لقد ملّت الشريحة التي لا تنتمي الى السياسيين والاحزاب بصلة من هذه المسرحية المملّة، لا بل المميتة
مساكين هم من لا يزالون يعتقدون ان المشكلة في لبنان داخليّة ويمكن حلّها من قبل الاطراف واللاعبين المحليين. لا يريد هؤلاء ان يصدقوا او ان يعترفوا بأن كل ما شهدناه حتى اليوم ليس سوى استغلال خارجي للوضع اللبناني من جهة، وللاعبين الذين يرتضون، للاسف، ان يكونوا اداة لتنفيذ السيناريوهات الموضوعة، من دون القدرة ولا الرغبة في تحوير او تغيير اي نص معدّ سلفاً او حبكة جديدة تطرأ بعد اتفاقات واتصالات بين الدول الخارجية على الساحتين الدولية والاقليمية.
وللذين لا يريدون بعد ان يصدقوا ان المسألة خارجية محض وانها فقط تقدّم بأدوات داخلية، نسأل: هل تذكرون عند كل مسألة كيف كانت الامور تنحصر في حلّ مشكلة واحدة وكأنّها هي العائق الذي يمنع لبنان من الخلاص. ولعل المثال الاقرب على ذلك هو الحكومة.
كم سمعنا من تحذيرات وتهديدات واقاويل بزوال لبنان ووصوله الى نقطة اللاعودة وغيرها ما لم تتشكل حكومة، وانه بمجرد تشكيلها سيتحول لبنان من حالة الى اخرى، وسننعم جميعاً بتواجدنا على قطار الخلاص الذي سيشقّ طريقه بثبات نحو نهاية النفق المظلم؟
لم تتشكل الحكومة فقط، بل اتت بدعم مباشر وشخصي من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون (وللتذكير فقط ان فرنسا هي دولة كبرى)، ولا تزال تحظى بهذا الدعم بدليل ما حصل في الآونة الاخيرة ان من خلال عدم السماح لرئيس الحكومة بالاستقالة، او من خلال التدخل الشخصي مع السعودية لـ”تليين” الموقف مع لبنان.
وقد يعمد البعض الى التركيز على هذه النقطة للتدليل على ان المشكلة داخلية، ويسأل: ما دامت المشكلة خارجية، فها هي فرنسا تدعم الحكومة ولم يحصل شيء، فيما العرقلة من الداخل فقط. الجواب على السؤال بسيط جداً، وهو ان الخارج غير محصور فقط بفرنسا، وهذا هو سبب الازمة من الاساس، لان لبنان ساحة لعب للدول كافة، ولو تمّ تسليمه بالفعل لدولة واحدة لكان قد تخلص من ازمته ومشاكله بسرعة، على غرار ما يحصل في اكثر من دولة في العالم، وخصوصاً في العالم العربي. فما يرضي فرنسا، لا يرضي بالضرورة الولايات المتحدة، وهو الامر الذي ينطبق ايضاً على روسيا (بحكم تنامي نفوذها في الشرق الاوسط وعلى الحدود اللبنانية)، واسرائيل ودول اوروبيّة اخرى، ودول اقليميّة من ايران الى السعودية وغيرهم…
هذا هو الواقع اللبناني المرير، ففي خضم ازماتنا الاقتصاديّة والماليّة، اتفق الخارج على ان تكون للانتخابات الاولويّة المطلقة، ولكنه اختلف على طريقة تطبيقها، فسرح ومرح المسؤولون اللبنانيّون ورؤساء الاحزاب والتيارات السياسية وبدأوا بألاعيبهم وفتاويهم التي يتقنون بجدارة لمحاولة كسب النقاط، وتناسوا تماماً ان لبنان غارق حتى اذنيه في المشاكل والمآسي، ولكن، ما الهم؟ ما دام الطرف الخارجي راضٍ عنهم وعن طريقتهم في التلاعب بمصير اللبنانيين (القانعين والخاضعين تماماً للنظام الطائفي والمذهبي ويضعون الولاء للزعيم قبل حياتهم وحياة اولادهم).
تشكّلت الحكومة ومع الدعم الفرنسي، اصبح الانجاز الذي يمكن ان تقوم به هو ان تلتئم مجدداً، بدل ان يكون البدء باتخاذ التدابير اللازمة للنهوض من الازمة، واثبتت التطورات ان تشكيل الحكومة او عدم تشكيلها لم يكن هو الاساس، اي انّ حديث كل المسؤولين ورؤساء الاحزاب والتيارات السياسية و”تخويفهم” للبنانيين، كان هدفه الوحيد “الحرتقة” على الاطراف الاخرى، وكسب النقاط في معركة اثبات الوجود. ومن المؤكد انه لو لم تكن الحكومة قد تشكّلت بعد، لكان عدم الاتفاق عليها هو سبب الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، ولارتفاع اسعار المواد الاستهلاكية والغذائية، ولتراجع التغذية في التيار الكهربائي، وكل المصائب الاخرى…
لقد ملّت الشريحة التي لا تنتمي الى السياسيين والاحزاب بصلة من هذه المسرحية المملّة، لا بل المميتة، وهذا هو السبب الرئيسي لسعيهم بكل قواهم للخروج من البلد واخراج عائلاتهم منه، لأنّهم فقدوا الامل في ايقاظ الباقين من اوهامهم وضلالهم.
المصدر: النشرة