عندما يحدث ظهور فائق للطبيعة في رعية ما، يشكّل الأمر صدمة عميقة. وأول رد فعل هو نفيها وحتى السخرية منها.
جميع الظهورات المثبتة مثل لورد، فاطيما، غوادالوبي، لا ساليت وغيرها، اختبرت معارضة ومقاومة من الكهنة. ناهيك عن تلك التي جاءت بعد المجمع الفاتيكاني الثاني.
لماذا؟ هل هو حماس لفصل “الزؤان عن القمح؟”
أم خوف من أن يقال عنا سُذّج؟
أم هو شعور بالذنب في وضع الثقة الدينية في عوامل وأسس خارقة للطبيعة بأكملها؟
أم لأننا نتمسك فقط بما يقدر أن يفسّره لنا العلم؟ أم هو الاستسلام للبدعة التي تقلّل من شأن مريم العذراء؟
الأب رينيه لورنتين من أعظم اللاهوتيين المريميين، يشرح هذه الظواهر. ننشر لكم هذا المقال تكريماً لعمله وللثمار التي أعطاها للكنيسة.
من هو الأب رينيه لورنتين؟
الأب رينيه لورنتين، كاهن فرنسي، توفي قبل أيام في 10 سبتمبر/أيلول عن عمر 99. وهو أحد أعظم اللاهوتيين المريميين في كل العصور. عاش خلال مئوية فاطيما، مصادفة مريمية؟!
كان كبير المحقّقين والباحثين في ظهورات لورد، ودراساته الرائدة وضعت منهاجاً للتحقيقات المترتّب القيام بها في جميع الظهورات التي تلت بعد لورد. لم يحقّق بظهورات فاطيما بعمق على الرغم من أن الكنيسة البرتغالية دعته حينها للقيام بذلك. لكنه قال كان هناك الكثير من المشاعر السياسية، التي حسب رأيه كان من شأنها إعاقة عمله.
كان أيضا أول من استخدم التكنولوجيا الطبية للتحقيق في ظهورات مديوغوريه، كما قال:
“أنا واثق تماماً من صحتها، لا تستطيع مريم أن تخدع أطفالها الذين يتسلّقون حفاة وعلى ركبهم الى أعلى جبل الصليب”.
كما كان مستشاراً متميزاً لمجلس الفاتيكان الثاني. الفصل الأخير من وثيقة المجمع Lumen Gentium (نور الأمم) هو عملياً من كتبه.
ندّد الأب لورنتين بأن السنوات العشر الأولى بعد المجمع عانى اللاهوت المريمي من الخسوف. لهذا دعاها بحكمة “الشتاء المريمي”. صرّح أيضاً إنه إذا كانت ظهورات لورد قد حدثت في أيامنا هذه، الكنيسة لن توافق عليها.
لقد أثبت بوثائق أن التعبّد المريمي يقوم، ليس على نوع من الاختلاف غير المقبول من العبادة المسيحية الحقيقية، ولكن هي خطة أنشأها الله منذ البداية لتوجيهنا في الارتداد والإيمان.
إن الظهورات قضية رئيسية في المسيحية، لدرجة أن الكتاب المقدس يتمحور حول الظهورات.
الله يتكلم ويظهر لإبراهيم، لموسى والأنبياء. وليسوع المسيح، للرسل بطرس وبولس وغيرهم من المسيحيين في سفر أعمال الرسل. باختصار، منذ التكوين وحتى السفر الأخير من الكتاب المقدس. وظهورات المسيح المتجددة هي تتويج وإنجاز للإنجيل المقدّس. وكما قال الرسول بولس: “وأنه ظهر (الرب يسوع بعد قيامته) لصفا ثم للاثني عشر وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة أخ، أكثرهم باق إلى الآن. ولكن بعضهم قد رقدوا. وبعد ذلك ظهر ليعقوب، ثم للرسل أجمعين وآخر الكل – كأنه للسقط – ظهر لي أنا (1 كور 15).
ظهورات العذراء هي أصل العديد من المعابد الهامة وأماكن الحج (فاطيما، غوادالوبي، أباريسيدا، لا ساليت، لورد، ).
“الشتاء المريمي” تم إنهاءه من قبل الشعب، بسبب إخلاصهم وتعبّدهم للظهورات المتعددة التي أرسلتها السماء.
انتشر الأدب المريمي المتعلّق بالظهورات على نطاق واسع لم يسبق له مثيل، بدءاً بمناقشات في الثمانينات. بدا الأمر أن الظهورات تحتفظ بمكانة جيدة. لكن في الكنيسة كانت لا تزال دليلاً على التناقض وتناولتها السلطات الكنسية بشك ونفي . يقول الكاتب فيكتور هوجو “عندما يولد طفل، فإنّ العائلة تصفّق فرحاً”.
أما عندما تظهر العذراء فالعائلة (الكنيسة) لا تصفّق، بل تشعر بالانزعاج وعدم الراحة!
الظهورات، بالتالي، هي المعضلة اللاهوتية الأقل دراسة علمياً، والأكثر خفية وإثارة للجدل.
وهناك أسباب جيدة وجدية تدعو إلى معارضتها. . عندما يستقطب الظهور عشرات الآلاف من الناس، كما هو الحال في فاطيما، لورد، وغيرها، فالحكومات والإدارة المدنية، تبقى في تأهّب وذلك طبيعي.. الحقيقة أن اجتماع حشود هائلة العدد يعطّل النظام العام.
مع ذلك، استمرت الظهورات في الكنيسة على مر القرون حتى اليوم، مع تكاثر لم يسبق له مثيل في الآونة الأخيرة. علاوة على ذلك، في العصر الحديث، العديد من الظهورات لها طابع نبوي، لا يمكن إنكارها تاريخياً وثقافياً، دائمة، وذات أهمية وخطورة…
غوادلوبي تعتبر من قبل المؤرخين كأساس الثقافة والحضارة المسيحية في العالم الجديد القارتين الامريكيتين. منذ ظهور العذراء في غوادلوبي أصبحت القارة الكاثوليكية تحتوي نصف المعمدين التابعين للكنيسة الرومانية.
ظهورات لا ساليت (1846) حرّكت الكثير من نفوس العظماء: البابا بيوس التاسع، أيّد الاعتراف بهذا الظهور، واعترف البابا ليون الثالث عشر ودعم ميلاني في محنتها، وفي منفاها. وأيضا قديسين كالقديس يوحنا بوسكو والقديس أنيبال دي فرانشا اللذان عاشا في زمن الظهور وشخصيات بارزة من القرن العشرين : آرثر ريمبو، ليون بلوي، جاك ماريتين، بول كلوديل ولويس ماسينيون.
لورد أعادت القيمة الى أولوية الفقراء وفقاً للإنجيل، في الوقت الذي تقاس فيه القيمة وفقاً للمدخول والماديات. كانت برناديت سوبيرو تنتمي إلى أفقر عائلة في المدينة: احتجزت الشرطة والدها لسبب وحيد هو أن “حالته البائسة” جعلته “يبدو مذنباً” بسرقة الدقيق من مخبز المدينة.
تنبأت فاطيما عام 1917 بنهاية الشيوعية والاضطهاد. كان لهذه الظهورات تأثير قوي على حياة الشعب المسيحي، على جميع المستويات.
حُدّدت طريق السكك الحديدية في جنوب فرنسا لتتناسب مع لورد.
خططت الحكومة الشيوعية اليوغوسلافية، التي عارضت بشكل جذري ظهورات مديوغوريه، لبناء مطار قريب من البلدة.
لورد هي نبع من الإبداع، قامت بتطوير رحلة المرضى الذين يصلوها بشكل منظّم وواسع، المرضى الذين يعانون من الشلل، والذين يعتمدون على غسيل الكلى ومرضى بالرئتين، والمكفوفين، والمجانين، وما إلى ذلك… مع فوائد هائلة، بواسطة الرعاية الطبية، فهي تؤمّن كل عام آلاف سيارات الإسعاف ، والممرضين، والأطباء.، وقد اكتسبت هذه الظهورات أيضا إثبات وتأكيد علمي.
أدى فحص الرؤاة، من خلال استخدام تخطيط كهربائي للدماغ، الذي استخدم لأول مرة في أوروبا في عام 1984 ثم في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، إلى إحداث ثورة في معرفة وجود النشوة الروحية والإنخطافات.
لورنتين هو أول من قام بتطبيقه عند اختباره لرؤاة مديوغوريه.
إن هذا التفاعل الجديد بين العلم المعاصر والظهورات، يدعونا إلى أن ننظر بشكل أكمل إلى الظهورات كظاهرة إنسانية، وليس مجرد ظاهرة طبية. ولكن أيضا نفسياً. فهي تتعلق أيضا في مجال التحليل النفسي، وعلم الاجتماع الديني، والإثنولوجيا والعقلية التاريخية.
في الوقت الحاضر، لا تُستبعد أي ظاهرة من الفحص العلمي، وينبغي التحقيق فيها على أكمل وجه ممكن.
أليس من الأفضل حل الاختلاف والتناقض بين أهمية الظهورات وقلة أهميتها أو حتى نفيها الذي نلاحظه؟
هذا الميل إلى تجنّبها، بسبب غموض الظاهرة، يجب التغلب عليه، وخاصة المعارضة الراديكالية في أيديولوجية الكنيسة والعالم.
(يتبع)
المصدر: الحركة المريمية في الأراضي المقدسة
لقراءة الخبر من المصدر: (إضغط هنا)