بالرغم من الضباب الإقليمي والدولي في منطقة الشرق الأوسط، إلّا أن تقسيم النفوذ بين الدول الكبرى يبدو شبه محسومًا، وتحديدًا بعد حسم نتيجة الحرب في معظم الأراضي في سوريا. أمّا لبنان، فيبدو ملفه معقّدًا ومتخبّطًا وذلك بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها البلاد من مفاجآت سياسية واقتصادية وأمنية، لا مثيل لها في تاريخ لبنان المعاصر. فما دور الولايات المتحدة الأميركية بتحديد مستقبل لبنان؟ وماذا تفعل روسيا في المقابل لإثبات نفسها كلاعب جديد على ساحة الصراعات في الشرق الأوسط بعد غياب تام منذ الحرب الباردة؟
للولايات المتحدة الأميركية قوة تأثير كبيرة في الشرق الأوسط عمومًا، وفي لبنان خصوصًا. فالسنوات ال٤٠ الماضية التي شهدتها الساحة اللبنانية من تطورات على جميع الأصعدة، لما حدثت لولا الموافقة الأميركية عليها ولو حتى اضطرت أن تفرض رأيها بالقوة. ولكن بدأ هذا التأثير بمواجهة عقبات عديدة بعد التدخل الروسي في سوريا وقلب الطاولة لصالح النظام السوري والجمهورية الإيرانية، فارضين موازين قوى جديدة في المنطقة ككل. فأين يظهر الكباش الأميركي-الروسي في لبنان؟
على الصعيد السياسي:
النفوذ الأميركي طاغي بشكل كبير على معظم الطبقة السياسية والمجتمع المدني، فالقرارات المصيرية من الصعب جدًا، لا بل من المستحيل أن تحدث دون ضوء أخضر أميركي، بعكس روسيا التي يبدو نفوذها محدود جدًا. حاول الروس وتحديدًا عبر وزير الخارجية سيرغي لافروف حلحلة عقد سياسية سابقة عبر الحوار، مثال على ذلك استقبال الرئيس سعد الحريري في موسكو قبل أن يعتذر عن تشكيل الحكومة، وطرح نفسهم كوسيط بين لبنان و”اسرائيل” لحل مسألة ترسيم الحدود والنزاع القائم بين الجانبين.
صحيح أن الولايات المتحدة تصب تركيزها على محاولة احتواء الصين، التي أصبحت أولوية بالنسبة لها بدلًا من الشرق الأوسط، ولكن هذا لا يعني أن الإدارة الأميركية ستخرج من المنطقة كما يعتقد البعض، وفي حال خرجت، ستكون هناك ضمانات سياسية وعسكرية ومالية في المقابل. فالسفارة الأميركية في عوكر تشهد عملية توسيع تُقدّر بقيمة مليار و٢٠٠ مليون دولار أميركي، جاعلةً منها ثاني أكبر سفارة أميركية، يحرّكون من خلالها القرارات المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط. فمن الواضح أن روسيا على الصعيد السياسي لا تزال بعيدة عن القدرة على التأثير في الداخل اللبناني، وذلك جراء الضغوطات الأميركية على السياسيين في لبنان الذين يلعبون دور الحائط الذي يسد أي محاولة روسية لإحتضان لبنان.
على الصعيد الإقتصادي-المالي:
بعد ثورة ١٧ تشرين وبداية تفاقم الأزمة المالية في لبنان، اقترحت روسيا إنشاء بنك روسي في لبنان كمحاولة لتخفيف العبئ على اللبنانيين قدر المستطاع، ولكن فشلت هذه المبادرة بعد رفض السلطات اللبنانية وتحديدًا حاكم مصرف لبنان المدعوم أميركيًا. فالليرة اللبنانية المرتبطة بالدولار الأميركي من الصعب تحريرها، كما أن السياسات المالية والإقتصادية لا يمكن أن تتغير دون موافقة أميركية بالدرجة الأولى. يحاول الروس تكرارًا الدخول من باب الإقتصاد إلى لبنان، حيث أن المحاولة الأخيرة كانت بإعلان أن وفد روسي يضم أكبر الشركات الروسية سيزور لبنان أوائل كانون الأول حاملًا عروضًا عملاقة لتطوير البنى التحتية، وذلك مع كفالة مالية بقيمة مليار و٢٠٠ مليون دولار. رغم أن لبنان يحتاج إلى تلك المساهمات والإستثمارات، إلّا أن القرار السياسي يبقى سيد الموقف، في ظل هيمنة أميركية واضحة.
من النقاط التي يتفق عليها الأميركيين والروس في لبنان هي عرقلة عملية التنقيب عن النفط والغاز في البحر، فالأميركي يريد مغازلة الإسرائيليين، أما الروس فلا يريدون سوق جديدة للغاز قد تهدد السوق الروسي، إلّا في حال أُعطي للروس ضمانات كبيرة من الصعب تحقيقها في الوقت الراهن.
على الصعيد العسكري:
بعد الحرب الأهلية في لبنان وانقسام الجيش اللبناني، خسرت قيادة الجيش قسمًا كبيرًا من معداتها وأسلحتها الثقيلة، حيث أصبح السلاح يقتصر على الأسلحة الخفيفة والذخائر الأولية. اقترحت روسيا على لبنان القيام بتدريبات مشتركة بين الجيشين اللبناني والروسي، ولكن قوبل هذا الإقتراح بالرفض من الحكومات المتعاقبة. كما أن روسيا قدمت للبنان عدة مرات أنظمة دفاع وطائرات حربية من طراز Mikoyan MiG-29، ولكن كالعادة، لم تتجاوب السلطات اللبنانية لعدة أسباب وعلى رأسها الضغط الأميركي الذي لا مصلحة له تسليح لبنان. ولهذا السبب، نرى أن المساعدات التي تُقدم للجيش اللبناني محصورة بالذخائر والمعدات التي لا تشكل خطرًا على اسرائيل أو التي قد تهدد المصالح الأميركية في المنطقة.
إن الكباش بين النسر الأميركي والدب الروسي في لبنان لا يزال في مراحله الأولى، ولكن بعد الذروة ستليها تسوية قد تحدد حدود الطرفين وقواعد اللعبة الجديدة. ولكن أين سيكون لبنان في ظل هذا الصراع؟