بقلم: العميد د. أمين محمد حطيط *
في لحظة حساسة فاجأ رئيس الوزراء التركي المعنيين بسلوك تركيا في سورية بإعلانه ان تركيا قررت وقف عملية درع الفرات في سورية، ما يوحي بأن تركيا قررت وضع حد لتدخلها العسكري المباشر وعبر الجيش التركي،
هذا التدخل الذي أطلقته تركيا بوقاحة وفجور عدواني ضد سورية فأقحمت جيشها ومعه بعض من مرتزقة وعملاء يسمون أنفسهم «جيش سورية الحر» أقحمته في سورية لتحقيق أغراض تركية، فما الذي حصل حتى تتخذ تركيا هذا القرار وما الذي تضمره أو تريده تركيا بعد هذا الإعلان؟
طبعا وقبل الإجابة فإننا لا نصدق ما بررت به تركيا قرارها لجهة الادعاء بأن المهمة نفذت وان الأهداف من العدوان تحققت وهو أمر وبدون شك يغاير الواقع، فالعدوان هدف أصلاً الى احتلال أرض سورية بمساحة 5000 كلم 2 يقيم عليها منطقة تديرها تركيا لتكون حزاماً أمنياً لها تحوله ورقة ابتزاز بيدها للتدخل في الشأن السوري، وطبعاً لم تنفذ ما أرادت ولم تقم المنطقة الأمنية ولم تعد أحداً من النازحين السورين إليها، وبالمقابل ووجهت بموقف سوري صارم يراها قوة معتدية محتلة لا يعترف لها بأي مكسب أو حق في الأرض السورية، موقف يعمل ميدانياً على محاصرتها لمنعها في مرحلة أولى من التوسع وفي مرحلة ثانية لإخراجها من سورية.
وهنا نسجل بأن المناورة العسكرية السورية الميدانية كانت ناجحة جداً وانتهت في أقل من شهر الى امتلاك السيطرة الكاملة على المنطقة من كويرس إلى شاطئ الفرات الغربي مروراً بدير حافر التي تعتبر في رمزيتها هامة جداً بالنسبة للإرهابيين. وبهذا القوس الميداني أقفل الجيش العربي السوري الطريق بوجه تركيا وأفرغ الوجود التركي في مدينة الباب من أي معنى تكتيكي أو استراتيجي ثم اكتمل المأزق التركي عندما منعت أميركا قوات درع الفرات من دخول منبج وقامت أميركا بنفسها بالسيطرة على المدينة لحماية «قسد» فيها.
وأمام هذا الواقع الذي شكل خيبة تركية مريرة ومع استمرار لا بل تصاعد الدعم الأميركي للأكراد في قسد رأت تركيا أن تلعب ورقة في العمق السوري تخرجها من مأزقها في الشمال فأطلقت موجات عدوان إرهابي انتحاري في شرق دمشق وريف حماة الشرقي تزامنا مع انعقاد جنيف 5 وكان واضحا من طبيعة الهجوم وكيفية تنفيذه أن من اتخذ القرار كان في وضع اليائس المقامر الذي يلعب ورقته الأخيرة أو يجرب حظه مرة أخيرة عله يحقق منها ما يعوّم وضعه أو يعوض عليه خسائره التي تراكمت على مدار ست سنوات من عمر العدوان على سورية.
لقد قامت تركيا وعبر إرهابيين تديرهم مباشرة أو بشكل غير مباشر بعمل أقرب الى العمليات العسكرية الانتحارية التي لا يمكن أن تنجح أولاً ولا يمكن أن تحتفظ بالنجاح إذا تحقق إلا في حالة واحدة هي تحقيق المفاجأة وتوجيه الضربة الصاعقة التي تدفع بالخصم الى اختلال توازنه وتدفعه للانهيار الشامل الذي يحول دون استعادة الوضع خاصة إذا شهر بوجهه بعد ذلك قرار وقف العمليات القتالية الذي تشارك تركيا فيه.
وفي الميدان كانت الخيبة الكبرى إذ أن الحسابات التركية لم تأت متوافقة مع ما أعدت سورية فعلياً في ميدانها دفاعياً ، وخلافاً لما تستطيع سورية وحلفاؤها تحشيده هجوميا، ولهذا كانت الكارثة الاستراتيجية التي لحقت بتركيا على الجبهتين، حيث أن الجيش العربي السوري والقوات الرديفة عملا بشكل فاق المتوقع من قبل المهاجمين أو حتى من المراقبين المحايدين، وكانت المفاجأة ليس في إفشال الهجوم وإعادة الحال الى ما كانت عليه كلياً في دمشق وشبه كلي في ريف حماه فحسب، بل في حجم الخسائر التي أوقعها في صفوف المهاجمين والتي أنتجت واقعاً مأسوي لهم، ينبئ بأن الهزيمة جاءت مضاعفة، تشمل إلى الفشل في تحقيق الهدف من الهجوم ، فقدان القدرة مستقبلاً على تكراره وهنا تكمن الهزيمة في بعدها الاستراتيجي.
وبعد هذه النتائج ومع الإصرار الأميركي على احتضان قسد رأت تركيا أن تتخذ الموقف الميداني الذي يعبر عن غيظها من أميركا وخيبتها من الميدان فاستبقت زيارة وزير الخارجية الأميركية اليها بالإعلان عن وقف عملية درع الفرات وكانت تأمل من هذا الموقف ابتزاز أميركا وحملها على المسارعة لإرضائها وللوقوف على رغباتها في سورية وتلبيتها من جهة، ومن جهة أخرى للتنصل من مسؤولياتها في مراقبة وتعهد وقف العمليات القتالية ولعب دور تخريبي مستتر في الساحة السورية ولهذا قال وزير الدفاع التركي إن الانسحاب من سورية ليس سريعاً.
لكن الحساب التركي أخطأ مرة أخرى وجاءت النتيجة عكسية عبر إعلان أميركي صاعق لتركيا ولكل مكونات العدوان الإقليمية، موقف شكل انقلاباً على كل ما أعلن ضد سورية خلال السنوات الست الماضية، حيث أكد الوزير الأميركي ومن تركيا بالذات «وجوب الاعتراف بان الرئيس الأسد هو الرئيس السوري الذي يجب أن يتم التعامل معه وأن موقعه يقرره الشعب السوري مستقبلاً، وبأن أولوية العمل في سورية يجب ان تكون لمحاربة الإرهاب»، والملفت في التصريح الأميركي الذي تكرر على لسان المندوبة الأميركية في مجلس الأمن أنه تزامن مع انعقاد القمة العربية بغياب سورية التي أقدمت الجامعة قبل 6 سنوات وخلافا لميثاقها على تجميد المقعد السوري فيها، وحتى تكتمل الخيبة التركية لحقت فرنسا بأميركا في موقفها وتراجعت عن مواقفها السابقة ضد الرئيس الأسد لتسير على الخطى الأميركية في أولوية محاربة الإرهاب والاعتراف بأن موقع الرئيس الأسد لا يقرره إلا الشعب السوري.
إننا نرى إن هذه التحولات في مواقف بعض الأساسيين من مكونات معسكر العدوان على سورية، جاءت نتيجة منطقية للفشل الميداني العدواني معطوفاً على تماسك وعزم في معسكر الدفاع عن سورية، معطوفاً على انحسار بقعة المواجهة مع الإرهاب نتيجة للإنجازات السورية المتتالية وبالتالي فإن الصمود السوري هو ما أدى الى هذا التحول وفرض هذه المواقف المعلنة الآن. ولكن يبقى السؤال متى يقرن القول بالفعل ويبدأ العمل الجدي في الميدان مواجهةً للإرهاب وفي السياسة دفعا للعملية السياسية؟
لا شك ان المواقف المعلنة التي ذكرت لها من الأهمية ما لا يمكن إغفاله أو تجاوزه ولكن أيضا لا يمكن الركون إليها كلياً، وخاصة وأن الغدر والانقلاب سمة من سمات أصحابها، لذلك نرى وعلى أهمية تلك المواقف، نرى أن يستمر العمل في الميدان وفي السياسة على حد سواء بما يحافظ على مستوى الزخم والضغط الذي قاد الى هذه المواقف، وخاصة أن النوايا الأميركية في بلورة كيان كردي في الشمال الشرقي السوري وتثبيت القواعد العسكرية الأميركية فيه نوايا واضحة كما أن السلوك الأميركي الأخير في إدلب يثير الريبة الشديدة.
إن معسكر الدفاع عن سورية الذي يعتبر نفسه حقق الكثير من أهدافه الدفاعية، لا يمكنه أن يطمئن لمواقف مكونات العدوان ولا يمكنه التعامل مع أقوال لا تقترن بالأفعال ، وصحيح أن ما أعلن يشكل تراجعاً لا بل انقلاباً على اهداف العدوان الاصلية ، إلا أن تنفيذه يبقى هو الأهم، وعليه فإن على كل من يريد أن يحارب الإرهاب أن يقر بالحقيقة القاطعة بأن في سورية حكومة شرعية بقيادة رئيس منتخب وهو من أوكل إليه الشعب المسؤولية، وان قواعد السيادة الوطنية تفرض العمل مع هذه الحكومة على الأرض السورية وعدم تجاوزها في صغيرة او كبيرة وان كل وجود اجنبي على الأرض السورية دون موافقة الحكومة السورية يعتبر عدواناً واحتلالاً، ويتم التعامل معه على هذا الأساس.
إن سورية تدرك جيداً أن صمودها الأسطوري فرض على الآخر تغيير مواقفه منها، كما تعلم جيداً أن دفاعها المتعدد الأشكال عملاً وممارسةً واجب استمراره حتى تستعيد الأمن والاستقرار في كل ربوعها، وهي لن تخدع بموقف لفظي رغم أنها تعلم أن هذا الموقف ليس تبرعاً بل نتيجة أملتها القوة الدفاعية التي امتلكتها ذاتياً وتحالفياً، ولكن مهما كان من أمر يبقى للمواقف تلك دلالة لا بد من التوقف عندها وهي أن معسكر العدوان بدا يقر بالهزيمة في سورية وراح الآن يبحث عن أوراق ضغط لتحسين مواقعه في التفاوض ولهذا تصر أميركا على احتضان قسد في معركة الرقة وتسعى الأن لتشكيل قوى مماثلة لخوض معركة إدلب بوجه جبهة النصرة، وهي تحت شعار محاربة الإرهاب تريد السيطرة على أوسع مساحة من الأرض السورية حتى تفرض رؤيتها في الحل السياسي بالقدر الأعلى، ولهذا تبقى الأهمية الملحة لقطع الطريق على أميركا في مسعاها الجديد… فالحرب في فصلها الأخير.
* استاذ جامعي وباحث استراتيجي – لبنان
المصدر: الثورة
لقراءة الخبر من المصدر (إضغط هنا)