عَ مدار الساعة


شهادة يوحنا المعمدان للمسيح من أجل الضعفاء الذين بلا فهم..


♱ ﴿ إِنْجِيل الۤقِدِّيس يوحنا الۤبَشِير ﴾ ٥:( ٣١ – ٣٦ )

٣١ وَإِنْ كُنْتُ أَنا أَشْهَدُ لِنَفْسي فَلَيْسَتْ شَهادَتي حَقًّا،
٣٢ إنَّما الذي يَشْهَدُ لي هُوَ آخَرُ وَأَنا أَعْلَمُ أنَّ شَهادَتَهُ التي يَشْهَدُ لي بِها هِيَ حَقٌ
٣٣ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إلى يوحَنّا فَشَهِدَ لِلْحَقِّ
٣٤ وأَمّا أَنا فلا أَقْبَلُ شَهادَةً مِنْ إنْسانٍ، ولَكِنَّني أَقولُ لَكُمْ هَذا لِتَخْلُصوا أَنْتُمْ.
٣٥ ذاكَ كانَ هُوَ السِّراجَ المُوْقَدَ المُنيرَ، وَأنْتُمْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجوا بِنورِهِ ساعَةً.
٣٦ وأَمَّا أَنا فَلِي شَهادَةٌ أَعْظمُ مِنْ شَهادَةِ يوحَنَّا، لأنَّ الأعْمالَ الَّتي أَعْطى لي الآبُ أنْ أتَمِّمُها، هَذه الأعمالَ بِعَيْنِها الَّتي أَنا أَعْمَلُها، هيَ تَشْهَدُ لِي بِأَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَني.


تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل القديس يوحنا البشير ٥: ٣١-٣٦

شهادة يوحنا المعمدان له

“إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا”. (31)
لو أنه شهد لنفسه دون شهادة الآب خلال الأنبياء ودون قيامه بأعمال عجيبة إلهية، لكان لهم عذرهم إن حسبوها شهادة باطلة. لقد رفض شهادته لنفسه لأنهم حسبوا هذا نوعًا من طلب مجد الناس. فهو لا يود أن يقدم شهادة حسب معاييرهم ليست حقًا. بهذا يقطع خط الرجعة عليهم، فلا يعطيهم فرصة للاعتراض علي شهادته، ولا يسمح لهم أن يتشككوا في نيته، فيظنوه أنه يطلب المجد الزمني.

عندما قال: “شهادتي ليست حقا” (31) كان يوبخهم علي رأيهم فيه، واعتراضهم عليه، وعندما قال: “وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق” (يو 8: 14) يعلن طبيعة الشيء نفسه، وهي أنه بكونه الله يلزمهم أن يحسبوه موضع ثقة حتى عندما يتحدث عن نفسه. (القديس يوحنا الذهبي الفم)

يقدم نفسه مرة في شخص إنسان، وأخرى في جلال اللَّه… مرة يشير أن شهادته ليست حقًا (يو31:5) وأخرى أنها حق (يو14:8).
(القديس أمبروسيوس)

إنه قد عرف حسنًا أن شهادته عن نفسه كانت حقًا، ولكن من أجل الضعفاء، الذين بلا فهم فإن الشمس تتطلع إلى المصابيح. من أجل ضعف بصيرتهم لم يحتملوا بهاء الشمس المتألق.
ألم يشهد الشهداء للمسيح؟ ألم يشهدوا للحق؟ لكن إن تطلعنا بشيء من الاهتمام الأكثر عندما شهد الشهداء، شهد هو لنفسه. لأنه يسكن في الشهداء، وهم يشهدون للحق. لنسمع أحد الشهداء، بولس الرسول: “أتقبلون برهان المسيح الذي يتكلم فيّ؟” (٢ كو ١٣: ٣ Vulgate). إذن عندما يشهد يوحنا فالمسيح الساكن في يوحنا يشهد لنفسه. ليشهد بطرس، وليشهد بولس وبقية الرسل، ليشهد اسطفانوس، فإن ذاك الذي يسكن فيهم جميعًا هو يشهد لنفسه. (القديس أغسطينوس)

إن كان الرب نفسه الذي سيأتي فيما بعد ليحكم في كل شيء لم يرد أن يصدقوه بناء على شهادته هو، مفضلاً أن يتزكى بحكم الله الآب وشهادته، كم بالأكثر يلزمنا نحن عبيده الذين ليس فقط نتزكى بشهادة الله وحكمه بل ونتمجد بها يلزمنا أن نحافظ على ذلك. (الشهيد كبريانوس)

“الذي يشهد لي هو آخر،
وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق”. (32)

جاءت كلمة “يشهد” هنا في صيغة المضارع المستمر، فإن شهادة الآب للابن شهادة سرمدية، شهادة الحب لذاك الذي واحد معه في ذات الجوهر.
هم يؤمنون بالكتاب المقدس، فهو يحمل شهادة الآب عنه خلال النبوات الكثيرة، وهي شهادة صادقة.

كأنه يقول: “لعلكم تقولون لي إننا لا نصدقك، لأنه على نحو ما يُقال في أناس إن من يشهد بتسرع لنفسه ليس هو مؤهلاً لتصديقه.
فقول المسيح: “إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا” لا ينبغى أن يُقرأ على بسيط ذات قراءته، لكن ينبغي أن يُقرأ إذا أضفنا إليه ظن أولئك اليهود في المسيح أن قوله ليس حقًا…
أورد الأقوال التي قالها بثلاثة شهود: أولهم الأعمال التي صنعها، وثانيهم شهادة أبيه، وثالثهم إنذار يوحنا المعمدان به، وقد وضع آخرها أولها وهى شهادة يوحنا المعمدان إذ قال: “”الذي يشهد لي هو آخر، وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق” (32). (القديس يوحنا الذهبي الفم)

“أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق”. (33)
مع أن السيد المسيح لا يقبل شهادة من أي إنسان، لكن من أجلهم يقدم شهادة يوحنا المعمدان عنه أو “للحق”، إذ كانوا يحترمونه كسراج حمل النور لساعة. كان يوحنا في ذلك الوقت في السجن. يكرمه السيد المسيح بكونه السراج الذي يعلن عن مجيء المسيح وسط ظلمة هذا العالم.
من جهة سأله الأعداء أنفسهم وطلبوا رأيه، ومن جهة أخرى عُرف القديس يوحنا أنه لا يعطي وزنًا للكرامة الزمنية، ولم يطلب لنفسه مجدًا. إنه مخلص في رسالته، لم يستطع هيرودس أن يثنيه عن الحق، وعندما شهد يوحنا عن السيد المسيح لم يكن قد رآه.
قال أولاً “أنتم أرسلتم إليّ يوحنا” فما كانوا يرسلون إليه لولا أنهم احتسبوه مؤهلاً للتصديق. (القديس يوحنا الذهبي الفم)

انظروا كيف كان يلزمه أن يقول: “لتضئ يا رب سراجي”. أخيرًا إذ استنار قدم شهادته… إنه السراج، الذي استنار، استنار لكي يضيء. وما يمكن أن يُنار يمكن أيضًا أن يُطفأ. فلكي لا يُطفأ ليته لا يعرض نفسه لريح الكبرياء.
(القديس أغسطينوس)

“وأنا لا أقبل شهادة من إنسان،
ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم”. (34)

يقول السيد أنه ليس بمحتاج إلى شهادة يوحنا، فإن أعماله فيها كل الكفاية، وهي أعظم من شهادة يوحنا.
أنتم تؤمنون أن يوحنا نبي، لا ينطق بالكذب بل بالحق. وقد شهد أني حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يو ١: ٢٩)، فإن آمنتم بي تخلصون من خطاياكم.

شهادة يوحنا لم تكن شهادة إنسان، لأنه قال: “وأنا لم كن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاُ ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس” (يو ا: 33) فمن هذه الجهة استبان أن شهادة يوحنا المعمدان كانت شهادة الله، لأنه من الله عرفها، وقال له ما قاله.
(القديس يوحنا الذهبي الفم)

“أكثر من جميع الذين يعلمونني فهمت، لأن شهاداتك هي درسي”…
من هو هذا الذي له فهم أكثر من كل معلميه؟
إنني أسأل: من هو هذا الذي يتجاسر ويفضل نفسه عن كل الأنبياء، الذي ليس فقط بالكلام علَّم بسلطانٍ عظيمٍ هكذا الذين عاش معهم، وأيضًا الأجيال المتعاقبة بكتاباتهم؟…
ما قد قيل هنا لا يمكن أن يكون عن شخص سليمان…
إنني أعرفه بوضوح ذاك الذي يفهم أكثر من كل الذين يعلمون، فإنه إذ كان صبيًا في الثانية عشرة من عمره بقي يسوع في أورشليم ووجده والداه بعد ثلاثة أيام (لو 42:2-46). قال الابن: “كما علمني أبي أنطق بهذه الأمور”.
من الصعب جدًا أن نفهم هذا عن شخص الكلمة، ما لم ندرك أن الابن المولود من الآب… “أخذ صورة عبد” (في 2: 7)، فإنه إذ اتخذ هذا الشكل، ظن من هم أكبر منه سنًا أنه يجب أن يتعلم كصبي، لكن ذاك الذي علَّمه الآب له فهم أكثر من كل معلميه، لأنه درس شهادات اللَّه الخاصة به، وهو يفهمها أكثر منهم عندما نطق بالكلمات: “أنتم أرسلتم إلي يوحنا فشهد للحق، وأنا لا أقبل شهادة من إنسانٍ” (يو 33:5، 34).
(القديس أغسطينوس)

“كان هو السراج الموقد المنير،
وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة”. (35)

يقصد بكلمة “موقد” أو الملتهب نارًا الغيرة المتقدة في قلبه نحو توبة الناس وخلاصهم. ويُقصد “بالساعة” الوقت القصير ما بين ظهوره للخدمة والقائه في السجن.
“تبتهجوا” agalliatheenai وتعني أن يثبتوا متهللين، أو يفرحوا بفيض بأخبار ظهور المسيا، حيث توقعوا أن يخلصهم من الرومان، لكن ما أن أعلن عن ملكوته الروحي حتى رفضوه ورفضوا السراج الذي أعلن عنه.
عندما كان هيرودس صديقًا ليوحنا كانت القيادات الدينية تتحدث عنه بكل وقارٍ أو على الأقل لا تقاومه، أما وقد ألقي في السجن بواسطة هيرودس فقد صار بلا شك موضع تكريم من الشعب، لكن القيادات لم تبالِ بأمره. وفي نفس الوقت لم تكن قادرة على مهاجمته علنًا، لأنه كان في أعين الشعب كنبي. الآن إذ أدرك الشعب أن يوحنا نبي وهو قد شهد للمسيح يلزم على الشعب أن يقبل المسيح.
يرى القديس جيروم أن القديسين هم كالقديس يوحنا المعمدان كالسراج الذي ينير، وأن النور يشير إلى بهجتهم وفرحهم بالخلاص. كما يقول: [كل الكنيسة الشرقية، حتى عندما لا توجد رفات للشهداء عندما يُقرأ الإنجيل توقد الشموع، حتى عندما يجعل الفجر السماء حمراء، لا لكي تبدد الظلمة، بل من أجل الشهادة لفرحنا. لذا فإن العذارى المذكورات في الإنجيل يشعلن على الدوام مصابيحهن. وأخبر التلاميذ أن يكونوا على الدوام ممنطقين أحقائهم وموقدين مصابيحهم. ونقرأ عن يوحنا المعمدان: “كان هو السراج الموقد المنير”، حتى أنه النور الحسّي يشير إلى النور الذي نقرأ عنه في المزمور: “كلامك سراج لقدميّ يا رب، ونور لسبلي” (مز 105:119)].
هذا السراج قد أُعد بسبب ارتباكهم، فمن أجل هذا قيل في المزامير منذ زمن طويل: “هيأت سراجًا لمسيحي” (مز ٩١: ١٧). ماذا يكون السراج بالنسبة للشمس؟
القديس أغسطينوس

“بنوره ساعة”: هو قول يوضح بسهولة ميلهم وأنهم ولوا عن يوحنا مبتعدين عنه بسرعة.
القديس يوحنا الذهبي الفم

شهادة آياته وأعماله

“وأما أنا، فلي شهادة أعظم من يوحنا،
لأن الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها،
هذه الأعمال بعينها التي أنا اعملها،
هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني”. (36)

كثيرا ما يتحدث السيد المسيح عن شهادة أعماله لشخصه ولرسالته ( يو 10: 25، 32، 37، 38؛ 14: 10، 11). هنا لا يعنى بالأعمال كثرة المعجزات والآيات وتنوعها فحسب وإنما أعمال محبته الفائقة، وسلوكه أثناء عمل المعجزات، وحبه العجيب للبشرية إذ كثيرًا ما نسمع أنه “تحنن عليهم وشفاهم”، هذا بجانب أيضا أحاديثه، والأحداث الفريدة في حياته مثل سماع صوت الآب عند عماده وتجليه، وغلبته لإبليس في التجربة. يشير السيد هنا إلى شفاء المفلوج كشهادة عملية لكي يقبلوا شخصه وتعاليمه فيخلصوا.
كلمة “العطاء” هنا لا تفيد أن ينال الابن ما لم يكن لديه، لكنه تحقيق العمل الإلهي الذي هو للآب والابن وتكميله. فالخلاص علي سبيل المثال هو عمل الثالوث القدوس، الأب يرسل ابنه إلى العالم ليقدم نفسه ذبيحة، والروح القدس يهيئ أحشاء القديسة مريم لتحقيق التجسد الإلهي. فلا فصل ولا ارتباك ولا ازدواج بين عمل الآب والابن والروح، إنما العمل الإلهي واحد. ولقد أعلن السيد علي الصليب أنه أكمل العمل ( يو 19: 28). وكما يقول الرسول بولس: “لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام” (عب 2: 10).

الغرض الذي كان يحرص عليه أولاً هو أن يصدقوا أنه جاء من الله، وهو أقل بكثير من تصديقهم أنه إله معادل لأبيه.
القديس يوحنا الذهبي الفم

ويقول العالِم والراهب الإنكليزيّ ألكُوان (730 – 804)،
في عظته
«لو كُنتُ أشهَدُ لنَفسي، لَما صحَّتْ شهادتي»
بما أنَّ للربّ يسوع الطبيعة الإلهيّة والإنسانيّة، يمكننا القول إنَّه أظهرَ خصائص كلّ منهما بشكلٍ متتالٍ: ففي حين، كان يتكلّم بما هو موافق لإنسانيَّته التي اتّحَدَ بها؛ وفي حينٍ آخر، كان يتفوَّه بما يعود إلى ألوهيَّته. فبِصفَته بشرًا، قالَ: “لو كُنتُ أشهَدُ لنَفسي لَما صحَّتْ شهادتي” (يو 5: 31). ومعناه: “لو كُنتُ أشهدُ لنفسي بصفتي بشر (أيّ بعزل شهادتي هذه عن شهادة الآب)، فإنّ شهادتي لا تصحّ”. لذا، أضافَ قائلاً: “هناكَ آخر يشهدُ لي”. في الواقع، شهدَ الآب للرَّب يسوع المسيح، وقد سُمِعَ صوتُه أثناء عماد المخلِّص وعلى جبل التجلّي. “وأنا أعلم بأَنّ شهادته صادقة”، لأنّ الله هو حقّ وشهادته لا يمكن أَن تَكونَ إلاَّ صادقة.
لم يشهدْ يوحنّا لنَفسه، ولكن للحقّ. وكصديق للحقّ، شهدَ للرّب يسوع المسيح الذي هو الحقّ. كما أنّ الربّ لم يرفضْ هذه الشهادة، وكأنّه لا طائل منها؛ بل علّمَ سامعيه بألاّ يمعنوا التحديق في يوحنّا حتّى يصلَ بهم الأمر إلى الامتناع عن الإقرار بأنَّ المسيح وحده هو الضروريّ لهم.

كانَ يوحنّا كمصباح أضاءَه الرّب يسوع المسيح الذي هو النورُ الحقيقي. كانَ مُتَّقدًا بالإيمان والمحبّة، وساطعًا بالكلمة والأعمال أمام الربّ، فَتمَّ فيهِ قول المزمور 132[131]: “هُناكَ أُقيمُ لِداوُدَ نَسْلاً وأُعِدُّ لِمَسيحي سِراجًا. أُلبِسُ أَعْداءَه خِزْيًا وتاجُه علَيه يُزهِر” (مز 132[131]: 17-18).

وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح ♱ دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح