عن نفسه لابراهيم ونسله. هذا الإعلان المتواصل المتعدّد الأشكال انتهى إلى يوحنا المعمدان، واكتمل في أمّ يسوع ويسوع. هذا ما عبَّرت عنه أفضل تعبير الرسالةُ إلى العبرانيين في مطلعها العظيم: “إن الله بعدما كلّم الآباء قديماً في الأنبياء كلاماً متفرّق الأجزاء ومختلف الأنواع، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في الابن الذي جعله وارثاً لكل الأشياء”… (1:1-3).

وكان العهد القديم مرشداً أرشدنا إلى العهد الجديد. فترك لنا نسلُ ابراهيم كتاباً ندعوه “العهد القديم” هو دليل على طريق السماء، لكي نستطيع أن نستقبل إعلاناً أكمل وأسمى، سمعناه من فم يسوع ابنِ الله نفسه. ودوّن نسلُ ابراهيم إعلاناتِ الله في كتاب “العهد القديم”، وقد وصلَنا في الأصل العبراني وترجمةٍ يونانية وتراجم آرامية، كلها سابقة لميلاد المسيح. وبعد ميلاده، ظهرت ترجمات إلى عدة لغات، وبخاصة في القرون المعاصرة حيث تمَّ نقله إلى كل لغات العالم تقريباً.

مع المسيح – أما العهد الجديد فقد نشأ مع يسوع الذي علّمَنا بالكلام، وتمَّتْ فيه نبؤاتُ الأنبياء. وأقام تلاميذَه معلمين، فأيَّدهم بالروح القدس الذي أرسله إليهم في يوم العنصرة، ففتح أذهانهم وأنار قلوبهم وسكن فيهم. وخرجوا إلى الدنيا حاملين البشارة بيسوع القائم من بين الأموات. فهدَوا الناس إلى عبادة الإله الحقيقي. وتركوا لنا إلى جانب تعليمهم الشفوي نصوصاً كتابية ندعوها كتاب “العهد الجديد”، وهو يثبِّت التعليم الشفوي.

الكنيسة – يسوع أسّس كنيسته في يوم العنصرة المجيدة. أعضاؤها هم المؤمنون الذين نالوا الروح القدس في يوم العنصرة مع جميع الذين اعتمدوا على أياديهم وأيادي المنتمين إلى شركتهم حتى نهاية العالم.

والكنيسة هي “جسد المسيح”. والمعتمدون هم أعضاء جسد المسيح. والروح القدس – الذي حلّ على التلاميذ في يوم العنصرة وأسّس الكنيسة – هو ساكن في الكنيسة بما أنه ساكن في يسوع.

في المعلِّم – “جسد المسيح” الحامل الروح القدس (أي الكنيسة) هو حامل رسالة يسوع منذ يوم العنصرة حتى نهاية الدهور. ولذلك فهو معلِّمنا ومرشدنا وقائدنا عبر تاريخنا الطويل بماضيه وحاضره ومستقبله بغضّ النظر عن تقصيراتنا، ونقائصنا، وعيوبنا.

الله أعطى الكتاب المقدس للكنيسة. والكنيسة حفظَتْه.

في الكنيسة – والكنيسة تلقّت تعليمها من الرسل شفوياً وخطّياً، وحفظته بالروح القدس الساكن فيها، جيلاً بعد جيل حتى اليوم. وعبر الأجيال حمتْ نفسها بالروح القدس من أفكار الضلال، بوسائل شتى مشروعة، منها المجامع المسكونية.

آباؤها – وفي كل دهر قام فيها قديسون وآباء كنيسةٍ متألِّهون حمَوا الإيمان القويم من الضلال المبين. فكانت الكنيسة تدافع بواسطتهم عن نفسها ضد كل انحراف في التعليم. وسمَّت الخارجين على تعليمها هراطقة أي مبتدعين.

تقليدها – هناك تعليم تناقله الخلف عن السلف منذ عهد الرسل. كل خروج عليه كان يقيم الدنيا ويقعدها حتى ينتصر التعليمُ المتناقَل السليم. ولذلك فالكتاب المقدس هو قطعة ثمينة في تقليدها الحي.

الهراطقة – أهل الهرطقات اعتمدوا نصوصاً من الكتاب المقدس لتأييد انحرافاتهم.

الفصل الثالث: شرح الدستور المفصّل

ولندخل الآن في صميم الموضوع بإيمان ومحبة ورعدة، لأن الكلام عن الثالوث ترتعد من هوله الملائكة.

1- “أومن بالإله الواحد

الجهل قديماً – كان العالم غارقاً في العبادات الوثنية. توصّل العقل البشري قديماً إلى الاعتقاد بوجود خالق، إنما أظلمته الخطيئة فلم يهتدِ إلى الإله الحقيقي. هدانا اللهُ أولاً في شخص أبينا ابراهيم. وهكذا غرس الله في الأرض غرسةَ عبادةِ الإله الواحد غير المادي وغير المنظور. ونمت الغرسة وسط العواصف العاتية، لأن ظلام الخطيئة أفسد العقول والقلوب. فليس الإيمان تصديقاً بل شركة. ابراهيم كان صديق الله، خليله.

نسل ابراهيم – وإنما، قبل ظهور ربنا يسوع، كان هناك قوم يؤمنون بإله هو روح لا مادة، وأنه غير منظور، وغير مدرك، وقادر على كل شيء، وأنه واحد، وأنه غير محدود في الزمان والمكان والقدرة: إنهم قوم العهد القديم.

في كتاب العهد القديم تعلَّم البشر أن الله أحدٌ لا شبيه له في المخلوقات. والعهد القديم عدو لدود لتعدّد الآلهة وعبادة الأصنام، فقد نزَّه مفهومَ الله عن كل ما هو مادي ومخلوق ومحدود.

هذه الخطوة هي قفزة نوعية في تاريخ العالم، إن استعرنا هذا التعبير من علماء البيولوجيا: تحرَّرَ العقلُ البشري من مفهوم الإله بالاعتماد على حواسّه وفكره الأرضي. قامت عملية تجريد ذهني تحرَّر فيها الفكرُ من تصوّر “الإله” كما يتصوّر المرء المخلوقات[32].

يسوع – إنها قفزة نوعية في تطوّر البشر نحو معرفة أكمل من ذلك، أي معرفتنا بالله بواسطة الله نفسه، بواسطة ربنا يسوع. فبماذا أتانا الرب يسوع؟

وحدة الله – لم يخرج عن تعليم العهد القديم في القول بوحدة الإله. الله أحدٌ. لا يمكن أن يكون له شريك ينازعه السلطة أو يتقاسمها معه. ولا يمكن أن يكون مخلوقاً، وإلا بطل كونُه خالقاً أوحد، لا خالق سواه. وليست وحدته عددية. فالإثنان أكثر من الواحد والثلاثة أكثر من الإثنين. عدد المليون أهم من عدد الألف، وهكذا دواليك.

أحدِيّةُ الله – أحديّة الله هي أحديّة نوعيّة: لا مثيل له. هو من نوعية خاصة، بل هو فوق التصنيف كله. هو أسمى من الوحدة والأحديّة وكل ما يستطيع عباقرةُ البشر أن يتصوّروه.

التواضع أمامه – هو فوق مداركِنا. بعقلنا نصل إلى القناعة بأنه موجود وخالق أوحد. إن تجاسرنا على أكثر من ذلك هَوَينا وسقطنا فريسة كبريائنا وغطرسةِ عقولنا العاتية. فأقرب طريق إلى الله هو التواضع أمامه تواضعاً مطلقاً في لهفة الغريق للنجاة من عواصف البحر الهائج. آنذاك يشفق اللهُ على تواضعنا ولهفتنا، فيطلق شعاعاً لطيفاً في عقولنا وقلوبنا لهدايتنا إلى معرفته. قال الشيطان مرة للقديس مكاريوس المصري: لم تغلبني بالصوم والسهر بل بالتواضع.

لا يمكن أن نعرف الله بدون الله. هو موضوع المعرفة وهو وسيطها. هو يكشف لنا عن ذاته، ولكن في التواضع لا في العنجهية، والغطرسة، والتفلسف، وخيلاء العلم والفلسفة، والتَلْهوت[33] الفارغ أو الكاذب..

الكبرياء عدو الإيمان – بدون التواضع، اشطبوا كل شيء: على الدنيا السلام. يرتبط الكفر والإلحاد والزندقة بالكبرياء بنسبة معيّنة تختلف بين البشر. الفريسي المتكبّر سقط من رحمة الله مع أنه عالم دِين، ولكنّه أجوف مُراءٍ منافق. أما العشار[34] الخاطئ فامتلأ من رحمة الله لأنه تواضع. ما أبعد الفريسيين في كل زمان عن يسوع الإنجيل.

2- الله ثالوثيُّ الأقانيم

أتانا يسوع المسيح بتعليم أكمل من تعليم العهد القديم. علّمَنا أن الإله الواحد هو ثلاثة: الآب والابن والروح القدس.

هذا التعليم أثار حفيظة اليهود عليه، وما زالوا. هذا التعليم نسف بنية اليهودية، فعادت بعده ديانةَ تقوقعٍ، بينما اكتسح المسيحُ فلسطين والدنيا. فالمسيح للعالم كله، بينما اليهودية هي ديانة عرقية ترتبط ببقعة من الأرض.

الله هو 1=3 – يسوع صَلَبَ عقولنا بهذا التعليم. ومع هذا فقد قبِلنا الصليب ولا نرضى عنه بديلاً، لأننا قبِلنا يسوع نفسه، فقبِلنا تعليمه تبعاً لشخصه.

قبولنا لشخص يسوع جعلنا نقبل رسالته، بالرغم من كل ما فيها من صلبان للعقل والرغبات والشهوات. كلها صلبان، كلها بطولات لتجاوز العالم. من السّهل جدّاً أن يشعر المرء في حضرة يسوع بأنه يدخل فُرناً يحوِّله عن ذاته:

1- عقليّاً، يسلِّمني يسوع تعاليم لا تثبت أمام كبرياء عقلي النَقّاد المشرّح العاتي الذي لا يرحم.

2- إداريّاً، يطلب مني معاكسة رغباتي وإراداتي.

3- عاطفيّاً، يطلب مني أن أصلب نفسي، أن أحمل صليبي وأسير معه طوال النهار والليل كليهما، ما دمتُ على الأرض.

4- حياتيّاً، يطلب مني أن أبذل نفسي من أجله ومن أجل البشر. فهو يمجِّد – بالدرجة الأولى – موت الشهادة.

أكْمَلُ عباده – بعد أمه العذراء ورسله – هم الشهداء. عصره الذهبي هو عصر الشهداء. يفضِّل الباردين على الفاترين المهمِلين المتقاعسين (رؤيا 15:3-22).كيف قبِله الناس، كيف انتشرت ديانته؟ كيف رضي الناس بأن يصبحوا من أجله مجانين وشهداء وينحوا باللائمة على الجبناء والمتخاذلين والفارّين؟

هذا سر شخصه الإلهي. هذا سر يمينه القديرة. أتباعه المخْلِصون يفضّلون أن يضعهم الناس في النار على أن يضعهم سواه في الغبطة[35]. فناره أحلى من هذه الغبطة الزائفة. جحيمه – إن سمحنا لأنفسنا بهذا التعبير – خير من نعيم سواه.

إن نجاح دعوة يسوع مرتبط بشخصه. بدونه تبقى الديانة المسيحية خاليةً من كل نكهة عملية، لأنها ديانةُ شنقِ الذات في الدنيا، لتحيا في الآخرة.

إذن: قبِلْنا يسوع، فقبِلنا منه كل ما شاء أن يقول لنا. وهل من السهل أن يرفض إنسانٌ يسوع؟ فالكون بدونه فراغ وقوقعة. ما قيمة الإيمان بوجود إله إن لم نقبل يسوع؟ ومن هو الله إن لم نشاهده في وجه يسوع؟ فلنقلْ له مع بطرس: “يا رب، إلى من نذهب؟ إن كلام الحياة الأبدية عندك” (يوحنا68:6. الترجمة الأرثوذكسية منقَّحة).

قبِلْنا يسوع، فقبِلنا أن نؤمن بأن الله هو الآب والابن والروح القدس، له السجود من كل ذرات الكيان المنسحق الخاشع، إلى الأبد.

فمن هو هذا الإله الثالوثي الذي لا يمكن أن يدركه العقل؟

إن الكنيسة الأولى آمنت بأن الله هو أحدٌ وثلاثة، وعمَّدتْ الناس باسم الآب والابن والروح القدس. ولم تزل على ذلك حتى يومنا هذا وإلى الأبد (متى 19:28).

ولكن علماء الكنيسة حاولوا تقريب هذا التعليم من الأفهام، فكانت المهمة شاقة، لأن أمور الله أبعد عن مدارك البشر.

فليس النسك فقط سهراً، وصوماً، وشظفاً، ونوماً على الأرض، ومكافحة للرغبات، للذات، للشهوات وللميول وللأهواء. إنه نسك عام يشمل الإنسان برمّته.

العقل أيضاً بحاجة إلى النسك. عليه أن يتخلّى عن مفاهيم الأرض، وأن يتواضع أمام الله، وأن يتطهّر من كل فكر دنيوي، وأن يصلي إلى الله صلاة بارّة طاهرة خاشعة تستغرق كل كيانه، لكي يدنو من الله. لا نستطيع أن نعرفه إلاّ بالقدر الذي يكشف لنا هو نفسه عن ذاته. نحن مدينون له بذلك، ليكون الفضل لله لا لنا.

ولم تكن اللغة اليونانية – لغة العلم والفلسفة آنذاك – صالحة لنجدة رجال الفكر المسيحي. هذا مع العلم أن اللغات الأوروبية ما زالت حتى اليوم تستعير منها تركيب المصطلحات اللاهوتية والفلسفية والعلمية.

المصطلحات اللاهوتية – توصّل الآباء الملهَمون إلى نحت مصطلحات جديدة. شرحوها لنا. وهكذا قلّدونا ثوباً لاهوتياً فضفاضاً نورانياً. عقيدتنا نور إلهي. استعمل الآباء القديسون، لشرح سر الثالوث القدوس، الألفاظ التالية: جوهر، طبيعة، أقنوم، شخص، المساوي في الجوهر.

قالوا: إن لله جوهراً واحداً. واستعملوا “طبيعة” بمعنى “جوهر”.

وقالوا: إن الألوهة واحدة. وهي جوهر الله.

وقالوا: إن وحدة الله هي وحدة الجوهر، وحدة الألوهة.

وقالوا: إن للآب والابن والروح القدس جوهراً واحداً وألوهة واحدة.

وقالوا: بما أن الجوهر واحد، فالإله واحد.

وقالوا: لو كان جوهر الآب هو غير جوهر الابن، وجوهر الروح القدس هو غير جوهر الآب وغير جوهر الابن، لكان لهم 3 جواهر.

وقالوا: لو كان لهم 3 جواهر لكانوا 3 آلهة مستقلين. فتعدّد الجواهر يعني تعدّد الآلهة. وهذا شِرك ووثنية.

إذن: المسيحية بقيت محافظة على التوحيد اليهودي القائل بأن الله أحد لا شريك له.

وحدة الجوهر – ما هي الوحدة إذن؟ وما هي أهميتها؟ وكيف نفهمها؟ إنها وحدة الجوهر. ما دام جوهر الثالوث واحداً فالإله واحد والألوهة واحدة. ولا يغيّر التثليث شيئاً في الوحدة لأن الجوهر واحد بلا انقسام. ولكن كيف الإله ثلاثة؟

أقنوم وشخص – آباء الكنيسة استعملوا لفظة “أقنوم” ولفظة “شخص”. ثم جعلوا اللفظتين مترادفتين. فكل إنسان شخص. ولكن هل في العالم خمسة مليار طبيعة بشرية على عدد أفراد الجنس البشري؟ كلنا من نسل آدم. وفوارقنا الشخصية لا تبلغ حدّاً يسمح بأن نقول إن طبيعة أحدنا هي غير طبيعة باقي أفراد البشر.

إنما أشخاص البشر منفصلون. وكل منهم يملك الطبيعة البشرية على وجه الاختصاص، يملكها كلَها في شخصه منفصلاً عن الأشخاص الأخرى. ليسوا رؤوساً لجسم واحد. المعوَّل عليه هو شخصي. الطبيعة موجودة في الشخص. الشخص هو مستنَد الطبيعة. الطبيعة تقوم في الشخص لا خارجه. ولكن كيف الأمر بالنسبة لله؟

الآب والابن والروح القدس 3 أشخاص (أي 3 أقانيم) يملكون معاً كل الجوهر الإلهي أي الطبيعة الإلهية. أي الألوهة موجودة معاً برمّتها في كل واحد منهم: الآب يملكها برمّتها. الابن يملكها برمّتها. الروح القدس يملكها برمّتها. لا يملكها أحدهم على انفراد، كما الأمر لدى البشر. الجوهر الإلهي هو برمّته للآب والابن والروح القدس دون انفصال ولا اقتسام ولا انقسام[36].

البشر أشخاص. إنما أيضاً أفراد.

ليس من فردية في الله. ليس من جوهر إلهي خاص بالابن مثلاً. الجوهر واحد. هو برمته للآب وبرمته للابن وبرمته للروح القدس.

بين البشر، لي انا امتياز على طبيعتي البشرية. وأنت لك امتياز على طبيعتك البشرية. في الثالوث الأقدس، هذا مفقود. لا ينفرد أحد الأقانيم بشيء ما بالنسبة للجوهر، كما أنفرد أنا بطبيعتي البشرية.

المساوي في الجوهر – ولذلك استعمل الآباء لفظة “المساوي في الجوهر”. في اللغة اليونانية تعني اللفظة أن للأقانيم جوهراً واحداً بعينه. فإن قلنا إن الابن أو الروح القدس مساوٍ في الجوهر للآب، عنَينا أن لهم الجوهر الواحد بعينه.

الإله واحد، الجوهر واحد، الألوهة واحدة، الآب واحد، فلماذا الثلاثة إذن؟ أو ماذا يميّز أحدهم من الآخر؟

الولادة والانبثاق – الآب وَلَدَ الابن. الابن صادرٌ من الآب بالولادة. الروح القدس بالانبثاق، الابن والروح القدس صادران من أقنوم الآب.

الولادة والانبثاق أمران يتعلقان بأقنوم الآب لا بجوهر الآب. لو كان الابن مولوداً من جوهر الآب لكان مولوداً من نفسه أيضاً، ولَكان ابنَ نفسه. ولو كان الروح القدس منبثقاً من جوهر الآب لكان منبثقاً من نفسه أي لَكان الروح القدس منبثقاً من الآب والابن والروح القدس.

بعبارة أخرى: لو كان الابن مولوداً من جوهر الآب لكان مولوداً من الآب والابن والروح القدس، وكذلك الروح القدس لكان منبثقاً من الآب والابن والروح القدس.

الآب هو العلّة في الثالوث. منه يصدر الابنُ بالولادة، والروحُ القدس بالإنبثاق. هو عنوان الوحدة ومصدرها.

ولا تمييز بين الثلاثة إلا بهذه الخاصيات الثلاث: 1- الأبوة خاصية الآب. 2- البنوة خاصية الابن. 3- الانبثاق خاصية الروح القدس[37].

ما عدا ذلك، كل شيء مشترك بين الثالوث القدوس دون قسمة. والمساواة بين الأشخاص تامة. لو كان الابن أو الروح القدس أنقصَ من الآب لكانا مخلوقَين، ولكانا دون الآب. ولكن لا تفاوت بين الثلاثة أبداً. إنما الآب وحده هو العلة: فصدر منه الابنُ والروحُ القدس.

كل واحد منهم يحوي الإثنين بدون امتزاج أو اختلاط. لا انفصال ولا انقسام بينهم. كل واحد منهم قادر على كل شيء وحاضر في كل مكان. لا يمكن أن نسجد للآب بدون الابن ولا للابنِ بدون الروح القدس.

عندما يقول المسيحي: “أللّهم، يا رب، ارحمني”. يقول: “أيها الآب والابن والروح القدس ارحمني”. لا إله إلا الثالوث القدوس.

ليس اللهُ شيئاً والآبُ والابنُ والروحُ القدس شيئاً آخر. لا يتألّف الله من الثلاثة. الله هو الآب والابن والروح القدس.

كل واحد منهم إله. ولكن ليسوا ثلاثة آلهة. هم إله واحد.

ليسوا إلهاً واحداً منغلقاً. إله المسيحيين يختلف عن صورة الله لدى الفلاسفة اليونان ولدى اليهود. فليس الله بمفهوم فلسفي مجرّد، وليس إلهاً واحداً وحيداً قابعاً في الأعالي والعزلة.

إله منفتح – إله المسيحيين ثالوث، إله واحد في 3 أشخاص. إنه إله منفتح. عالمه هو عالم الأشخاص المنفتحين. ليس ماهيةً نظريةً مجرّدة كما الفلسفة اليونانية. هو 3 أشخاص يحتوي كل منهم الآخرين في شركة محبة.

والشخص عالَم منفتح على الغير. عالمه هو عالم “أنت ونحن”.

الله محبة .الأرثوذكس يميّزون في الله بين الجوهر الغير المدرك والقوى الإلهية. بالاماس اعتبر كل الاسماء الالهية قوىً. اذاً: الصلاح، المحبة، النور، الحياة، الحكمة، البِرّ، العدل، النعمة… قوى الهيةٌ جوهرية صادرة من جوهر الله بدون أن تكون هي الجوهر. ونحن نتحد بالله بالنعمة. نصير آلهة بالنعمة لا بالجوهر (بالاماس، الدفاع عن الهدوئيين).

إله محبة – الآب يحب الابن. الابن يحب الآب. الآب يحب الروح القدس. الروح القدس يحب الآب والابن. الابن يحب الروح القدس.

يوحنا الإنجيلي قال: “الله محبة” (رسالة يوحنا الأولى 8:4 و16).

بالمحبة المطلقة يحتضن كل أقنوم من الثلاثة الشخصَين الآخرَين.

وبالمحبة أيضاً أستطيع أنا، الشخص البشري، أن أنفتح على الأشخاص الإلهيين وأن اقتحم عالمهم الشخصي، وأن انتمي إليه.

الفارق بيني وبين الله فارقٌ غير محدود. هو الله وأنا دويبة. إلا أني شخص. وهو أيضاً شخص. عالم الأشخاص هو عالم الانفتاح، عالم الشركة، عالم التنافذ والتناضح. بمعنى آخر، إن الشخص يتغلغل في الشخص[38].

يتحاور الآب والابن والروح القدس ويقولون: لنصنعنّ الإنسان على صورتنا ومثالنا (تكوين 26:1-27). يسوع ناجى الآب.

بولس الرسول علَّمنا أن الروح القدس الساكن فينا ينادي فينا الآب السماوي: “أبّاً” أي يقول الروح القدس فينا للآب: “أبّاً” (رو 15:8 وغلا 6:4).

عالم “نحن” – عندما يكون ارتباطي بالإخوة في أي مسألة نقول عنها: “نحن”. مثلاً نحن صلّينا معاً، نحن اعترفنا معاً بالله…

عالم الـ”نحن” هو عالم الأشخاص الإلهيين. وهو أيضاً – بنسبة أضعف جدّاً – عالم الأشخاص البشريين. الحميمية تقوم بين الأرواح لا بين الأجساد والحجارة.

لاهوت شخصاني – هذا اللاهوت الشخصاني هو فوق المدارك البشرية وإنما يسدّ فراغاً هائلاً في حياة البشر. يجعل اللهَ أدنى إلى الإنسان من نفسه. فلا غرابة إن قرأنا لدى الذهبي الفم ونيقولاوس كاباسيلاس هذَين القولين الخالدين المتعلّقين بيسوع:

إنه “أقرب إلينا من قرب الجسم من الرأس” (الذهبي، العظة، 3:19 على يوحنا). إنه “أقرب إلينا من نفسنا ذاتها” (كاباسيلاس، من اليوناني 712:150).

صلاة: فيا ثالوثنا، يا ثالوث المحبة، اغمرنا بحنانك، وأدخلنا إلى عمق شركتك. أخرِجْنا من محدوديتنا المفروضة علينا لسببَين: 1- لكوننا مخلوقين. 2- لكوننا خاطئين، مظلمين، تائهين، حائرين، هالكين. بعد خطيئة آدم وحواء، فقدنا الرُّشد والهداية.­

يا ثالوثنا، أخرِجْنا من محدوديتنا وضمَّ أشخاصنا الى أنوار أشخاصك الإلهيين. حطّمْ أنانياتنا، حطّمْ أثرتنا لننطلق الى رحابة عالمك الشخصيّ المشرق بالضياء والبهجة. اجعلنا شفّافين لنعمتك، فتتراءى فينا من كل جانب ، وتظهر فينا من كل جانب.

3- الضابط والخالق

في الكنيسة وفي الكتاب المقدس والتعليم، نخصّ أحياناً الآبَ ببعض الصفات، والابنَ بالبعض الآخر، والروحَ القدس بالبعض الثالث، ولكن ليس­­ من حصر. فالصفات نفسها تعود في مكان آخر لتظهر خاصةً بالابن أو بالروح القدس.

نقول بالعادة: “نعمة الروح القدس”. ولكن في العهد الجديد ترد أيضاً “نعمة ربنا يسوع المسيح”، “نعمة اﷲ مخلصنا”. ونقول في يسوع أكثر من سواه “مخلِّصنا”، بينما نرى بولس يقول هنا: “نعمة اﷲ مخلصنا”. وقد استعمل العهدُ الجديد لفظة “رب” ليسوع عادة. ﺇلا أنه أطلقها أيضاً على الآب والروح القدس.

الدستور قال : “الآب الضابط الكل خالق السماء والأرض….”

قدرة واحدة – ليس الآبُ وحده الضابطَ الكل أي القادر على كل شيء[39]­. الابن والروح القدس هما شريكاه التامّان في هذه القدرة. القدرة هي واحدة بينهم مثل الجوهر. فكل ما هو للآب هو للابن، على ما قال يسوع.

خالقون معاً – وهم خالقون معاً. الخلق فِعلهم الواحد. يصدر عنهم كفعل واحد لهم.

ولم يصدر الخلق عن جوهرهم بل عن إرادتهم. لذلك كان الخلق قابلاً لأن يكون حادثاً في الزمن، لا سرمدياً لا بدايةَ ولا نهاية له. لا يطرأ أيُّ شيء أو تبدّل على جوهر الثالوث. لو صدر الخلق عن الجوهر لكان الخلق أزلياً سرمدياً مثل الجوهر. انما الخلق حدثٌ صدرَ في الزمان عن الارادة الاهية.

وليس اﷲ بحاجة ﺇلى وسيط. خلقَ كلَّ شيء منظورٍ وغيرِ منظور بموجب ارادته الالهية.لم يتوسط أي وسيط.

من العدم – وقد خلقه من العدم.لم تكن هنالك مادة موجودة قبلاً قد خلق اﷲُ منها العالم. الفلسفة اليونانية قالت بأزلية العالم. الكتاب المقدس قال بأن العالم حدثَ في الزمن. اﷲ خلق الزمان والمكان. الزمان والمكان يحدّان عالم الخليقة أما عالم اﷲ فهو عالم السرمدية الذي لا بداية ولا نهاية له. للعالم بدايةٌ ونهاية. اﷲ بلا بداية ولا نهاية.

خلق الآبُ والابنُ والروح القدسُ الملائكةَ، والعالمَ الماديّ، والحيوانَ، واﻹنسان من العدم المطلق. سقطت فئةٌ من الملائكة، فصارت شياطين[40] .

مخلوق وسط – أما اﻹنسان “فمخلوقٌ وسطٌ” بين الملائكة (الأرواح غير الهيولية) وبين العالم الحيواني والمادي. فيه روح[41]. والملائكة أرواح. وفيه جسد شبيه بأجساد الحيوانات. بالموت يعود بجسده إلى أصله الترابي، يعود تراباً، يعود مادة قد فقدت الحياة وانفكّت عن الروح.

منظور وغير منظور – هناك – اذن – عالم غير منظور هو الأرواح، وعالم منظور هو كونُنا المرئي. واﻹنسان شبيه بالأول بروحه وشبيه بالثاني بجسده. في شخصه الواحدِ يحوي العالمين: الروح والمادة، العالم الروحي والعالم المادي. وكل خليقة هي خلقة اﷲ، ملائكةً كانت أم بشراً أم موادَّ أخرى. لم يكن شيىء إلا بفعل إرادته الالهية.

صورة الله – وخلق اﻹنسانَ على صورته، ليحذو حذوه ويصير على مثاله. قلنا ﺇن الله ٣ أشخاص، واﻹنسان شخص. شخصنا هو على صورة الثالوث القدوس. شخصنا برمته – روحاً وجسداً – هو على صورة الثالوث. ولذلك نستطيع أن نناجي الله مثل أصدقاء وأبناء بتدلل واسع. نعلّم أطفالنا أن ينادوا آباءهم “أبَّا”[42]. بولس قال إنَّ الروح القدس ينادي الآب فينا: “أبَّا”.

ما هي هذه الصورة؟ القديس غريغوريوس النيصصي، أخو باسيليوس، قال إنها مجهولة كما أن أصلها، أي الله، مجهولٌ أو بالأحرى غير قابل لأن نعرفه. وأمرها كذلك: لا نعرفها. مهما حلَّلنا الإنسان تبقى معرفتنا به محدودة جداً. وهذه المعرفة ناقصة جداً لان الخطيئة أضعفت قوانا الروحية.

4- محيط إنسان

وضع الله الإنسان في فردوس مغروس بالأشجار، حتى ينمو روحياً إلى ملء قامة الله. جعله حراً، طبيعتُه تميل الى الخير. إلا أن الحرية تفسح له مجالاً للخيار. بحريته يبلغ ذرى القداسة، وبحريته ينحدر إلى مقر النجاسة. حسده الشيطان وأغراه بالتألّه، فصوّر له اللهَ حسوداً غيوراً. طلب آدمُ التأله بدون الله، فسقط من رحمة الله.


[1]– التصنيف الحقوقي أيسر عليَّ من التصنيف اللاهوتي بدرجات عديدة. المحاماة مهنة شبابي وعمري.

[2] – راجع نص مكسيموس المعترف المرتبط بباسيليوس وأثناسيوس في مقدّمتنا لكتاب “فن الصلاة” (ترجمة عدنان طرابلسي).

[3] – نيكيتاس ستيتاتوس، المئويات الثلاث 1:1.

[4] – علماء معاصرون يميلون إلى جبل حرمون.

[5]– أوريجنس، تفسير سفر العدد 9:16 وتفسير إنجيل يوحنا 6:1؛ كاسيانوس، المحادثة 9:14 و10 المؤسسات الرهبانية 34:5، يوحنا السلّمي، “السلَّم إلى الله” ترجمة دير الحرف 24:7 و36:26 و11:27 و78 و11:29 و4:30 وأيضاً: اسحق السرياني، النسكيات، ترجمة الأب اسحق عطا الله، منشورات النور، ص 15-18 و260. وتيتو كولياندر، المنشورات الأرثوذكسية، ص 13-16 وايڤاغريوس في: Hausherr, les leçons d’un contemplatif, Paris 1960, p85, 86 (Evagre le Pontique). 

ايڤاغريوس ضد العقلانية ولكنه فيها بما اندسّ عليه من أفكار الفلسفة اليونانية. الآباء منذ باسيليوس حتى غريغوريوس بالاماس كفروا بحكمة هذا العالم وأخضعوا أنفسهم لحكمة الله. ربما ايڤاغريوس ذلك من أساتذته الكبادوكيين ولم يحفظ الدرس جيّداً. لم ينضبط انضباطاً تامّاً في التقليد الكنسي.

[6]  – في جملة صلباني الاصطدام بالمتصدّين للكتابة اللاهوتية وهم يجهلون اللاهوت في العمق. فليس كل من طالع كتاباً صار لاهوتيّاً. في 19/5/1994 شرحت للغالية فيكتوريا ما في كتابنا “سر التدبير الإلهي” من فوارق أساسية مع رائدي العظيم لوسكي وحتى مع مايندورف، فاكتشفتْ الكتاب اكتشافاً. آباء الكنيسة حقوقيون لا أرسطويون (راجع مثلاً ص 224 من سر التدبير). لم يطرق لوسكي ومايندورف، مثلاً، عقيدة “التقنيم” إلا في رسالة مايندورف الجوابية التي شكرني فيها. ما من كتاب يتم إن لم يكن عصيراً لتقليد الكنيسة العظيم. وهذا لا يقدِّره عابرو السبل، بل أهل الخبرة بالتراث. فالتواضع مطلوب، لا الغيرة الاعتباطية، ولا حب الظهور.

[7] – Hausherr, Théologie de la vie monastique, P. 585-410 Paris 1560.

[8]   – في الصلاة ص 60، ترجمة دير الحرف.

[9] Hausherr, les leçons d’un contemplatif, Paris, 1960.

[10]  – إنما أنا أنتمي إلى الكنيسة الانطاكية التي لعبت دوراً بارزاً في المجهودات اللاهوتية والنسكية والصوفية. وهي التي “صوصلت” تعاليم المسيحية وآدابها وشعرها وموسيقاها وكل فنونها الجميلة: 1- يوحنا الذهبي الفم، 2- مكاريوس المنحول (منطقة الفرات) الشعلة الصوفية النادرة، 3- ديونيسيوس المنحول اللاهوتي الصوفي الكبير، 4- رومانوس الحمصي أعظم شاعر مسيحي. وكان قد سبقه في الزمن أفرام (نصيبين) الكاتب النسكي الكبير، 5- مكسيموس المعترف (من خسفين الجولان) دائرة معارف العلم اللاهوتي الصوفي النسكي وعماده بعد آباء القرن الرابع، 6- أندراوس الدمشقي، 7- يوحنا وكوزما الدمشقيان، 8- أما إسحق أسقف نينوى المولود في قطر المعاصر ليوحنا السلمي (المؤرّخ خريسوستوموس بابا دوبولوس يقول إن السلمي سوري، فيكون الثلاثة من سكان  مشرقنا. وهم مع صفرونيوس كواكب القرن السابع. لهم الفضل – مع يوحنا الدمشقي 749/750 في “صوصلة” اللاهوت العقائدي ومبادئ النسك والتصوّف). ويؤلف معهما مكسيموس ثالوثاً أرضيّاً للثالوث السماوي في القرن السابع الميلادي. وكان قد سبقهم بقليل معاصرهم صفرونيوس الدمشقي. فيبدو أن الزعامة، في القرون 6 و7 و8، آلت إلى منطقة دمشق في علومنا الدينية (يوحنا موخوس، وتلميذه صفرونيوس، أندراوس…). إلا أننا لم نستمر. يلمع الأفراد ولكنّ المهاترات تأكل الأخضر واليابس. مهاتراتنا في القرن الخامس أساس تمزيق الكنيسة تمزيقاً هدّاماً. ولكننا بوركنا بأفراد صامدين.

[11]  – “لا تقل بعد مداومتك طويلاً على الصلاة: إني لم أنتفع شيئاً” لأنك قد انتفعت، إذ أي خير يضاهي الالتصاق بالله والثبات في الاتحاد به بلا انفصال؟” (السلّم إلى الله 29:28).

[12] – Hausherr, Etudes de spiritualité orientale, Roma 1969 P.162

[13] – خلقيدونية قرب القسطنطينية حيث انعقد المجمع الرابع المسكوني في العام 451، فحدّد لنا نهائيّاً عقيدة الإيمان بيسوع المسيح أقنوماً واحداً في طبيعتَين إلهية وإنسانية. زاد عليها المجمع السادس المسكوني (680-681) عقيدة المشيئتَين (أي الإرادتَين) والفعلَين في يسوع.

[14]  – راجع في مثل هذه الأفكار، أوريجنيس، العظة الأولى على حزقيال النبي 3 حيث استشهد أيضاً بقول يسوع: “إنّ أبي حتى الآن يعمل وأنا أيضاً أعمل” (يوحنا 17:5). وقال أيضاً: “إنه ليزعجك أن تعمل، أنت خُلِقتَ لتَخلَقَ إيجابيّاً”. أوريجنس وكل الكتبة الكنسيين الذين كتبوا في اللغة اليونانية أقاموا وزناً كبيراً للحرية، وجعلوا خلاصنا منوطاً بإرادتنا وجهودنا. ليسوا توكليين. قرنوا نشاط النعمة الإلهية ونشاط الإرادة الحرة. النعمة الإلهية تفعل عبر إرادتنا. فإنّ رفضنا مطاوعة النعمة كفّ تشعشعها فينا. خطايانا تحجب لمعانها فينا. إن أسقطنا حجاب الخطيئة تلألأنا مثل يسوع على جبل ثابور. الله يعمل فينا برضانا (الذهبي، مين اليوناني 45: و742:58 و99:63 وكالستوس واغناطيوس اكسانتوبولوس، المئوية 5 عن ذياذوخوس). معاً: النعمة والإنسان.

[15]  في هذا الكتاب قوّيت جدّاً النهج الذي يمزج الكلام بالصلوات، على غرار أفرام وإسحق وسمعان اللاهوتي الحديث وأندادهم. ومنذ “سر التدبير الإلهي” أعلنت رفضي لكتابة اللاهوت بأسلوب الفيزياء والكيمياء والتاريخ.

1- Chariton, Art de la prière, Bellefontaine, P.269

[17] – دستور الإيمان قطعة لاهوتية ملهَمة إلهياً يتلوها المؤمنون بإيمان ورهبة كأنهم أمام منبر الإعتراف. المجامع المسكونية نصَّت على احترامه وحظرت مسَّه أو النقصان. الأصل اليوناني مترجم إلى جميع لغات العالم المسيحي.

[18]  – في اليونانية، وردت تحمل حرفاً كبيراً (بالفرنسية Majuscule). وفي الترجمة السابقة تتوالى النكرة والمعرفة، وهذا خلل لغوي.

[19]  – بالجمع لا بالمفرد ولا المبهم مثل “ما”.

[20]  – بهذا ابراهيم اليازجي سوَّغ ظهور نائب الفاعل.

[21]  – اللفظة اليونانية دقيقة جدّاً. ترجمتُها بجملة، فصارت واضحة في العربية.

[22]  – بالجمع في اليوناني.

[23]  – يبدو أن المترجم القديم توهّم أن الوالي من البنطس قرب البحر الأسود. النسبة إليه باليونانية Ponticos (أعمال 2:18).

[24]  – الجملة من كورنثوس الأولى (3:15-4) (أي تمّت الكتب ونبؤاتها).

[25]  – في اليواني “لا نهاية لملكه” وتحتمل اللفظة أيضاً معنى ملكوت.

[26]  – هكذا في اليوناني والإنجيل. وهكذا في ترجمة إبراهيم اليازجي (يوحنا 26:15).

[27]  – حرف كبير باليونانية.

[28] – هكذا باليونانية قبل “جامعة”.

[29] – اليوناني: “كاثوليكية” تعني “أرثوذكسية” و”جامعة” معاً.

3– نوع من الطيور (الناشر).

[31] – الوجه هو في الجسد أداة التعبير، والتخاطب، والمناجاة، وتقابل الأشخاص…

[32]  – لما مرّ بولس الرسول على أثينا، رآها مملوءة أصناماً (أعمال الرسل 16:17). فلا فلسفة سقراط وأفلاطون وزينون وأبيكور ولا سواها رقَّتهم دينياً، فكثرت أصنامهم. وأخلاقيّاً: ذكرتُ في كتاب “المرأة في نظر الكنيسة” نبذة عن الانحلال الأخلاقي في الفكر اليوناني القديم. قبل الإنجيل – كما نرى في الكتاب المذكور – المرأة أدنى من الحيوانات. مع المسيح تسامت النساءُ والأخلاق. فلا الفلسفة ولا سواها رقَّيا البشر بل الإنجيل.

[33]  – التلهوت هو ادّعاء التكلّم باللاهوت بدون أصالة ولا مسوّغ لاهوتي أصيل. كأنما المسألة عادية، بينما هي سماوية.

[34]  – هو في أيامنا “جابي المالية”، جمعها “جباة”.

[35]  – السنكسارات اليوناني واللاتيني والفرنسي الكبيرة (وقريباً العربي) حافلة بالشهداء الذين فضّلوا الحريق على النعيم الزائف.

[36]  اللغة الحقوقية واضحة في الكلام عن المالك والمملوك والملكية المشتركة، إنما هنا نجد قابلية للانفصال، للفرز والقسمة والانقسام. باسيليوس استعمل أيضاً مصطلحَي العام “للجوهر” والخاص “للأقنوم” (راجع سر التدبير).

[37]  – نلفت الأنظار إلى أن التمييز بين الأقانيم يقوم على العلاقة لا على التعاكس والعزلة والإنفراد. الآب مصدر الابنِ بالولادة، والروحِ القدس بالإنبثاق. الابن ابن الآب، مولودٌ. الروح القدس منبثق من الآب. غريغوريوس اللاهوتي والدمشقي وسواهم علّمونا أننا لا نعرف ما الفرق بين الولادة والإنبثاق في الثالوث. الموضوع برمّته فوق مداركنا. إن قلنا إن الآب وَلَدَ الابن فهمنا أن جوهر الابن هو جوهر الآب. ولكن حقيقة الله أسمى من مداركنا. نزل الإلهامُ المسيحي إلى مستوى نفهم معه بعض الفهم، كما أراد الابن أن يكشف لنا: بقدرٍ ما (متى 27:11).

[38] – ابراهيم هو خليل الله. في “المزيفون” شرحنا معنى “المخاللة”. يتداخل الخليلان أحدهما في الآخر. وفي لاهوت الثالوث القدوس نقول إن الأقانيم يتساكنون أحدهم في الآخرَين. هذا هو العمق المطلق للمخاللة التي لا تُحدُّ ولا توصف ولا تُدرك. ولذلك فالثالوث القدوس هو إله انفتاح كلِّ واحد من الأقانيم على الثالوث انفتاحاً مطلقاً. إله اليهود إله مخيف لا يدنى منه. الهنا هو الآب الذي أرسل الروح القدس ليصنع من أحشاء مريم ناسوتاً لابنه المسيح. المسيح الهنا المتجسد هو اله وانسان معاً في أقنوم واحد. اله اليهود إله قابع في العزلة والانفراد والتعالي عن البشر. الهنا شخص يحتكّ بأشخاصنا.   

[39]   – في سفر الرؤيا (1 : 8) يسوع هو الضابط الكل (Pantocrator) باليونانية.

[40]  – الكتاب المقدس قال بأن الشياطين موجودون. وقد جرَّب الشيطان يسوع نفسه. وقال يسوع لبطرس إن الشيطان سيغربلهم، وقال إنه رئيس هذا العالم. فهو قوّة شريرة تضلِّل الناس وتغريهم على عمل الشر. وهو يحسد الانسانَ فيضرُّ به.

[41]  – قال يسوع: “لا تخافوا ممن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس” (متى28:102). فأين تخرّصات نظرية التطوّر؟ هوذا النفس في كلام يسوع عنصرٌ غير مادي أي لم تصدر عن الجسد. وقال أيضاً: الروح هو الذي يحيي، أما الجسد فلا يفيد شيئاً” (يوحنا 64:6). وقال يعقوب الرسول: “الجسد بغير الروح ميت” (26:2). وسواه كثير.   

[42]  – أبَّا لفظة سريانية نلقّنها للأطفال الصغار لينادوا أباءهم. نلفظها بالتشديد appa انما أوردها بولس باليونانية abba.