– بسبب هذا التّسامح واللاعنف لدى المسيحيين، بالغت حكومات غربيّة بالقدح بالكنيسة واضطهادها
بعض المفكّرين حتّى العرب ربطوا الدّين بالميثولوجيا أي الأساطير أو خلطوا بين الدّيانة والخرافات وشطّوا. وأخفق أحد الكتّاب السّوريّين إذ لم يميّز بين الخرافات وبين الأديان لأنّ هذه الأخيرة تدعو إلى مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وتنعش الضّمائر وتحييها بمخافة الله وتجعل للآخرة حسابًا، في حين أنّ الخرافات أو “الأساطير” (من الكلمة اليونانية “هستورياه”) تسرح في الخيال، وإن كانت لها أحيانا عِبَر ودروس عمليّة أخلاقيّة. وأحيانًا تعرض أمورًا مخزية عن شخصيات خياليّة، منها من هو –حاشى وكلا- من “المعبودات”، فتفسد الأخلاق بدل أن تحسّنها وتدهور البشر بدل أن تسمو بهم. وإذا رأى المرء مثلاً مغامرات “جيلجاميش” أو “أدونيس” أو “أوزيريس” لأدرك أنّ لا مقابلة بين الدين والأساطير.
كتب أحد المفكّرين: “الفلسفة تساعد الدّين في الابتعاد عن الخرافة والتطرّف”
على هذا المعدّل، لكي “يساعد” الفلاسفة الكنيسة أو الدّين، أفضل ألاّ يتركوهما بل أن يبقوا فيهما! فالذي يهجر بيتًا لا يصلحه، والّذي ينعزل عن مجتمع أو كنيسة لا يخدمهما!
“الخرافة” في المسيحيّة!
تعوّدنا ألاّ نتطفّل على الأديان الأخرى، تاركين لأهل مكّة الدّراية بشعابها. لذا، نقصر “دفاعنا” العقلانيّ على المسيحيّة، في هذا الشّأن أيضًا.
أيسوع النّاصريّ خرافة؟ يساعدنا التّاريخ –لا الفلسفة- في إثبات وجوده التاريخيّ كإنسان، بشهادات وثنيين ويهود، منهم فلافيوس يوسيفوس وإبلينيوس الكبير وتاشيتوس ومارا بار سيرابيون ووالي بيثينية إبلينيوس الصّغير وسواهم. وإذا قابلنا، بسرعة بين المسيحية واليهوديّة الحاخاميّة التلموديّة الربابينيّة، وجدنا البون الشّاسع وأقلّ قدر ممكن من التفاصيل “الخياليّة الأسطوريّة” في المسيحيّة، ولا سيّما في شأن أساطير الأولياء.
وبصراحة هناك غيبيّات في الدّين، وهنالك “ماورئيّات” في الفلسفة. ولكنّ العلم في أيّامنا يكتشف بعناصر حديثة غير متوقّعة إثباتًا لعقائد مسيحيّة منها الحمل البتوليّ بيسوع وقيامته من بين الأموات بعد دفنه. وهنالك فيديوهات علميّة، تعطي إثباتات ملموسة محسوسة لبعض تلك الوقائع حتّى المعجزة. وما يسمو على العقل لا يناقضه:
فثلاثة أرباع الأشياء التي نراها وجسم الإنسان نفسه مليء بالمعجزات التي يعجز عقلنا عن إدراكها، ولكن لا يقدر أن ينكرها ولا أن يفسّرها.
“التطرّف” في المسيحيّة!
عندما يتكلم زعيم سياسيّ، خصوصًا غربيّ، عن “مكافحة التطرّف”، هنالك عدة إشارات استفهام حول نواياه ومقاصده. ولكن عندما يتكلم زعماء دينيّون، يشعر كل إنسان نزيه بصدقهم وحسن نيّتهم. وعندما يأخذ بابا لاجئين غير مسيحيين معه في طيارته إلى إيطاليا، فقصده المودّة والمحبّة ونبذ التطرّف والتّعصّب. ومؤخّرًا أعلن البابا فرنسيس: “التطرّف الوحيد والتّعصّب الوحيد المقبول لدى الكاثوليكيّ هو الإفراط في المحبّة وفي الرّحمة!”
“تطرَّفَ” المسيح والإنجيل في اللّاعنف ومحبّة الأعداء والتسامح سبعين مرّة سبع مرّات. ولعلّ الحكمة الإسلامية والعربيّة تقول أن تحتسب أخاك بعد الزّلّة الأربعين. وبسبب هذا التّسامح واللاعنف لدى المسيحيين، استغل بعض المنشقين عن الكنيسة هذه الطّيبة وسعة الصدر على كل المستويات. وبالغت شعوب وحكومات غربيّة في القدح بالكنيسة والتشنيع عليها واضطهادها.
وإذا ردّ قوم أنّ “الكنيسة في العصور الوسطى حاربت وقتلت وأحرقت وغزت…”، فهذا تاريخ لا فلسفة، وهذا شيء “ماض” أو “ماضويّ” ما توقّفنا عنده بل وقف عنده وتحجّر أعداء الكنيسة متخلّفين متأخّرين أحد عشر قرنًا من الزّمان أو أقلّ. ولنفرض جدلاً بل لنقرّ أنّ العنف والحروب والاعتداءات تمّت، فقد كانت مخالفة للإنجيل، لذا تمّ إصلاحها وذهبت إلى غير عودة.
أمّا إذا كان بعض الفكّرين يلمحون – في اتهامهم للدين بالخرافة والتطرف- إلى أديان أخرى، فهذا ليس شأننا، مع أننا لا نعتقد أنهم يستهدفونها بنفس السهولة التي يهاجمون بها المسيحية. ونحن نرى هذه الخدعة نفسها عند بعض البدع الحديثة التي تدّعي “المسيحيّة” وتنتقد “الدّين بشكل عام” ولكن هدفها انتقاد المسيحيّة ولا سيّما الكنيسة الكاثوليكيّة.
المسيحيّة والكنيسة ليستا “ماضويّتين” كما يقول بعض القوم!
تتعلّم الكنيسة من الماضي الّذي منه الكتب المقدسة حاليّة المغزى (حسب إيماننا) والتقليد وخبرتها مدّة نحو ألفَي سنة، “والتّاريخ معلّم الحياة”. وتحاول الكنيسة أن تخدم الإنسان اليوم ولا تتردد الكثلكة، من منبرها في الفاتيكان وفي كلّ أبرشيّاتنا، أن “يكون لها في كلّ عرس قرص”، حتّى في الأمم المتّحدة، ولها دومًا كلمتها، شاءت البشريّة أن تسمعها أم لم تشأ. وتتطلّع الكنيسة إلى الآخرة، وهكذا لا تبقى أسرة الماضي ولا سجينة الحاضر لأنّ “صورة هذا العالم في زوال”. لذا، نعلن في “أومن بإله واحد”: “وأترجّى قيامة الموتى والحياة في الدّهر الآتي. آمين!”
والتّمسّك بالماضي والوقوف عنده هو “غباوة”.. أمّا “قانون التّغيير” فليس القانون الوحيد في الوجود، وإن كانت “الحياة في الحركة”، فهنالك ثوابت لا تتغيّر وفيها ديناميكيّة الوجود والعمل والإثمار.
خاتمة
صحيح أنّ هنالك مسيحيّين متطرّفين – ولا صلاحيّة لنا في الكلام عن غيرهم. وصحيح أنّ عددًا من “الخرافات” تسرّب إلى بعض المؤمنين السّطحيّين، مع أنّ الكنيسة باستمرار توضح وتنبّه وتحذّر. ويجب أن يرجع الإنسان إلى تعاليم الكتاب المقدس والكنيسة للحكم على وجود “خرافة” أو “اعتقاد باطل”، لا إلى معتقدات أو ممارسات أو تصرّفات فرديّة أو جماعات صغيرة أو كبيرة. فإذا أعتقد قوم أنّك ستنجو من الشّرور إذا نسخت صلاة سبع مرّات وأنّ المصائب ستنهال عليك إن لم تنسخها، فهذا ليس تعليم الكتاب المقدس ولا الكنيسة.
أمّا التّوهّم أن عقل الإنسان يستوعب المعمور ويكون اعلى سلطة وأعظم مرجع، فهذا عين “الخرافة والتّطرّف”!
المصدر: abouna.org
لقراءة الخبر من المصدر (إضغط هنا)