تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل القديس يوحنا البشير ٧: ٣٧-٤٤
٣٧ وَفِي اليَوْمِ الآخِرِ العَظيم مِنَ العيدِ وَقَفَ يَسوع وَصاحَ قائِلًا: “إنْ عَطِشَ أحَدٌ فَليَأْتِ إلَيَّ وَيَشْرَبْ.
٣٨ مَنْ آمَنَ بي فَكَما قالَ الكِتابُ: سَتَجْري مِنْ جَوْفِهِ أَنْهارُ مَاءٍ حَيٍ”.
٣٩ وَإنَّما قَالَ هذا عَنِ الرّوحِ الذي كانَ المُؤْمِنونَ بِهِ مُزمِعونَ أَنْ يَقْبَلوهُ، إذْ لَمْ يَكُنْ الرّوحُ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لِأنَّ يَسوعَ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ مُجِّدَ.
٤٠ وَإنَّ قَوْمًا مِنَ الجَمْعِ لَمَّا سَمِعوا كَلامَهُ قالوا: هَذا فِي الحَقيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ،
٤١ وقالَ آخَرونَ هذا هُوَ المَسيحُ. وقالَ آخَرونَ ألَعَلَّ المَسيحَ يأتي مِنَ الجَليلِ،
٤٢ ألَمْ يَقُلِ الكتابُ: “إنَّهُ مِنْ نَسْلِ داوُدَ وَمِنْ قَرْيَةِ بَيْتَ لَحْمَ، حَيْثُ كانَ داوُدُ يَأتي المَسيحُ.
٤٣ فوقعَ بينَ الجَمْعِ شِقاقٌ مِنْ أجلِهِ. ٤٤ وَكانَ أُناسٌ مِنْهُمْ يُريدونَ أنْ يُمْسِكوهُ، ولكِنْ لَمْ يُلْقَ أحَدٌ عليهِ يَدًا.
“وفي اليوم الأخير العظيم من العيد،
وقف يسوع ونادى قائلاً: إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب”. (37)
الذين التصقوا بموسى النبي شربوا ماءً من الصخرة في البرية حيث كانت الصخرة تتبعهم وتفيض عليهم بما يرويهم، أما من يؤمن بالسيد المسيح فيحمل الصخرة في داخله، وينطلق الفيض لا من الخارج بل من بطنه، أي من إنسانه الداخلي حيث يُقام ملكوت الله.
يدعو اليهود الماء الجاري ماءً حيًا، لأنه دائم الحركة، لن يتوقف عن الحركة. هكذا إذ يوجد السيد المسيح في القلب يتمتع المؤمن بنعمة فوق نعمة، تفيض هذه النعم على من هم حوله (أم ١٠: ١١). فلا يكفينا أن نشرب من المجرى الذي في داخلنا، لنستريح بالنعمة الإلهية المعطاة لنا، وإنما يلزم أن يفيض هذا المجرى الداخلي ليروي الكثيرين. الأرض الجافة المقفرة ليس فقط تتحول إلى فردوسٍ، وإنما تفيض بمياهها على نفوس جافة كثيرة لتشاركها الطبيعة الفردوسية الجديدة.
في اليوم الأخير من العيد وقف السيد المسيح يقدم دعوة للشعب العائد إلى بيوتهم، قدمها علانية مناديًا بصوتٍ عالٍ. في الأيام الأولى للعيد يقدمون ذبائح من أجل السبعين دولة في العالم، أما اليوم الأخير فمخصص لإسرائيل وحده. لهذا كان اليوم الثامن يُحسب “العظيم”، له تقديره الخاص.
إنه لا يقول: “يجب أن تشربوا، يجب أن تجروا، أردتم أو لم تريدوا”، بل من كان راغبًا وقادرًا على الجري والشرب، فسيغلب ويرتوي.
القديس جيروم
إنه ليس بالأمر التافه أننا نقرأ أن نهرًا ينبع من عرش اللَّه، إذ تقرأون كلمات الإنجيلي يوحنا في هذا الفحوى: “وأراني نهرًا صافيًا من ماء حياة لامعًا كبلّورٍ خارجًا من عرش اللَّه والخروف. في وسط سوقها، وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتيّ عشر ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها، وورق الشجرة لشفاء الأمم” (رؤ 1:22-2). هذا بالتأكيد النهر الصادر عن عرش اللَّه، أي الروح القدس الذي يشرب منه من يؤمن بالمسيح كما قال المسيح نفسه (37-38).
القديس أمبروسيوس
إذ ينتهي الأمر بأن يكون على المرء أن يأخذ كل شيء من داخل النهر أو الوادي، وأن يتهلل بذلك، نقول أن ربنا يسوع المسيح يُقارن بنهرٍ، فيه نجد كل مسرة وتمتع في الرجاء، وفيه نفرح فرحًا روحيًا إلهيًا.
القديس كيرلس الكبير
إن كنا عطشى فلنأتي، لا بأقدامنا بل بعواطفنا. لنأتي لا بالتحرك من موضعنا بل بالحب. بالرغم من أنني حسب الإنسان الداخلي من يحب يتحرك أيضًا من مكانٍ؛ من غيَّر مكانه يهجر بجسده ذلك بحركة القلب. إن كنت شيئًا ما وكنت قبلاً تحب شيئًا آخر فأنت الآن لست في ذات الموضع الذي كنت فيه.
القديس أغسطينوس
إن الروح بالرغم من اتحادها مع اللّه فهي لا تشعر بملء السعادة بطريقة مطلقة. كلما تمتعت بجماله زاد اشتياقها إليه.
إن كلمات العريس روح وحياة (يو 24:5)، وكل من التصق بالروح يصير روحًا. كل من التصق بالحياة ينتقل من الموت إلى الحياة كما قال الرب.
وهكذا فالروح البكر تشتاق دائمًا للدنو من نبع الحياة الروحية. النبع هو فم العريس الذي تخرج منه كلمات الحياة الأبدية. إنه يملأ الفم الذي يقترب منه مثل داود النبي الذي اجتذب روحًا خلال فمه (مز 131:118). لما كان لزامًا على الشخص الذي يشرب من النبع أن يضع فمه على فم النبع، وحيث أن الرب ذاته هو النبع كما يقول: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب” (يو 37:7)؛ لذلك فإن الأرواح العطشانة تشتهى إن تضع فمها على الفم الذي ينبع بالحياة، ويقول: “ليقبلني بقبلات فمه” (نش 2:1).
من يهب الجميع الحياة ويريد إن الجميع يخلصون يشتهى أن يتمتع كل واحد بنصيب من هذه القبلات، لأنها تطهر من كل دنس.
يلزمنا أن نفكر بعمقٍ في الكلمات المقدسة بالنشيد: “هلمي معي من لبنان، هلمي معي من لبنان انظري من رأس أمانة، من رأس شنير وحرمون، من خدور الأسود من جبال النمور” (نش 8:4).
ماذا نفهم إذن من هذه الكلمات؟
يجذب ينبوع النعمة إليه كل العطشى. وكما يقول الينبوع في الإنجيل: “إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب” (يو 37:7).
لا يضع المسيح لهذه الكلمات حدودًا لعطشنا ولا لتحركنا نحوه/ ولا لارتوائنا من الشرب، ولكن يمتد أمره إلى مدى الزمن، ويحثنا أن نعطش وأن نذهب إليه. وإلى هؤلاء الذين ذاقوا وتعلموا بالتجربة أن اللّه عظيم وحلو (مز 8:34)، فإن حاسة الذوق عندهم تُصبح حافزًا لزيادة التقدم. لذلك فالشخص الذي يسير باستمرار نحو اللّه لا ينقصه هذا الحافز نحو التقدم.
إذا أردنا أن نسوق شاهدًا أعظم من الكتاب المقدس نسجل ما قاله السيد المسيح إلى هؤلاء الذين آمنوا به: أنهار ماء حي ستفيض من كل من يؤمن به “من آمن بي كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حي” (يو 38:7). وتُضيف أن القلب النقي يُشار إليه بالتعبير “بطن”. ويصبح لوح للشريعة المقدسة (رو 15:2) كما يقول الرسول. ويوضح تأثير الشريعة المكتوبة في القلب ليس بحبرٍ (2 كو 3:3)، ولكن بروح اللّه الحي الذي يرسم هذه الحروف في النفس، وليس على ألواح حجرية كما يقول الرسول، ولكن على لوح القلب النقي، الخفيف والمضيء.
يلزم أن تُنقش الكلمات المقدسة الموجودة في الذاكرة النقية الصافية، على القدرة القائدة للنفس، بحروف بارزة واضحة. تُشير الزفير في الحقيقة إلى تمجيد بطن العريس فقط باللوح الذي يشع نورًا بلون السماء.
ترشدنا هذه الصورة لكي نكون متنبهين للأشياء السماوية، مكان كنزنا (مت 21:6). فإذا ثبتنا في حفظ وصايا اللّه تتكون لدينا آمال مقدسة تنعش عيون نفوسنا.
بعد ذلك يرفع النشيد العروس إلى أعلى قمة للمجد، مُضفيًا عليها اسم ينبوع المياه الحيّة المتدفقة من لبنان. لقد تعلمنا من الكتاب المقدس عن طبيعة اللّه المعطية للحياة كنبوة من شخص اللّه تقول: “تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة” (إر 13:2). ثم يقول السيد المسيح للمرأة السامرية: “أجاب يسوع وقال لها، لو كنت تعلمين عطية اللّه، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماء حيّا” (يو 10:4). ثم قال: “إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو 37:7-39).
تقول كل من هذه الفقرات أن الماء الحي هو الطبيعة المقدسة، لذلك جاز للنشيد أن يسمى العروس بصدق بئر ماء حي يفيض من لبنان. هذا في الحقيقة يتعارض مع ما هو معروف، فجميع الآبار تحتوى مياه ساكنة، والعروس وحدها عندها مياه جارية في بئر عميق، ومياهها تفيض باستمرار.
من يقدر ويستحق أن يفهم العجائب الممنوحة للعروس؟ يتضح أنها قد وصلت إلى أقصى ما تتمناه، فقد قورنت بالجمال الأبدي الذي منه نشأ كل جمال. وفي نبعها تشبه نبع عريسها تمامًا، وحياتها بحياته، وماؤها بمائه. إن كلمته حية، وبها تحيا كل نفس تستقبله.
هذه المياه تفيض من اللّه كما يقول ينبوع المياه الحيّة: “لأني خرجت من قبل اللّه وأتيت” (يو 42:8).
تحفظ العروس فيض مائه الحي في بئر نفسها، وتصبح بيتًا يكنز هذه المياه الحيّة التي تفيض من لبنان، أي التي تكوّن سيولاً من لبنان، كما يقول النص.
لقد أصبحنا في شركة مع الله بامتلاكنا هذه البئر، حتى نحقق وصية الحكمة (أمثال 17:5، 18)، ونشرب مياها من بئرنا، وليست من بئرٍ آخر. نتمتع بهذا في المسيح ربنا له المجد والعظمة إلى الأبد آمين.
القديس غريغوريوس النيسي
يشار إلى الرب أنه نهر يفيض بنعمته ليروي ظمأ بني البشر (مز ٣٦: ٧-٨) يفيض على الأمم بالسلام والمجد (إش ٦٦: ١٢LXX).
“من آمن بي كما قال الكتاب،
تجري من بطنه أنهار ماء حي”. (38)
من يؤمن بي ويقبلني بكوني المسيا الذي تنبأت عنه الأسفار المقدسة، فإنه يسكن في قلبه أو في أحشائه الروح القدس الذي يفيض حياة. يصير ينبوعًا يفيض بثمار الروح من حب وفرح وسلام وحرية واستنارة. وقد اعتاد اليهود أن يشبهوا عمل الروح القدس بالمطر المبكر والمتأخر والينابيع والآبار والأنهار الخ (مز ٣٦: ٨-٩؛ إش ٤٤: ٣-٤؛ يوئيل ٢: ٢٣).
بقوله “إن عطش” يعني من يشعر بفقره إلى البرّ أو احتياجه إلى البركات الروحية أو بالفراغ الداخلي.
“فليقبل إليّ ويشرب”، لا يقف بعد عند رئيس الكهنة ويُعجب بالإناء الذهبي الذي يسكب منه قليلاً من ماء بركة سلوام، ولا يذهب إلى الفلسفات الوثنية الكثيرة والمتضاربة التي لها من جاذبية تخدع الإنسان، بل ليأتي إلى السيد المسيح كما قدمه لنا الكتاب المقدس بعهديه.
مجازاة الإيمان عظيمة وبلا نهاية، يقول من يؤمن ينعم بأغنى نعم الله، لأنه سيمتليء بعطايا الروح، فلا يسمن ذهنه فقط، بل يصبح قادرًا على أن يفيض على قلوب الآخرين، كتيار النهر المتدفق الذي يفيض بالخير المُعطى من الله على جاره أيضًا.
القديس كيرلس الكبير
يوجد عطش داخلي وتوجد بطن داخلية، إذ يوجد إنسان داخلي. هذا الإنسان الداخلي بالحق هو غير منظور، أما الإنسان الخارجي فمنظور، لكن الداخلي أفضل من الخارجي. ما لا يُرى يُحب أكثر، فإنه بالتأكيد أن الإنسان الداخلي يُحب أكثر من الخارجي.
ما هو الينبوع، وما هو النهر الذي يفيض من بطن الإنسان الداخلي؟ الميل إلى الخيرية، الذي به يراعي الإنسان الاهتمام بأخيه. فإن تصوّر أن ما يشربه يلزم أن يكون لشبعه هو وحده لن يكون فيض من المياه الحيّة من بطنه، لكنه إن أسرع إلى الاهتمام بصالح قريبه لا يكون جافًا بل كون فيه فيض.
القديس أغسطينوس
يقصد بالبطن هنا القلب… أين يوجد في الكتاب المقدس أن أنهارًا لمياه حية تفيض من بطنه؟ لا يوجد.
فماذا إذن يعني: “من آمن بي كما يقول الكتاب”؟ هنا يلزمنا أن نتوقف فقد يكون القول: “تجري من بطنه أنهارًا” تأكيد أنه عن المسيح. فكثيرون قالوا: “هذا هو المسيح”، و”عندما يأتي المسيح، هل يصنع معجزات أكثر”؟ إنه يظهر الحاجة إلى معرفة صحيحة، وأن يقتنعوا لا من المعجزات بل من الكتاب…
لقد سبق فقال: “فتشوا الكتب” (5: 39) وأيضًا: “مكتوب في الأنبياء”، و”يكون الكل متعلمين من الله” (6: 45)، “موسى يشكوكم” (5: 45)، وهنا يقول:” كما قال الكتاب، تجرى من بطنه أنهار”، ملمحًا نحو عظمة النعمة وفيضها… وقد دعاها في موضع آخر “حياة أبدية” أما هنا فيدعوها “أنهار ماء”…
فإن نعمة الروح إذ تدخل الذهن وتقيم، تفيض أكثر من أي ينبوع.
إنها لن تتوقف ولن تفرغ…
فلكي يعني إنها تقدم عونًا لا ينضب، وفي نفس الوقت طاقة لا تخيب، دعاها “بئرًا” وأنهارًا، ليست نهرًا واحدًا، بل هي أنهار لا تُحصى.
يمكن للشخص أن يدرك بوضوح ما تعنيه إن وضع في اعتباره حكمة اسطفانوس ولسان بطرس وغيرة بولس.
القديس يوحنا الذهبي الفم
هكذا يؤمر النبي من الرب أن يعبر إلى النهر (١ مل ١٧: ٢) لكي يشرب من العهد الجديد ليس فقط بنهر بل “تجري من بطنه أنهار مياه حية” (٣٨)، أنهار فهم، أنهار تأمل، أنهار روحية، هذه التي تجف في زمن عدم الإيمان لئلا يشرب مدنسو المقدسات وغير المؤمنين. في ذلك الموضع عرف الغربان ما لم يعرفه اليهود. أطعمة الغربان، ذاك الذي اضطهده الجنس الملوكي الشريف.
القديس أمبروسيوس
“قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه،
لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد،
لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد”. (39)
لا يبخل الله بروحه على البشرية، فقد خلق الإنسان ليعمل روح الله فيه، ويستقر فيه. لكن الإنسان بإرادته أعطى ظهره له ولم يقبله، فصار الروح أشبه بضيفٍ يعمل في رجال الله وفي الأنبياء، بل وأحيانًا حتى في غير المؤمنين كي يجتذبهم للإيمان. أما وقد تمجد الرب على الصليب ودفع الثمن لغفران خطايانا وتمجيدنا فيه، وهب الروح بفيض كما سبق فوعد في يوئيل ٢: ٨.
الروح القدس هو العطية العظمى، بل واهب العطايا الذي نلنا وعدًا بحلوله على الكنيسة وسكناه في قلب المؤمن، وتوزيع مواهب وعطايا حسبما شاء، لمجد الله وبنيان الكنيسة وخلاص النفوس.
يرى القديس أغسطينوس أن الروح القدس قد حلّ على كثيرين قبل أن يتمجد يسوع بقيامته، مثل سمعان الشيخ وحنّة النبيّة والقديسة مريم عند التجسد الإلهي، لكن حلول الروح القدس بعد القيامة جاء حلولاً عامًا على الكنيسة في عيد العنصرة حيث نطقت بكل لغات الأمم. لكن لماذا لا ينال المؤمن النطق بكل لغات الأمم عند عماده الآن ونواله الروح القدس؟
يجيب القديس أغسطينوس بأنه إذ انتشرت الكنيسة في العالم صار المسيحيون ينطقون بكل لغات العالم، فكل مسيحي كعضو في الكنيسة الجامعة يحسب نفسه كمن يتكلم بكل لغات الأمم، لأن ما ينطق به اخوته كأنما ينطق به هو كعضوٍ في الجسد الواحد.
مرة أخرى يقول القديس أغسطينوس أنه بعد قيامته وهبنا الروح القدس الذي به نحب الكنيسة ونتمتع بوحدتها وحبها، وبهذا ننعم بالقيامة معه، حيث نهاجر بقلوبنا العالم لنحيا معه في السماء. [يكون لنا الروح القدس إن كنا نحب الكنيسة، لكننا نحب الكنيسة إن ثبتنا في وحدتها وحبها… نحن هنا نولد ونموت، ليتنا لا نحب هذا العالم، بل نهجره بالحب، بالحب نسكن في الأعالي، بذات الحب الذي به نحب اللَّه. في هذه الرحلة لحياتنا ليتنا لا نفكر في شيء غير أننا لن ندوم هنا، وأنه بالحياة الصالحة نعد لأنفسنا موضعًا حيث لا نهجره قط].
إن كان الروح لم يكن قد أُعطي بعد، فكيف صنع الأنبياء في العهد القديم معجزات؟ أليست هي من عمل الروح القدس الساكن فيهم؟ وكيف مارس تلاميذ الرب المعجزات قبل حلول الروح القدس عليهم؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله: [لم يخرجوا الشياطين بالروح، بل صنع بعضهم ذلك بالسلطان المعُطي لهم].
“أرسلهم”: لم يذكر: “أعطاهم الروح القدس” بل “أعطاهم سلطانًا” (مت 10:1) لكي يطهروا برص ويقيموا موتى ويخرجوا شياطين، بنفس الطريقة بالنسبة للأنبياء. في حالة الأنبياء يعترف الكل أن هذه العطية هي من الروح القدس. لكن هذه العطية محدودة وكانت ترحل، وناقصة على الأرض… فكان الروح القدس محتفظ بها (لأشخاص معينين). [أما المستقبل فصار بفيضٍ].
دعي الصليب “مجدًا”… فكان من الضروري تقديم الذبيحة عنا أولاً، حتى تُنزع العداوة التى في جسدنا، فنصير أصدقاء الله، وعندئذ نتقبل العطية.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الروح القدس هو النهر الذي يفيض – حسب العبرانيين – من المسيح إلى الأراضي. وقد قبلنا هذا كما تنبأ فم إشعياء (إش 12:66). هذا النهر العظيم الذي يفيض على الدوام ولن يتوقف، ليس فقط نهرًا بل هو أيضًا أحد المجاري الغزيرة التي تفيض عظمة، كما قال داود: “مجرى النهر يفرح مدينة اللَّه” (مز 4:46). فإنه لا ترتوي تلك المدينة، أورشليم السماوية بقناة، أي بنهرٍ أرضيٍ، بل بذاك الروح القدس المنبثق من مصدر الحياة. المجرى الذي يصدر عن ذاك الذي يشبعنا، يبدو أنه يفيض بوفرة بين العروش السماوية والسيادات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة، جاريُا في أكمل نصيب لفضائل الروح السبع.
القديس أمبروسيوس
بدأ الله الآب يعطي الروح من جديد، وكان المسيح أول من قبل الروح كباكورة الطبيعة المتجددة، لأن يوحنا شهد قائلاً: “إني قد رأيت الروح نازلاً من السماء فاستقر عليه” (يو ١: ٣٢)…
لم يقبل المسيح الروح لأجل نفسه، بل بالأحرى لأجلنا نحن فيه، لأن كل الصالحات تفيض أيضًا فينا بواسطته.
لأنه إذ حاد جدنا آدم بالخديعة فسقط في العصيان والخطية لم يحفظ نعمة الروح. وهكذا فقدت فيه الطبيعة البشرية كلها الخير المُعطى لها من الله، لهذا يلزم أن الله الكلمة غير المتغير يصير إنسانًا حتى إذا ما نال كإنسان يمكنه أن يحفظ الصلاح في طبيعتنا على الدوام. ودليلنا في تفسير هذه الأسرار هو المرتل الإلهي نفسه، إذ يقول للابن: “أحببت البرّ وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك” (مز ٤٥: ٧).
في الأنبياء القديسين بريق غني خاص، يستمدونه من مصدر الاستنارة من الروح القدس، القادر أن يقودهم إلى إدراك أمورٍ عتيدة ومعرفة أنباء مخيفة. لكننا نثق أن الذين يؤمنون بالمسيح لا يكون لهم مجرد استنارة من الروح القدس، بل الروح نفسه يسكن ويجعل إقامته فيهم… لنفهم أنه يعني سكنى الروح القدس في البشر كاملة وبالتمام.
القديس كيرلس الكبير
“فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا:
هذا بالحقيقة هو النبي”. (40)
قال البعض إنه النبي العظيم الذي تحدث عنه موسى النبي (تث ١٨: ١٥)، لكن للأسف لم يكونوا قادرين على إدراك أن النبي هنا يقصد به المسيا مخلص العالم. وقال آخرون أنه المسيح.
“آخرون قالوا: هذا هو المسيح،
وآخرون قالوا:
ألعل المسيح من الجليل يأتي؟” (41)
إذ تنبأ العهد القديم بأن المسيح قادم من سبط يهوذا من بيت داود تشكك البعض في أمره، هؤلاء الذين لم يعرفوا أنه وُلد في بيت لحم وظنوا أنه وُلد في الجليل.
يقول القديس كيرلس الكبير أن الجموع كما الفريسيين كانوا يفتقدون الدقة في هذا الأمر، حيث ظنوا أن ما وعد الله به موسى بأنه سيقيم نبيًا من وسط شعبه مثله (تث ١٨: ١٨) شخص آخر غير المسيح. وبسبب عدم الدقة ظن الفريسيون أن ثلاثة يظهرون، إذ قالوا للقديس يوحنا المعمدان: “ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟” (يو ١: ٢٥).
“ألم يقل الكتاب أنه من نسل داود،
ومن بيت لحم، القرية التي كان داود فيها يأتي المسيح؟” (42)
لقد عرف اليهود أن السيد المسيح يأتي من نسل داود (مز ١٣٢: ١١)، وأنه يولد في بيت لحم (مي ٥: ٢) لكن كما يقول القديس كيرلس الكبير إذ أُشيع عن يسوع أنه تربى في ناصرة الجليل (يو ٤: ١٦) سقطوا عن الحق وأعوزهم التفكير السليم.
“فحدث انشقاق في الجمع لسببه”. (43)
بسبب انشقاقهم لم يعرفوا المسيح ولا فهموا دقة الكتاب المقدس، لأنهم لو آمنوا أن يسوع هو نبي الناموس، لما سقطوا في هذا الجدل غير اللائق.
القديس كيرلس الكبير
“وكان قوم منهم يريدون أن يمسكوه،
ولكن لم يلقِ أحد عليه الأيادي”. (44)
نتيجة هذا المقال حدث انشقاق في الجمع بسببه إلى أربعة فرق:
+ فريق حسبه النبي وليس المسيح،
+ فريق حسبه المسيح،
+ الثالث رأى فيه علامات المسيح لكنهم تعثروا بسبب ظنهم أنه من الجليل،
+ أما الفريق الرابع فهو الذي تبع الرؤساء وأرادوا القبض عليه ولم يستطيعوا.
لم يلق أحد عليه الأيادي، ليس توقيرًا له، بل لأن قدرته وحدها أوقفتهم.
القديس كيرلس الكبير