أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


استمع إلى اعتراف الرب: السرّ المكتوم وحكمة الله أخفَيتَ عن الحُكَماءِ والأذكِياء، وَكُشَفتَ لِلصغار..


الذين ظنّوا في أنفسهم حكماء رفضوه أمّا البسطاء فقبلوه..

أنك عين لا نور، وما فائدة العين حتى المفتوحة والسليمة دون وجود نور؟


♱ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبِن وَالرُّوح القُدُس الأِلَه الوَاحِد آمين ♱

الإنْجِيل اليَومِي مِن الكِتابِ المُقَدَّس الفُولْغَاتَا

﴿ إِنْجِيل الۤقِدِّيس متى الۤبَشِير ﴾ ١١: ( ٢٥ – ٣٠)

فلنصغِ

٢٥ فِي ذلِكَ الزمَن أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: أعترف لكَ أيُّها الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَظهرتَها لِلأَطْفَالِ .

٢٦ نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ، لأَنَّه هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ.

٢٧ كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلا أَحَد يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ يُريد الابْنُ أَنْ يكشِف لَهُ.

٢٨ تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ.

٢٩ اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، فإنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِأنفسكم.

٣٠ لأَنَّ نِيرِي طَيِّب وَحِمْلِي خَفِيفٌ.



تفسير مُعمَّق من الآباء والقديسين لإنجيل القديس متى البشير ١١: ٢٥-٣٠

قبول البسطاء له

الذين ظنّوا في أنفسهم أنهم حكماء رفضوه، بينما قبله البسطاء، فأعلن لهم أسراره الإلهيّة، مقدّمًا تسبحة فرح وتهليل لأبيه من أجلهم:

“في ذلك الوقت أجاب يسوع وقال:
أحمدك (اعترف لك) أيها الآب رب السماء والأرض،
لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال” [25].

حقًا إن الله يشتهي أن يقدّم أسراره للبشريّة بلا محاباة، ولا يمنع أحدًا من معرفته، لكن الذين يظنّون في أنفسهم أنهم حكماء وفهماء كالفرّيسيّين المتعجرفين أو الغنوسيّين الذين نادوا أنهم أصحاب معرفة gnosis عقليّة قادرة على خلاصهم، هؤلاء يتثقّلون بالأنا فلا يقدرون أن يدخلوا طريق المعرفة الإلهيّة الحقّة، أمّا من يقبل المسيّا الملك في بساطة قلب ويحمل صليبه في تواضعٍ، يكون كطفل قد ارتمى في حضن أبيه، فيدخل به السيّد إلى معرفته، إذ يقول السيّد المسيح: “نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرّة أمامك. كل شيء قد دُفع إليّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يُعلن له” [26-27].

“اعترف لك (أحمدك) أيها الآب…” [25]. تبصَّروا الآن إن كان المسيح البعيد عن كل الخطايا يقول: “اعترف”، فإن الاعتراف لا يخصّ الخطاة فحسب بل يخصّ أحيانًا الذين يسبّحون الله أيضًا. لذلك فإنّنا نعترف بتسبيحنا لله أو باستذناب أنفسنا. وكِلا الأمرين هو اعتراف حسن، سواء في لوْمكم أنفسكم يا من لستم بلا خطيّة، أو في تسبيحكم الله الذي بلا خطيّة.

استمع إلى اعتراف الرب! “اعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض”. هذا الاعتراف كما سبق أن قلت يعني “الحمد”. لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال”. ما هذا يا إخوتي؟ لتفهموا (ماذا يقصد بالحكماء والفهماء) ممّا جاء بعكسهم (الأطفال)، إذ لم يقل أعلنتها للأغبياء والجهلاء، بل “أعلنتها للأطفال“… أخفاها عن هؤلاء الحكماء، الذين هم بالحق مثار سخرية ومتكبّرون، الذين يتظاهرون باطلاً أنهم عظماء، ولكنهم بالحق ليسوا إلا متكبّرين… من هم الأطفال؟ إنهم المتّواضعون… بقوله “أعلنتها للأطفال” أوضح أنه يقصد “الكبرياء” تحت اسم الحكمة والفهم…

“بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء” (رو 1: 22). هنا تجد علاجًا تعرفه من الضدّ. فإذ تزْعم أنك حكيم تصير جاهلاً!

فلتعترف في نفسك أنك بذاتك جاهل فتصير حكيمًا، ولكن لتشهد بذلك بالحق. اعترف بهذا في القلب، لأن هذه هي الحقيقة. فإن شهدت بذلك لا تشهد به أمام الناس دون أن تعترف به أمام الله، معلنًا أن كل ما يخصّك بكلّيتك مظلم… لتعترف أنك لست نورًا لنفسك بل بالحقيقة أنك عين لا نور، وما فائدة العين حتى المفتوحة والسليمة دون وجود نور؟ لتعترف أنك لست نورًا لنفسك، ولتصرخ كما هو مكتوب: “لأنك أنت تضيء سراجي. الرب إلهي ينير ظلمتي” (مز 18: 28). لأني كنت بكلّيتي ظلمة ولكنك أنت هو النور الذي يبدّد ظلمتي وينير لي. أنا لست نورًا لنفسي، ليس لي نصيب في النور إلاّ بك!

“اعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء”. أخفيتها عن هؤلاء الذين ظنّوا في أنفسهم أنهم نور مع أنهم ظلمة… فلم يستطيعوا أن يستضيئوا. وأما الذين هم ظلمة واعترفوا بذلك، فقد كانوا أطفالاً صغارًا وليسوا بعظماء، كانوا متواضعين وليسوا متكبّرين. لقد حقّ لهم أن يقولوا: “أنت تضيء سراجي”. إنهم يعرفون أنفسهم ويمدحون الله فلم يضلّوا عن طريق الخلاص. ( القدّيس أغسطينوس )

حقًا إنه لم يمنع أحدًا عن معرفته، لكن الطريق إليه بالنسبة لنا كرب والباب ضيق، لا يقدر أحد أن يدخله سوى البسطاء المتواضعون. ما هو الطريق إلا شخص المسيح نفسه، الذي يقول: “أنا هو الطريق والحق والحياة”، يحملنا فيه بكوننا نحمل سماته من بساطة وتواضع وحب الخ. كأعضاء في جسده المقدّس، ليدخل بنا إلى حضن أبيه ونتعرّف على أسراره، فيفرح بنا الآب. لهذا يكمّل السيّد حديثه، قائلاً: “نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك. كل شيء قد دُفع إليّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يُعلن له. تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم، وتعلّموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هيّن وحملي خفيف” [26-30].

لقد أوضح السيّد في حديثه الآتي:


أ. الابن هو الطريق لمعرفة الآب.

ب. يدعو الابن المتعبين للدخول إلى راحة المعرفة الحقيقيّة.

ج. يدعونا الابن لحمل نيره خلال سمتيّ الوداعة وتواضع القلب.

د. نيره الذي نحمله حلو، وحمله خفيف.

أ. الابن هو طريق معرفة الآب

لا يستطيع أحد أن يدرك من هو الآب في جوهره إلا الابن الوحيد الجنس، الواحد معه في الجوهر، ولا يقدر أحد أن يدرك من هو الابن غير الآب وحده. ولما كانت مشيئة الله أن نتعرّف عليه فنحبّه ونقبل الاتّحاد معه، لهذا جاءنا الابن يحمل طبيعتنا لكي يدخل بنا إلى المعرفة الإلهيّة، حملنا فيه حتى نقدر أن نُعاين ما لا يُرى وندرك ما لا يُدرك. ليس طريق آخر به تقدر النفس أن تتعرَّف على إلهها إلا باتّحادها بالابن الوحيد.

يخاطب القدّيس أغسطينوس الآب، قائلاً: [إننا نقول أنه بالمسيح قد صار لنا باب الدخول إليك.]

في دراستنا لسّر الإفخارستيا، أدركنا أن ذبيحة المسيح تحملنا إلى الثبوت في المسيح يسوع الذبيح بكونه رأسنا، خلالها نتعرّف على الآب الذي يعرفه الابن. وقد ركَّزت الليتورجيّات الأولى على تأكيد سرّ الإفخارستيا كسرّ معرفة الله خلال ابنه. ففي قداس الأسقف سرابيون يُقال: لتتبارك نفوسهم بالفهم والمعرفة والأسرار لكي يشتركوا فيها، ليتبارك الكل معًا خلال الابن الوحيد يسوع المسيح.]

ب. يدعو الابن المتعبين للدخول إلى راحة المعرفة الحقيقيّة

ينادي السيّد جميع المتعبين، قائلاً: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” [28].

ليس عجيبًا أن يدعو السيّد المتعبين جميعًا لنوال الراحة فيه بعد أن أعلن أنه وحده العارف للآب وواهب المعرفة. ففيه نكتشف محبّة الآب الفائقة ونتعرّف على حنوّه نحونا، إذ يقول الرسول بولس: “الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟! من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرّر! من الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات بل بالأحرى قام أيضًا الذي هو أيضًا عن يمين الله الذي أيضًا يشفع فينا!” (رو 8: 32-35). ففي المسيح يسوع عرفنا الآب كمحب البشر لم يبخل علينا بشيء بل قدّم ابنه فِدية عنّا. فماذا نطلب بعد؟! وفي المسيح رأيناه الديّان الشفيع في نفس الوقت. فممن نخاف؟! هذا هو سرّ راحة الجميع!

يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على دعوة السيّد المسيح للمتعبين من أجل راحتهم قائلاً: [إذ يحمل الرب نحونا حنانًا يدعونا إليه ولا يرهبنا. جاء في وداعة، أتى في تواضع… إنه يلاطفنا ولا يطردنا أو يلقينا خارجًا. هكذا اختار أيضًا تلاميذ مناسبين يفسِّرون إرادة الرب إذ يجمعون شعب الله (بالحب) ولا يشتّتونه (بالقسوة).]

يناجي القدّيس يوحنا سابا ربنا يسوع كسرّ راحته، قائلاً: [طوبى للحامل في قلبه ذِكرك في كل وقت، لأن نفسه تسكر دائمًا بحلاوتك!… طوبى لذاك الذي يطلبك في داخله كل ساعة، منه تجري له الحياة ليتنعّم!…]

كما يقول: [إن كنت تحزن في طلبه فستبتهج بوجوده! إن كنت تتألّم لكي تنظره بالدموع والضيق، فإنه يظهر لك حسنة (جماله) داخلك فتنسى أحزانك.]

ج. يدعونا الابن لحمل سمتيّ الوداعة وتواضع القلب

لا نستطيع أن ندخل طريق المعرفة الحقيقيّة إلا بالمسيح يسوع نفسه الوديع المتواضع القلب، نحمله فينا فنحمل سماته ونتأهّل لإدراك الأسرار الإلهيّة:


“احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني” [29]، لا في خلقه العالم، ولا في خلقه الأمور المنظورة وغير المنظورة، ولا في صنع المعجزات وإقامة الموتى في العالم الذي خلقه هكذا، وإنما “لأني وديع ومتواضع القلب”.

أتريد أن تكون عظيمًا؟ ابتدئ من الآخر!

أتريد أن تقيم بناءً غالبًا قويًا؟ فكِّر أولاً في أساس التواضع!…

ما هي قمّة تشييد هذا البناء الذي نؤسّسه؟ إلى أين تبلغ قمّة هذا البناء العالي؟ أقول حالاً إلى رؤية الله! ألا ترى كم هو عظيم أن تُعاين الله؟! إن من ارتفع إلى هذا الأمر يقدر أن يفهم ما أقوله وما يسمعه!… وإذ القمّة مرتفعة فكّر في الأساس. أي أساس؟ ماذا تقول؟ تعلّموا منه لأنه وديع ومتواضع القلب. لتحفر فيك أساس التواضع هذا عميقًا، فتحصل على قمّة المحبّة! ( القدّيس أغسطينوس )

د. النير العذب

إذ يدخل البسطاء باب المعرفة الحقيقيّة خلال اتّحادهم بالسيّد المسيح نفسه. يحملونه فيهم، فيجدون نيره هيّن وحمله خفيف، فتستريح نفوسهم في داخله. حقًا لقد دعانا لحمل الصليب والإماتة معه كل، لكن مادام الصليب خاص به والموت هو شركة معه تتحوّل الآلام إلى عذوبة والموت إلى حياة والصلب إلى قيامة، بهذا يصير النير هيّنًا، لأنه نير المسيح، والحمل خفيفًا لأنه حمله هو.

إن كنت لا تصدّق أقوالنا اسمع من رأوا ملامح الشهداء وقت صراعاتهم، عندما كانوا يُجلدون ويُسلخون، إذ كانوا في فرحٍ زائد وسرور. حينما كانوا يُقصون على حديد محمّى بالنار يتهلّلون وتبتهج قلوبهم كمن هم ملقون على سرير من الورود. لهذا يقول بولس وهو يرحل خاتمًا حياته بموت عنيف: “أُسرّ وأفرح معكم أجمعين، وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضًا وافرحوا معي” (في2: 17-18). انظروا بأي لغة قويّة يدعو العالم كلّه ليشترك معه في بهجته؟ ( القدّيس يوحنا الذهبي الفم )

“احمل نيري عليك، لأن نيري طيّب وحملي خفيف”. حين أقول بأن تكفر بنفسك إذا أردت أن تتبعني، فهل تجد وصيّتي هذه قاسية وصعبة؟ ليست قاسية عليك ولا ثقيلة لأني معين لك. المحبّة تخفّف من قسوة الوصيّة! ( القدّيس أغسطينوس )

أي شيء يكون ثقيلاً وصعبًا على من احتضن بكل قلبه نير المسيح، متأسّسًا على التواضع الحقيقي، مثبِّتًا أنظاره على آلام الرب على الدوام، فرحًا بكل ما يصيبه، قائلاً: “لذلك أُسرّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي” (2 كو 12: 10)… كيف تصير حلاوة نير المسيح العجيبة مرّة؟ إلا بسبب مرارة شرّنا! كيف يصير الحمل الإلهي الخفيف للغاية ثقيلاً؟ إلا لأنه في وقاحتنا العنيدة نستهين بالرب الذي به نحمل حمله!، خاصة وأن الكتاب المقدّس بنفسه يشهد بذلك بوضوح، قائلاً: “الشرّير تأخذه آثامه وبحبال خطيّته يُمسك” (أم 5: 22)؟أقول أنه من الواضح أننا نحن الذين نجعل من طرق الرب السهلة السليمة طرقًا متعبة، وذلك بسبب حجارة شهواتنا الرديئة الثقيلة، إذ بغباوة نجعل الطريق الملوكي محجرًا، وبترك الطريق الذي وطأته أقدام كل القدّيسين بل وسار فيه الرب نفسه، باحثين عن طريق ليس فيه آثار لمن سبقونا، طالبين أماكن مملوءة أشواكًا، فتعمينا إغراءات المباهج الحاضرة، وبتمزّق ثوب العرس بالأشواك في الظلام… وقد تغطى الطريق بقضبان الخطايا، حتى أننا ليس فقط نتمزّق بأشواك العوسج الحادة، وإنما ننطرح بلدغات الحيّات المميّتة والأفاعي المتوارية هناك، “لأنه شوك وفخوخ في طريق الملتوي” (أم 22: 5). ( الأب إبراهيم )

نسمع الرسول وهو تحت هذا النير الهيّن والحمل الخفيف يقول: “بل في كل شيء نُظهر أنفسنا كخُدّام الله في صبرٍ كثيرٍ في شدائدٍ في ضروراتٍ في ضيقاتٍ في ضرباتٍ الخ…” (2 كو 6: 4). وقي موضع آخر من نفس الرسالة يقول: “من اليهود خمس مرّات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرّات ضُربت بالعصى، مرّة رجمت، ثلاث مرّات انكسرت في السفينة ليلاً ونهارًا قضيت في العمق” (2 كو 11: 24، 25) الخ، وبقيّة المخاطر التي حقًا يمكن إحصاءها، ولكن لا يمكن احتمالها إلا بمعونة الروح القدس. لقد كان يعاني على الدوام وبكثرة من كل هذه التجارب الثقيلة والخطيرة التي أشرّنا إليها، ولكن في نفس الوقت كان الروح القدس يعمل فيه لإبطال الإنسان الخارجي وتجديد إنسانه الداخلي دومًا فيومًا. فبتذوّقه الراحة الروحيّة في مباهج الرب الغزيرة تهون المتاعب الحاضرة، على رجاء البركة المستقبلة وتخِفّ التجارب الثقيلة. هوذا ما أحلى نير المسيح الذي حمله! وما أخف ذلك الحمل!…

كم يسهل احتمال الضيقات الزمنيّة من أجل تجنُّب العقاب الأبدي وإدراك الراحة الأبديّة. لم يقل الإناء المختار اعتباطًا بفرح زائد: “فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستُعلن فينا” (رو 8: 18). انظر كيف أن ذلك “النير الهيّن والحمل الخفيف”، إن كان عسيرًا على القليلين الذين اختاروه لكنّه سهل للذين يحبّونه. ( القدّيس أغسطينوس )

كل شيء يقلقنا ويفسد القلب في أساسه ويضغط علينا هو من الشيطان، الذي هو نفسه الاضطراب والضيق الأبدي، أمّا الرب فهو سلام القلب وراحته. ( الأب يوحنا من كرونستادت )

يمكننا في إيجاز أن نقول أن البسطاء يقبلون الملك المسيّا ويحملون صليبه كنيرٍ عذبٍ، سرّ عذوبته أنهم فيما هم يحملونه يكتشفون ملكهم الحامل للصليب معهم وعنهم وفيهم أيضًا.

مرحِّبًا بالنير إن كان هو نير المسيح، فإنّنا لن نقدر أن نلتقي بمسيحنا خارجًا عن نيره، ولا أن نتعرّف على أبيه بدون صليبه!

***

تعليق على الإنجيل المُقَدَّس من القدّيس كيرِلُّس (380 – 444)، بطريرك الإسكندريّة وملفان الكنيسة ( العظة 65 عن القدّيس لوقا )

كشف السرّ المكتوم منذ ما قبل إنشاء العالم.

فلنفكّر في الكلام الذي وجّهه الرّب يسوع للآب بشأننا: “أحمَدُكَ يا أبَتِ، رَبَّ السماءِ والأرض، على أنّكَ أخفَيتَ هذه الأشياءَ على الحُكَماءِ والأذكِياء، وَكَشَفتَها لِلصغار. نَعَم، يا أبَتِ، هذا ما كانَ رِضاكَ” (لو 10: 21).

في الواقع، لقد كشف لنا الآب السرّ المكتوم منذ ما قبل إنشاء العالم في صمت الله، سرّ الإبن الوحيد المتجسّد، السرّ الذي عُرِف قبل إنشاء العالم، والذي كُشِف للبشر في الأزمنة الأخيرة. لقد كتب القدّيس بولس ما يلي: “أَنا أصغَرَ صِغارِ القدّيسينَ جَميعًا وُهِبَت لي هذه النعمةَ وهي أَن أُبشّرَ الوَثنيّينَ بما في المسيحِ مِن غِنًى لا يُسبَرُ غَورُه، وأُبَيِّنَ كَيفَ حُقِّقَ ذلك السرُّ الذي ظَلَّ مَكتومًا طَوالَ الدهورِ في اللهِ خالِقِ جَميعِ الأشياء” (أف 3: 8-9).

كان سرّ مُخلّصنا العظيم، هذا السرُّ الّذي يلق أن يُعبَد، كان مكتومًا في معرفة الآب، منذ ما قبل إنشاء العالم. نحن أيضًا معروفون مسبقًا ومختارون منذ الأزل للتبنّي.

لقد علّمنا القدّيس بولس مجدّدًا ذلك حين كتب: “تَباركَ اللهُ أبو ربِّنا يسوعَ المسيح. فقَد بارَكَنا كلَّ بَرَكَةٍ روحِيَّة في السمَواتِ في المَسيح. ذلك بأنّه اختارَنا فيه قَبلَ إنشاءِ العالَم لِنَكونَ في نَظَرِه قدّيسينَ بِلا عَيبٍ في المَحبَّة، وقَدَّرَ لنا مُنذُ القِدَم أن يَتَبنّانا بِيَسوعَ المسيح على ما ارتَضَته مَشيئتُه” (أف 1: 3-5). إذًا، فقد كشف الآب، لنا نحن الصغار، السرّ الكتوم منذ الأزل. لقد قالَ لنا الرّب يسوع: “أنتُم أُعطيتُم أن تَعرِفوا أسرارَ مَلكوتِ الله” (لو 8: 10)، أنتم الذين آمنتم، أنتم الذين عرفتم ما كشفه الرّب يسوع المسيح، أنتم الذين سمعتم الشريعة بالمعنى الروحي، أنتم المؤهّلين لفهم النبوءات، أنتم الذين تعترفون بأنّ المسيح هو الله وابن الله، أنتم الذين كشف لكم الآب عن ابنه.

♱ الۤمَجْدُ للآبِ وَالِإبنِ وَالرُّوحِ القُدُس كَمَا كَان فِي البَدْءِ وَالۤآن وَعَلى الۤدَّوام وَإلى دَهْرِ الۤدَّاهِرِين آمين ♱

++++++

ملاحظة:
(ان المرجع الذي نأخذ منه نصوص الانجيل المُقَدَّس هو النسخة المعتمدة في الكنيسة الكاثوليكية جمعاء وهي المعصومة من الخطأ والمدقق في تعابيرها كلمة كلمة: الكتاب المُقَدَّس الفولغاتا BIBLIA SACRA VULGATA).

وَالمَجْد لِيَسُوعَ الۤمَسِيح ♱ دَائِماً لِيَسُوعَ المَسِيح