يواصل الجيش السوري تقدمه السريع في ريف حلب الشرقي في سباق مع الزمن، يبغي من خلاله الدخول على خط المعركة الكبرى في الرقة، فيما يبدو أن جهود أنقرة باتت محصورة في الحصول على «جائزة ترضية» في مناطق «غرب الفرات». ورغم أن ذلك يعني تسليم تركيا بخسارة استراتيجية كبيرة، لكنه في الوقت ذاته يشكل مصدر خطر عبر السعي إلى تجذير الاحتلال التركي لأجزاء واسعة من التراب السوري. السعي إلى تحصيل «الترضية» المنشودة يسير بوتيرة متسارعة عبر خطوط تواصل ساخنة، أوضح مظاهرها حتى الآن «اجتماع أنطاليا»
-صهيب عنجريني
دمشق لا تشعر بأي قلق
معارك الشرق السوري محكومةٌ بالتفاهمات الكبرى. وسواء كانت هذه الحقيقة نتيجةً لازدياد التعقيدات الميدانيّة وتشابك خطوط التماس، أم كانت سبباً لها، فالثابت أنّ تلك الخطوط باتت تُرسم بدقّة على الورق قبل أن تجد طريقها إلى التطبيق الميداني. ويمكن القول إنّ معركة الأحياء الشرقيّة لحلب كانت بمثابة منعطفٍ قاد الحرب إلى مرحلتها الراهنة.
وبدت الصورة أشدّ وضوحاً في معارك منطقة الباب، التي استمرّت لفترة طويلة مدار تجاذبات أفضت آخر الأمر إلى ترسيم خطوط التماس بشكلها الراهن. ورغم الضجيج المتزايد أخيراً حول منطقة منبج (ريف حلب الشرقي) يبدو جليّاً أنّ صراع المصالح وراء الكواليس يرتبط في واقع الأمر بما هو أبعد منها، وعلى وجه التحديد بمعركة الرقّة. الاجتماع الذي عقده رؤساء أركان روسيا والولايات المتحدة وتركيّا أمس، من دون إعلان مُسبق، لا يعدو كونَه أوضح مظاهر ترسيم الخطوط ووضع «المصالح على الطاولة». وتؤكد المعطيات المتوافرة أنّ الاجتماع المذكور جاء بمثابة تتويج لسلسلة اتصالات مفتوحة عبر خطوط تواصل ساخنة لم تهدأ على مدار الأسبوعين الأخيرين، وليس من المتوقّع لها أن تهدأ قبل حسم سيناريو معركة الرقّة العتيدة وكل ما يرتبط بها. لا معلومات رسميّة عمّا شهده الاجتماع، وهذا أمرٌ طبيعي في حالات مماثلة، لكنّ مصدراً سوريّاً رفيع المستوى يؤكّد أنّ «دمشق لا تشعر بأي قلق».
ويقول المصدر لـ«الأخبار» إنّ «الطمأنينة تستند إلى عاملين أساسيّين: أوّلهما ما يدور في الميدان، وثانيهما الثقة بالحلفاء». ويأتي كلام المصدر بالتزامن مع تقدم الجيش شرقاً واقترابه من الحدود الإداريّة للرقّة، في سباق مع الزمن. ورغم أنّ «قوّات سوريا الديمقراطيّة» بحساب الجغرافيا هي الأقرب إلى معاقل تنظيم «داعش»، غيرَ أنّ تقييم الأمور في حسابات دمشق يؤكّد أنّ «الجيش لن يكون غائباً عن المعركة الكبرى (المقصود معركة الرقة)».
ورغم أن حظوظ أنقرة في حجز مقعد لها في المعركة الموعودة تبدو شبه منعدمة، غير أنّها ما زالت تعمل على استثمار ربع الساعة الأخير بغية تحصيل المكاسب.
باتت سيطرة الجيش على نقاط استراتيجية أخرى مسألة وقت
وبدا لافتاً ما نقلته وكالة «رويترز» أمس عن «مسؤول تركي كبير» لم تسمّه، حول مضيّ الولايات المتحدة في رهانها على «قسد» بشأن معركة الرقّة. وليس من المتوقّع أن تركن تركيا ببساطة إلى خروجها «صفر اليدين» من المعمعة التي انخرطت فيها بشكل مباشر منذ آب الماضي، وأفضت إلى احتلالها مناطق عدّة من الجغرافيا السوريّة، وهو في الوقت نفسه لا يبدو خياراً وارداً في حسابات موسكو وواشنطن اللتين تحرص كلّ منهما على استمرار ربط أنقرة بها. ويبدو السؤال ملحّاً عن «جائزة الترضية» التي قد تحصل عليها أنقرة عبر تفاهمات مع الطرفين. ويبرز في هذا الإطار عنوانان مترابطان، أوّلهما «خروج قسد من غرب الفرات»، وثانيهما «المناطق الآمنة».
ورغم أنّ خطوط التماس المرسومة في الوقت الراهن تضع حدّاً لأي «تمدّد» جديد لـ«درع الفرات»، غير أن مقترح «المناطق الآمنة» في حال حصوله على الغطاء المطلوب سيكون كفيلاً بتجذير الاحتلال التركي لمثلث «الباب، جرابلس، أعزاز». وثمّة عوائق كبيرة تحول بين «المناطق الآمنة» ووضعها موضع التنفيذ في المدى المنظور، لكنّ هذا لا يعني أن المقترح سيطوى بشكل نهائي. ويختلف الأمر في ما يتعلّق بخروج قوّات «قسد» من منبج، رغم تأكيد مصادرها أنّ «هذا الخيار غير وارد».
ومن المفيد التذكير بأن إخلاء «قسد» لمنطقة جرابلس كان قد مرّ عبر سيناريو قابل للتكرار في منبج: إصرارٌ على التمسّك بالمنطقة، ثمّ إخلاء لها بضغط أميركي مباشر. لكن الجديد في حالة منبج سيكون في الجهة التي ستبسط سيطرتها عليها في ما لو انسحبت «قسد» منها. وفيما تؤكّد بعض المصادر أنّ تكرار سيناريو ريف منبج الغربي واردٌ في ما يتعلّق بالمدينة نفسها، ترجّح معلومات غير رسميّة أنّ المدينة في طريقها إلى التحول «منطقةً دوليّة» غير معلنة. وتقول المعلومات إن زمام المدينة سيتسلّمه ظاهريّاً «مجلسٌ محليّ» لا صلة له بـ«مجلس سوريا الديمقراطيّة»، فيما يبسط الجيش السوري وحلفاؤه سيطرتهم على أجزاء واسعة من ريفيها الجنوبي والغربي، وتوطّد القوات الأميركيّة حضورها في ريفها الشمالي المحاذي لجرابلس. لكنّ شرفان درويش، المتحدث الرسمي باسم «مجلس منبج العسكري» (أحد مكوّنات «قسد»)، أكّد أنّ «هذا السيناريو ليس مطروحاً على الإطلاق». وقال درويش لـ«الأخبار» إنّ «ما حرّرناه يُدار من قبل أبنائنا، ولن يكون هناك واقعٌ مغاير لهذا الكلام».
وجرياً على ما دأبت عليه مصادر «قسد»، أظهر درويش ثقة كبيرة بالتحالف الدولي، وقال «على امتداد عامين من التنسيق المستمر فشلت كل محاولات تركيا في التشويش على العلاقة بيننا وبين التحالف، وستفشل مجدداً، رغم أنها مستعدة لتقديم كثير من التنازلات لكل الأطراف في سبيل عرقلة المشروع الديمقراطي الذي نمثّله». في الوقت نفسه، قال المتحدث إنّ التنسيق مع الدولة السورية يتم «حصراً عبر موسكو، ولا يوجد صفقات مع النظام».
وأضاف «إذا دقّت ساعة الحل السياسي في كل سوريا، فسنكون حتماً جزءاً من هذا الحل». درويش أكّد أيضاً التزام «مجلس منبج العسكري» بخطوط التماس المتّفق عليها، وقال «بوصلة قوّاتنا هي محاربة الإرهاب، ولن نهاجم أحداً خارج هذا الإطار، لكنّنا سندافع بقوّة ضدّ كل من يفكّر في مهاجمتنا »، كذلك حرص على الإشارة إلى أنّ «مجلسنا ليس الوحيد الملتزم بخطوط التماس مع النظام، هناك أيضاً خط تماس متوافق عليه بين «درع الفرات» والجيش، ولا يبدو أن أحدهما سيهاجم الآخر».
ويأتي كلام الناطق في وقت يشهد دخول مناطق جديدة على قائمة «خطوط التماس» بين الجيش السوري و«قسد». وكان ريف منبج الجنوبي على موعد أمس مع سيطرة الجيش على بلدة دخيرة التي شكلت خط تماس جديد بين الطرفين، وواصل الجيش عبرها انطلاقته نحو الخفسة التي انضمّت تالياً إلى المناطق التي حررها الجيش من «داعش». وباتت سيطرة الجيش على نقاط استراتيجية أخرى مسألة وقت لا أكثر، ومن بينها مطار الجرّاح العسكري (كشيش) ودير حافر ومسكنة. وتتمحور المكاسب الاستراتيجيّة المتوخاة من كل هذه التطورات حول شق مسار يسلكه الجيش السوري نحو مدينة الطبقة في ريف الرقة الجنوبي بمحاذاة بحيرة الأسد.
وتتيح السيطرة على مسكنة قضماً سريعاً لمجموعة قرى وبلدات صغيرة بمثابة حدود إدارية بين ريفي حلب والرقة (مثل حطين وسموقة وفخيخة).
-الأخبار-