“منعطي الأرض تَتِرجَع تعطينا” – هكذا تصف دنيا باسيل، المهندسة الزراعية ومُؤسِسة شركة “جذورنا”، علاقتها التبادلية المتينة بأرضها.
لم تتوقع دنيا أنّ تلك الاستمارة الإلكترونية التي عملت على استيفاء بياناتها للتأهّل للمشاركة بإحدى دورات وكالات الأمم المتحدة في مجال المحاسبة وإدارة الأعمال، ستكون بمثابة نقطة تحوّل في مسيرتها المهنية. دُنيا التي بدأت مشروعًا متواضعًا وكانت تفتقر إلى مهارات التصنيع ومعدّات ملائمة تحفّزها على المضي في صناعة منتجاتها العضوية، أصبحت اليوم واحدة من منتجي المواد الغذائية النباتية في لبنان.
فمَن يقف وراء مؤسسة “جذورنا”؟
دُنيا مهندسة زراعية متمرّسة في صناعة المونة. طوّرت منتجات عديدة واستحدثت مفهوم تجفيف الفاكهة وأسّست “جذورنا” – وهي شركة صغيرة ومتوسطة الحجم تُديرها بنفسها بمساعدة شقيقها؛ تتخذ من منطقة سمار جبيل موقعًا لها وتهدف إلى تطوير منتجات مونة نباتية وعُضوية وأخرى خالية من الغلوتين.
بمثابرتها وتصميمها، أحيَت دُنيا تاريخ أجدادها في أساليب صنع المونة اللبنانية وأضافت لمستها العصرية الخاصة التي تواكب متطلبات السوق حالياً. “أريد أن أحافظ على طريقة أجدادي في صنع المونة وأضعها بقالب حديث“. وكان ذلك من خلال استحداثها لنوع جديد من المونة، على سبيل المثال لا الحَصر الكشك الخالي من الغلوتين، مستخدمةً المعدّات المُقدّمة من الأمم المتحدة والمهارات والمعارف المكتسبة خلال الدورات التدريبية التي شاركت فيها ضمن برنامج الأمم المتحدة لتنمية القطاع الإنتاجي في لبنان. وهو برنامج تنفذه ستّ وكالات أممية في لبنان هي منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو)، منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، منظمة العمل الدولية، هيئة الأمم المتحدة للمرأة، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، بدعمٍ من الحكومة الكندية المرصود ضمن صندوق إنعاش لبنان للتعافي.
دعمٌ أمميٌ لإنقاذ الشركات الصغيرة في ظل الأزمات
كانت دنيا تفتقر إلى معدات ومواد زراعية وصناعية مناسبة وموارد مالية تساعدها على مواصلة وتوسيع نطاق عملها في مجال الزراعة والصناعات الغذائية العضوية. “عندما بدأت مسيرتي في مجال الزراعة والتصنيع الغذائى عام 2010، لم يكن لدي أي رأس مال؛ فاقترضت مبلغًا بسيطًا من المال لم يكفني سوى لتسجيل مؤسستي“.لكن بشغفها وتصميمها، وبدعم الأمم المتحدة لها عبر برنامج تنمية القطاع الإنتاجي، تركّزت أكثر بأرضها في سمار جبيل وأصبحت تزرع وتصنّع فيها بمساعدة خمس نساء وظّفتهنّ بدوام كامل أو جزئي لمساعدتها على إتمام عملها الزراعي والإنتاجي. والجدير بالذكر أنّ دُنيا تعمل على توزيع منتجاتها في منطقة سمار جبيل كما تبيع بضاعتها في أربع متاجر مختصة بالمنتجات العضوية في كلٍّ من مدينة بيروت، ومدينة جونية، ومدينة جبيل.
جاء الدعم الأممي لدُنيا في إطار هذا البرنامج في وقتٍ كان لبنان يرزح تحت وطأة أزمة كورونا وأزمة إقتصادية ومالية لم تشهدها البلاد من قبل. فبات برنامج تنمية القطاع الإنتاجي في لبنان، بمشاركة الهيئات الأممية المعنية وشركائها المحليين، من وزارات وشركات خاصة ومنظمات مجتمع مدني، بمثابة ملاذ آمن للمزارعين والمؤسسات الصغيرة الحجم القائمة في لبنان لتحسين قدراتهم على الانتاج والتصنيع الزراعي واعتماد ممارسات زراعية صديقة للبيئة.
“هذا البرنامج الإنمائي المشترك للأمم المتحدة، الذي تم تمويله بسخاء من شريكنا الدائم كندا، يأتي في وقتٍ تزداد فيه المخاوف بشأن الأمن الغذائي في لبنان وفي ظلّ الأزمة الاقتصادية المستمرة، مما يجعل الوصول إلى التمويل أمراً صعباً، واستيراد المواد الخام مُكلف للغاية، ويعطّل العمليات التجارية.” يقول عمران ريزا، نائب المنسقة الخاصة للأمم المتحدة والمنسق المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في لبنان. “خلال زياراتي الميدانية، رأيتُ بنفسي كيف يقدّم هذا البرنامج طُرقاً مستدامة جديدة لممارسة الأعمال التجارية، في مقدّمتها النساء. فقد ساعد البرنامج أيضاً الشباب والشابات على إطلاق العنان لإمكاناتهم في الأعمال التجارية من خلال تعزيز إنتاجهم المحلي وتحفيز إنتاجيّتهم عبر تطبيق تقنيات حديثة واعتماد ممارسات صديقة للبيئة.”
إنّ دعم الأمم المتحدة لدُنيا لم يقتصر على الدورة التدريبية الأولى حول المحاسبة وإدارة المنشآت فحسب، بل تخطّى ذلك ليضمّ دورات تدريبية أخرى منها تلك المتعلقة بتقنيات تجفيف الفواكه والخضروات، ومهارات التصدير، بالإضافة إلى سُبل الترخيص الذي سمح بتسجيل مؤسستها لتنال رخصة صناعية من وزارة الصناعة بمساعدة منظمة اليونيدو. وتعزيزاً لمهاراتها الإدارية، شاركت دُنيا أيضاً في تدريبات مُتخصّصة حول ريادة الأعمال وكيفية طرح فكرة عمل التي تُوّجت بمَنحها جائزة أفضل شركة بيئية من منظمة العمل الدولية ودعمها بتدريبات هادفة إلى حُسن استخدام المنحة وسُبُل مراقبة جودة منتجاتها.
وأكثر ما ساعد دُنيا على تطوير عملياتها الزراعية كانت التدريبات الفنية التي نفّذتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) حول الممارسات الزراعية الجيدة ضمن “المدارس الحقلية للمزارعات والمزارعين” ودعمها بالمدخلات الزراعية ومعدات الحماية الزراعية الشخصية التي تمكّنها من تطبيق هذه الممارسات. وضمن إطار هذا البرنامج، تساعد المنظمة دُنيا على نيل شهادة الزراعة العضوية التي تراعي مواصفات الاتحاد الأوروبي (رقم 2018/848) لكلّ من منتجاتها الزراعية وصناعاتها الغذائية مما يمكّنها من دخول الأسواق وتصريف إنتاجها.
وبما أنّ تمكين النساء هو في صلب غايات البرنامج، قدّمت هيئة الأمم المتحدة للمرأة، مجموعة من التدريبات التي استفادت منها دُنيا إلى جانب سيّدات أعمال أخريات اكتسبَن من خلالها مهارات قيادة الأعمال والإدارة والثقة بالنفس وحلّ النزاعات والاستجابة لحالات التحرّش الجنسي في أماكن العمل.
“تتمتع النساء في القطاعات الإنتاجية في لبنان بإمكانيات ملحوظة، وتهدف كندا بالتعاون مع شركائها إلى دعم المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر التي تقودها النساء في لبنان، سواء على المستوى الفني أو المالي، بهدف تمكينهنّ من إطلاق العنان لقدراتهنّ وتحقيق أهدافهنّ،” يقول رئيس التعاون الإنمائي في سفارة كندا، السيد جيمي شنور. “تدعم كندا مشاركة النساء في المجال الاقتصادي في لبنان منذ أكثر من خمس سنوات، وتفتخر بالإنجازات التي تحققت حتى الآن ضمن برنامج تنمية القطاع الإنتاجي في لبنان.”
من إنتاج صنفين إلى إنتاج حوالي 40 صنفًا فبناء صداقات جديدة
لم تُخفِ دنيا أنها واجهت في البداية تحديات مختلفة، منها تَلف الإنتاج لأنها كانت تفتقر إلى مواد حافظة وكذلك في ظلّ غياب التشجيعٍ من محيطها. هذا وكانت متضرّرة إلى حدٍّ ما من منافسة المنتجات الأجنبية لمنتجاتها. لكنها وعلى الرغم من ذلك، ثابرت في عملها، وعززت قدراتها الفنية، وتحدّت محيطها الذكوري واستمرت في تطوير منتجاتها وتوسيع نطاق عملها.
وانعكس ذلك على مستوى ومعدّل إنتاج مؤسسة “جذورنا” وجودة منتجاتها. “لقد بدأتُ في عام 2010 بإنتاج صنفين من المونة والآن أصبحت أنتج حوالي 40 صنفًا”، تقول دنيا وشعور الفخر يَحدوها. وتفسّر قائلةً: “بفضل هذا البرنامج لم أعد بحاجة إلى زيارة غرفة التجارة والصناعة في طرابلس لاستئجار المعدات“، ذلك أنّ الأمم المتحدة قد زوّدتها بالمعدات اللازمة، في حين ابتكرت هي بنفسها بعض الأساليب التي تسهّل عملها، كأسلوب تجفيف المواد الغذائية المستخدمة في صناعة المونة.
وبالإضافة إلى المهارات التي اكتسبتها دُنيا من دورات التدريب، تؤكّد أنّ تبادل الخبرات والمعرفة مع مشاركين ومشاركات آخرين قد عاد عليها بالمنفعة في شتى المجالات. “بَنيتُ صداقات مع نساء أخريات مستفيدات من فعاليات البرنامج، حتى أننا بُتنا نشتري من بعضنا البعض المواد الأولية“، تؤكّد دُنيا. كما انعكس أثر هذه الدورات على طريقة عملها إذ اكتسبت المعرفة التي مكّنتها من فهم السوق بصورة أفضل وسُبُل المنافسة وكيفية التسعير، إلى جانب احتساب الكلفة والمبيع.
وبحسب دُنيا، ساهمت الدورات التدريبية أيضاً في تعزيز ثقتها بنفسها، لاسيما عندما نالت جائزة عن أفضل مشروع صديق للبيئة ضمن “تجربة سيدات الأعمال مالكات المشاريع” التي نظّمتها منظمة العمل الدولية في سياق هذا البرنامج والهادفة إلى تشجيع ريادة الأعمال في بعض المناطق الأكثر حرماناً في لبنان.
“الإرادة سبيل النجاح”
تُؤكد دنيا أن إصرارها وعزيمتها لن يتوقفا بل العكس تماماً. ستواصل التقدم والعمل على منتجات جديدة مُعربةً عن امتنانها لدعم الأمم المتحدة التي لا تلبث تتابعها عن كثب وتحفّزها باستمرار على المضي قُدُماً. “إن السبيل إلى نجاح المشاريع هو الإرادة الصلبة وبالتالي أتوجّه إلى جميع النساء اللواتي تراودَهنّ فكرة مشروع أن يأخذن زمام المبادرة وألا يخفن من المجازفة“.
إنّ مسيرة دُنيا المُلهمة تقدّم مثالًا عن كيفية مساهمة برنامج الأمم المتحدة لتنمية القطاع الإنتاجي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي التزم لبنان من بين دول أخرى على تنفيذها بحلول العام 2030. كما تبرهن مسيرتها أثره في تمكين النساء، كدُنيا وغيرها من المستفيدات اللّواتي أصبح لمنتجاتهنّ مكانة في السوق اللبناني، وبالتالي مساهمته في دعم القطاعات الإنتاجية في لبنان، مما يخدم مسار تحقيق تعافي لبنان الاقتصادي.
“إلى كل النساء اللواتي لديهنّ مشاريع أو حتى أفكار مشاريع، بادِرن ونفّذنَ أفكاركنَّ لأنّكنّ بالطبع ستَصِلنَ إلى مبتغاكُنَّ” – تختم دُنيا بعزمٍ وثقة.