– المسيحيون في المشرق العربي الكبير بين الهجرة والتهجير.. تحدِّي التنوع والحريات
– في المسيحيين أنفسهم.. في الفكر العربي والإسلامي.. والفكر الغربي
***
أسوأ ما يصيب ” مسيحيي الشرق” بكلّ قومياتهم واثنياتهم ومذاهبهم وتراثاتهم وثقافاتهم ولغاتهم ودورهم وحضورهم وتاريخهم، ليس أن يُذبحوا ولا أن يُهجّروا ولا أن يُعاملوا ” كأهل ذمة” أو كمواطنين درجة ثانية، او كأتباع او كملحقين، أو يعطوا فتات سلطة من مقاعد نيابية أو وزارية أو ادارية، كمنّة من حاكم، أو أن حتى يبادوا رويداً رويداً، بلْ في الإنكار الشديد الغريب والاستخفاف كالنعامة بأنَّ لا مشكلة، فلماذا الضجيج، ولماذا الصراخ؟
أرحِّب بهذه الندوة لأنها في قطر، الدولة المحاصرة من أشقاء، ولأنها في هذا الظرف بالذات قادرة على فتح باب حوار عميق وخطير حول أزمة وجودية تطال “أبناء من هذا الشرق”، ولأنها من “المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات” في زمن نكاد نظن أن لا بحث جدي ولا دراسة ابداً لأي قرار في أي بلد عربي، وأنّ العقل قد غاب.
فشكراً للصديق الدكتور عزمي بشارة الذي يحاول جاهداً عبر نشاطات متنوعة وكتابات إبقاء شعلة نور في هذا الظلام والجنون.
أين القضية؟
أولاً: في المسيحيين أنفسهم: ان مسيحيي الشرق هم ابناءُ الارض الاصليون، الاصيلون، ليسوا مهاجرين ولا مرتزقة ولا وافدين ولا صليبيين، ولا احصنة طروادة ولا حلفاء للغرب ولا لمشاريعهم. إنهم امام تحدي البقاء. فها هي المسيحية تكاد تنقرض من مهدها في الارض المقدسة ومن عرشها في بلاد الرافدين ومن سوريا. ان كتباً ودراسات تصدر عنهم كأنهم ابناءُ متاحف، او بقايا سكان. “آخر الهنود الحمر” للكاتبة مهى نعمة، “حياة وموت مسيحيي الشرق ” لجان بيار فالون،” آخر الآراميين” لسبستيان دو كورتوا. ان مسيحيي الشرق ليسوا عدداً. لا يهم ان كانوا 15 مليوناً او عشرين او اكثر او اقل
1- ان المسيحية هي أصلاً مشرقية، وليست غربية ولا رومانية ولا اميركية، أن بيت لحم والقدس وانطاكيا والرها هي قلب المسيحية وليس نيويورك ولا باريس، المسيحية ملح الشرق، سكّر الشرق، روح من الشرق. ان المسيحية المشرقية لون من لوحة المنطقة، فهلْ نحن امام من يحاول محو الوانها؟ ليس للمسيحية هنا مشاريع جنونية ولا أوهام، ان بقاءها في الأرض مسؤولية أهلها اولاً. فالوطن ليس حقيبة ولا فندقاً نستبدله اذا تراجعت الخدمة. ولن ينفعنا كل عواصم الدنيا، لا شيكاغو واشورييها ولا البرازيل وموارنتها ولا ديتروت وكلدانها ولا ستوكهولم وسريانها.
ان حق كل انسان، مهما كان دينه لونه فكره عقيدته قوميته اثنيته، مقدس. ليس في شرعة حقوق الانسان فقط، ولا في الديانات وكتبها، بل هذا جوهر الفكر البشري. نحن، كمسيحيين مشرقيين، لا نطالب الا بحق الانسان. بالمساواة التامة. بالدستور. لسنا حارات نصارى ولا ” غيتوات”.
– نحن شعوب وطوائف ومذاهب واثنيات وقوميات من صلب تكوين الشرق.
كنا فيه منذ البدء. أنوّه بكتاب بعنوان” الكتّاب السريان في قطر في القرن السابع الميلادي”تأليف دكتور ماريو قزح وعبد الرحيم أبو هيثم. جذورنا حتى هنا. جزء لا يتجزأ من تاريخه والمستقبل.
– لنا لغاتنا وعاداتنا وثقافتنا وذاكرتنا وترابنا وضيعنا وأدبنا. لا يمكن لأحد ان يمحوها ولا ان ينفيها ولا ان يلغيها ولا ان يحتقرها ولا ان يتهكّم عليها. مقدسة هي لنا كعظام اجدادنا وحكايات قديسينا.
– نحن مواطنون كاملو الاوصاف، من الدرجة الاولى، تماما مثل اي اخ لنا تحت علم البلاد. نرفض اصلا أنْ نسمى اقليات. نحن لسنا عددا، ولا يقاس انسان او شعب بعدده.
بكل حال، مَن هو أكثرية في مكان ربما هو اقلية في مكان آخر.
– إذن، نحن مواطنون نتكنى بأسمائنا، بهويتنا، بغض النظر عن الجنس او العرق او اللون او الدين او المذهب أو اللغة او العقيدة..فنحن لسنا “مسيحيين عرباً”. منا من يقبل هذه الهوية ومنا من لا نحن موارنة وأقباط وسريان وآشوريون وكلدان وروم وانجيليون.
– لسنا شعوباً سرية ولا منقرضة تدرّس في المتاحف وفي قسم اللغات القديمة في جامعة. لسنا شعوباً معدّة للتهجير أو للتصدير. لسنا ادوات عند احد ولا اصحاب رهانات على الخارج. لسنا
رعايا ولا اهل ذمة، ولا معدين لنكون ضحايا. لسنا حراس حجارة ولا منكفئين في حارات. وأكيد اننا لسنا خنجرا مغروسا في خاصرة اي وطن. ولسنا “دبب الباندا” لنطلب عطفا او مساعدات او بطانيات او ادوية، او تتبرع سفارة لتنقلنا على بواخر الى اماكن آمنة.
أيها الاحبة، فليستمع الينا العالم، بين مباراة كرة قدم وكرة سلّة وعرض ازياء وأغنية.
-ماذا نريد؟
- فقط حقوق انسان، كرامته، حق كل انسان وكل فرد وكل مجموعة بالعيش الحر الكريم المتساوي بالكامل.
- نريد الحفاظ على هوياتنا الصغيرة،
- نريد ديموقراطيات ليس على طريقة الفوضى الخلاقة.
علينا البقاء والصمود والحضور لا أن نفكر بأرجلنا وخوفنا ونهاجر.
ثانيا: في الفكر العربي والاسلامي.
ان كل نقاش حول مصير المسيحية المشرقية فيه مسؤولية عربية واسلامية . ولا نريد جدلا حول العودة الى النص أو حوار أديان على أهميته أو حفلة علاقات عامة. أنا أقول للنخب والقيادات نريد حلولاً الآن. منكم أنتم. لا من الخلفاء ولا ما حصل في العصر العباسي أو العثماني ولا نحن كأهل ذمة ولا أنتم كفاتحين. بل نحن معاً كمواطنين متساويين.
ان موجة الاصوليات التكفيرية الالغائية المتخذة من النموذج الاسرائيلي راية، عبر فكرة انشاء دول دينية على انقاض الآخر، وعبر رفع فتاوى لا يقبلها لا عقل ولا منطق ولا دين هي أخطر ما يواجه المسيحي. ان هذا الارهاب الذي يغتال مطراناً ويخطف، ويكفّر جاراً، ويهجّر سكاناً أصليين هو آفة لا يمكن معالجتها فقط بالأمن، بل بالفكر والاقتصاد والاعلام.
ان سكوت الانظمة العربية، واحياناً تواطؤَها، عبر محاباة الفكر المتأسلم، لترضيته على حساب حقوق الإنسان وحقوق المسيحيين هو طعنة في صميم جوهر تكوينها. أليس غريباً أن يكون المسيحي دائماً ضحية وفي أغلب الأحيان نسمع عن تبرئة القتلة عبر تنسيب الجرائم إلى مجنون! إن عدم جرأة
الأنظمة، بدءاً من دساتيرها ، في الإعتراف بالمساواة التامة بين المواطنين، لا يساعد على إعطاء أي بصيص أمل للمسيحي. صحيح أن الأنظمة متفاوتة في تعاملها مع المسيحي ، ففي بعض البلدان المواطنة فقط للمسلم، في بعضها دين رئيس الدولة الإسلام، وفي بعضها دين الدولة الإسلام. أحياناً، نسرّ بقليل من العطاءات مثل السماح بتشييد كنيسة، أو مثل تعيين وزير او مدير. لكن، بالإجمال، الأنظمة بعيدة عن فهم روح ومعنى عيش مشترك نموذجي متساوٍ وربما هذه ليست فقط أزمة المسيحيين بل أزمة كل العرب. ام حقوق المواطن ليس منّة ولا هبة ولا تسولاً. إن صمت العرب عن ظواهر الإغتيالات والتهجير في العراق مثلاً، وغياب جامعة الدول العربية عن أي رد فعل صريح، يضعها كثيرون في موقع غضّ النظر أو التجاهل اذا لم يكن أكثر. فلماذا ؟
– الاصولية التكفيرية مرض. انها الغاء كل آخر. ان كل فكر لا يحترم ما فيّ، ما في عقلي وقلبي وضميري وتراثي غير جدير بأن يسمى فكراً انسانياً. ان الذين يقتلون الآخر هم أعداء الانسان. اينما كانوا. كل فكر عنصري هو ضد المنطقة كلها.
– ان مسؤولية عميقة تاريخية تقع على النخب العربية والاسلامية، وانتم زهرتها. اناشدكم اين هي من هذا الصراع، ماذا تقدم على صعيد الممارسة والفكر والكتابة والاعلام والتثقيف والجدال. ان الفكر العربي بحاجة الى انتفاضة، الى تجديد معنى العروبة، الى مواكبة تحديات العصر كلها. فلا يكفي ان نبقى اصناماً محنطة على رأي واحد، وطريقة تحليل واحدة. ما هو رد الفكر العربي على قضايا العولمة والتطور والعلم والهوية والتعدد وحقوق الانسان وحقوق الاقليات والقوميات. اين الدينامية الخلاقة في نهضة الفكر والدور. أين مكاتب الخيال؟
ان الفكر الاسلامي ايضاً باحزابه وتياراته، حتى الاصولية منها، امام تحد. كيف ينظر الى هذه الاسئلة. لا يكفي ان ينظِّر ان الاسلام هو الحل. هناك قضايا شائكة منها المسيحيون المشرقيون واحتضانهم منها ادارة التنوع والتعدد. اننا نُسَرُّ حين نسمع قيادات تعي معنى هذا الحضور ونخاف حين نشاهد تكفيريين يقطعون رأس كاهن ويغتالون مطراناً ويهددون عائلات بالاقتلاع والتهجير.
– ان مسؤولية أكيدة تقع على الحكام العرب .ماذا تفعل الانظمة، هل يكفي القمع والاجهزة لحل مشكلة بهذا الحجم. من يعلِّم اجيالنا في كتاب التنوع والتعدد. من يشرِّع اعلامه وقصوره لفهم الآخر، ليس لقبوله فقط بل لحبه . هل الخيار هو بين الخوذة العسكرية والعمامة الدينية؟
ان القيادات العربية مؤتمنة ان تكون في العصر. في النزول الى عمق قضايا كل فرد وكل انسان. ماذا ستقول امام الله والتاريخ. هل من مصلحتها أن تكون الطوائف والمذاهب متناحرة، او متخاصمة. ما هي حلولها؟ هل ينفتح القادة العرب على منحى جديد وفهم حديث للحوار. هل يمكن ان نجري نقداً ذاتياً جريئاً؟ اذا سقط العيش المشترك المسيحي الاسلامي في الشرق فكيف له أن يكون ممكناً في الغرب؟
أدعو العالم الاسلامي لموقف كبير يرفض فتاوى التكفير، ومحاولات تطبيق الشريعة بالقوة.
أدعو العالم العربي، الى نهضة فكرية حضارية لأنه أمام تحديات تطال وجوده.
إنه صراع داخل الفكر في الدول والانظمة والحكام والاحزاب مسؤولية أمام الله والتاريخ لا ينفع التهرب ولا التجاهل ولا الامبالاة.
إنه اسلام مخطوف من ظلاميين يدمرون تراثهم وتاريخهم.
ثالثاُ في الغرب:
إنّ هذا الغرب الخبيث يعامل قضية الحضور المسيحي بمكيال المتجاهل المتواطىء . أصلاً هو مسؤول مباشر في زعزعة كيانات دول عربية – مهما كان رأي الناس في قيادتها أو ممارساتها – وفي غياب الأمن والمرجعية . وهو مسؤول مباشر عن دعم إحتلال فلسطين ما هجّر أيضاً المسيحيين من الأرض المقدسة وأشعل غضباً إسلامياً عارماً. ما زلنا كمسيحيين، من دون وجه حق، ندفع أثمان اخطاء الغرب وخطاياه رغم أننا معارضون لسياساته. إن هذا الغرب ليس لديه ما يقدمه لمسيحيي العراق وسوريا إلا تسهيل سمات دخول لمزيد من التهجير إنهم يكمِّلون ما بدأته داعش. أصلاً، ليس هناك على أي أجندة غربية ملف عنوانه بقاء أو حضور أو دور او مستقبل المسيحيين في الشرق . هذا هم زائد لا يريدونه .
لأننا كمسيحيين لسنا حاجة استراتيجية لهم . لسنا نفطاً، ولا قاعدة عسكرية، ولا مشروعاً يساعدهم على الهيمنة .
لا يمكن للعالم أن يغمض عينيه ويدَّعي انه لا يعرف ولا يسمع ولا يرى. لا يمكن أن تكون الحروب مسلسلاً تلفزيونياً ولا الضحايا أرقاماً ولا يرف له جفن. لا يمكن أنْ يكون الانسان لامبالياً تجاه أي ضحية في اي زمن في اي قارة لاي سبب. مَن يسكت يكون مشاركاً. الضمير العالمي يجب ان يبقى ساهراً متيقظاً لحقوق كل انسان. الحق ليس للقوة بالضرورة فالى متى يصم العالم اذنيه عن صراخ البراءة ويتبع مصالحه؟
إني أدعو دول العالم الى وقف خبثها وريائها والبدء “بمشروع مارشال” للمسيحيين في الشرق من أجل بقائهم وصمودهم.
وأدعو قداسة البابا الى عقد مؤتمر طارىء حول المسيحية المشرقية قبل أن تنتهي.
وأخيرا:
وهل يمكن ان نتفق على ثوابت من وحي الواقع؟
1 – لا يمكن لأحد ان ينكر او يلغي واقع التعدد ولا ان يمحو أي مكوِّن الا بالحلول النهائية اي الابادة او التصفية او الالغاء او التهجير. كل هذه نماذج اعتمدها طغاة في التاريخ. لكن هل يتحمل العالم اليوم في اوائل القرن الجديد هكذا حلول؟
2 – لا يمكن لأحد ان يفرض هوية او انتماء او قومية أو ديناً بالقوة. الانتماء لا تعيِّنه الدولة ولا النظام بل هو شعور ذاتي لا يُقتلع لأنه في القلب. انت تختار مَن انتَ.
3 – لكل منا هويات متنوعة قد تتكامل وقد تتضارب احيانا. في كل منا أكثر من هوية ومن انتماء ومن لغة وليس هناك هويات صافية او عرقاً صافٍ أو وطناً من لون واحد.
4 – هذه الهوية حق يجب ان يثبت في الدستور في كل وطن بل أن يكرس في ما هو اكثر من نص. في قبول حياتي في الحي والعمل والمدرسة والوطن. وهذا التنوع هو عيش مشترك وحياة تآلف.
5 – إن المسيحيين ليسوا اداة للغرب ولا للاستعمار – على الاقل بأغلبهم .
6 – ليس هناك من اكثرية وأقلية دائمة وثابتة وفي كل مكان. كل منا هو بنفس الوقت اكثرية وأقلية. السنّة الاكثرية في العالم العربي هم اقلية في ايران والعراق والبحرين. الشيعة هم اقلية في السعودية. الاكراد هم اقلية في العراق وتركيا وسوريا وايران وأكثرية في اقليم كردستان في شمال العراق..
ان منطقتنا تعاني من ازمات متنوعة لا تعد، من الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين الى التدخلات الى
الحروب، الى الأمية، الى الأصوليات التكفيرية، الى مواكبة الحضارة، الى الديموقراطية الى حقوق الانسان،
على ان نكران وجود مكونات وهويات في العالم العربي وعدم الاعتراف بها واعطائها حقوقها دون منة هو من اساس وابرز المشاكل لانه يمس جوهر الهوية.
وانا هنا أمام هذه الوجوه الواعدة اسأل بتحدٍّ عن مصير المسيحيين المشرقيين.
هل تبقى مسيحية شاهدة في هذا الشرق؟
والسؤال برسم كل الدول والحكام والنخب والاحزاب الاسلامية والقومية لتجيب عليه امام الله والتاريخ. انها مسؤولة.
اذا كانت هذه المسيحية غير قادرة على البقاء في ارضها التي عاشت عليها منذ فجر المسيحية بل منذ فجر التكوين فكيف يمكن الكلام عن حوار حضارات؟ وكذا السؤال عن مصير كل اقلية قومية او اثنية او لغوية في اي وطن.
فسلام من لبنان الى قطر التي ترعى، هذا اللقاء. ما زال لبنان رغم كل شيء، نموذجاً لرسالة التعايش. انه بلد الاقليات بامتياز حيث لا أكثرية فيه بل مجموعة أقليات، نأمل ان تعم ثقافته في التنوع الوطن العربي بأكمله.
إن لبنان، هو في ذاته في تكوينه في جوهره في فلسفته في بقائه في مغامراته، بل قلْ في رسالته لقاء حرّ توافق حرّ على عيش مشترك. إنه كما يطالب فخامة الرئيس ميشال عون مؤتمر دائم لحوار الحضارات وهو يهديكم أطيب السلام.
***
كلمة رئيس الرابطة السريانية أمين عام اللقاء المشرقي حبيب افرام في مؤتمر بعنوان” المسيحيون العرب في المشرق العربي الكبير بين الهجرة والتهجير” للمركز العربي للابحاث ودراسة السياسات بين 21-22 تشرين الاول 2017 في الدوحة