امين محمد حطيط –
عندما تعتمد دولة ما النظام الديمقراطي تكون قد اختارت حكم الشعب ممثلاً بأكثريته، لأنّ الوصول إلى إجماع الشعب أمرٌ متعذّرٌ واقعياً إلا قليلاً وفي حالات تكاد تكون نادرة. وعندما نقول بالأكثرية، فإنّ الأمر لا يكون بحاجة إلى اجتهاد أو فلسفة، فالأكثرية تعني الأكثرية العددية من المجموع، وقد يُختلف على نسبتها فقط. وأقل الأكثريات، كما هو معروف، هي الأكثرية المطلقة التي يعبّر عنها بأكثرية النصف زائداً واحداً او أدق تعبيراً ودلالة العدد الصحيح الذي يلي النصف، خاصة عندما يكون النصف كسراً فتكون الأكثرية بتدوير الرقم إلى الأعلى أكثرية من 99 صوتاً هي 50 صوتاً وليس 51 كما عُمل بها في انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في العام 1970 .
لكن هذه النظرية السهلة والبسيطة والواضحة تصطدم في التطبيق العملي بعوائق تتأتى بشكل خاص عن عدم وجود المجتمع المتجانس في مكوّناته أو لنقل المتعدّد المكونات المتمايزة عرقياً ودينياً وإثنياً الخ… حيث إن اعتمادها يؤدي إلى سيطرة الكتلة الأكبر عدداً على باقي الكتل، وإن لم توجد مثل هذه الكتلة التي تبلغ الأكثرية المطلقة أمكن تشكل ائتلاف كتلتين أو أكثر لإقصاء أو تهميش الكتل الأقلّ حجماً وعدداً أو حتى إلغائها.
من هنا نشأت في أنظمة الحكم التي تعتمد في المجتمعات غير المتجانسة نظرية ثنائية المجالس التمثيلية مجلس يرعى شؤون الكتل ومجلس يرعى شؤون الأفراد. ويختص الأول ويُسمّى مجلس الشيوخ أو مجلس الحكماء، برعاية شؤون الكتل حفظاً للوجود والدور والفعالية والحقوق ككتل، ويُناط بالثاني أمر رعاية شؤون الأفراد كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات بدون تمييز او افتئات.
وفي لبنان عندما أنشئت الدولة بقرار من المفوض السامي الفرنسي في العام 1920، تضمّن دستورها في صيغته الأولى النص على مجلسين شيوخ ونواب ولكن لم تكن صلاحيات مجلس الشيوخ صريحة وواضحة للقيام بالوظيفة المشتملة على حفظ الطوائف التي يتكوّن منها لبنان، فتمت المسارعة إلى إلغائه ولُحظت بشكل مؤقت أحكامٌ دستورية لمراعاة حقوق الطوائف في التمثيل السياسي والحكومة والإدارة بشكل عادل. النص الذي كان مدخلاً لنظام الطائفية السياسية والمحاصصة المقيت الذي انحرف بمسار بناء الدولة عن اتجاه دولة المواطن إلى اتجاه دولة الطوائف وأسّس لقيام الانتماء إلى الوطن على درجتين درجة أساسية وهي الانتماء إلى الطائفة، ودرجة لاحقة وأقل أهمية وهي انتماء الطائفة إلى الوطن، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمامها للارتباط بجهة خارجية حتى باتت مسألة انتماء الطائفة إلى دولة أو محور خارجي أمراً مألوفاً ومعمولاً به دون أن يثير غرابة أو استهجان. وبات استقواء الطوائف على بعضها بالخارج أمر في بالغ اليُسر والسهولة وهنا نشأت مقولة إرادة الخارج في الداخل اللبناني وبات لبنان مسرحاً للصراعات الإقليمية أو الدولية.
أمام هذا الواقع، وبعد حرب داخلية استمرت 14 سنة تخللها اجتياحان إسرائيليان، التقى في مدينة الطائف في المملكة السعودية مَنْ كان تبقى مِن مجلس نيابي لبناني انتخب في العام 1972 وجدّدت ولايتهم لـ 13 سنة إضافية، التقوا في العام 1989 ووضعوا وثيقة وفاق وطني إصلاحية نصّت في ما نصت عليه على العودة إلى مجلس الشيوخ على أساس طائفي وإلى مجلس نواب خارج القيد الطائفي، ونقل الاتفاق إلى الدستور، فاعتمد فيه بنص المادة 22 منه التي نصّت على وجوب إنشاء مجلس شيوخ مباشرة بعد انتخاب مجلس نواب غير طائفي. كما نصت وثيقة الوفاق الوطني على وجوب العمل لإيجاد آلية لإلغاء الطائفية السياسية في لبنان أي إيجاد آلية لإسقاط الانتماء في لبنان من الدرجتين إلى الدرجة الواحدة أي بدلاً من الانتماء إلى الطائفة ثم إلى الوطن، يكون الانتماء إلى الدولة مباشرة من دون المرور بالطائفة وهو أمر ينشّط الحياة السياسية ويتيح قيام الأحزاب غير الطائفية ويساهم في بلورة الوحدة الوطنية.
لقد شكّل اتفاق الطائف في هاتين النقطتين نقلة نوعية في النظام السياسي اللبناني، خاصة أنه عالج فيهما ثلاث معضلات أساسية: الأولى عدم المساواة بين اللبنانيين، والثانية الارتباط والانتماء إلى الخارج والثالثة التكتل الطائفي بدلاً من الوطني.
إن اللبنانيين في الواقع، ورغم النص الدستوري على مساواتهم في الحقوق والواجبات فهم في الواقع غير متساوين في الحقوق مطلقاً ومتساوين في الواجبات نظرياً خاصة، وإن مراكز الدولة موزعة على الطوائف والطوائف تتحكم بها مراكز القوى الدائمة او ما أُسمِي بأمراء الطوائف، ثم إن هؤلاء الأمراء يحمون أزلامهم في السلطة بعيداً عن المساءلة والحساب مهما ارتكبوا. أما في المعضلة الثانية، ويا للأسف، فقد بات الأمراء أنفسهم يشكلون مندوبين أو سفراء أو ممثلين للخارج في لبنان، وبات هؤلاء مزدوجي الجنسية والولاء يتقدّم ولاؤهم الأجنبي على اللبناني في كثير من الأحيان، لظنّهم أن الخارج هو مَن يثبّتهم أمراء على طوائفهم وليس الطوائف والشعب مَن يأتي بحكامه إلى السلطة. وهنا كانت السلبية الفظيعة، وهي انتفاء المحاسبة الشعبية مهما فعل السياسي الذي بات محصناً بثلاثة أنواع من الضمانات والأحزمة: حزام الغرائز الطائفية وحزام التبعية الخارجية وحزام ما نُهب وجُمع من أموال ونفوذ في السلطة التي يُشغل مقاعدها.
واليوم عندما يطرح في لبنان موضوع قانون الانتخاب نجد الأمراء الذين يخشون على مواقعهم يرفضون تطبيق الدستور، ويرفضون العمل بالمادة 22 منه تحديداً وبطبيعة الحال يرفضون أي طرح يؤدي إلى كسر ازدواجية الولاء والانتماء لإقامة أحادية الانتماء والولاء والوطن. وهنا يشتدّ التناقض في مواقف البعض. حيث إنهم يطالبون باعتماد سياسة النأي بالنفس أو الحياد عن الصراعات الخارجية ويتمسّكون في الوقت ذاته بنظام ثنائية الانتماء وتقديم الولاء للخارج على الولاء للوطن. ثم ينادون بتطبيق الدستور والعبور إلى الدولة ورفض منطق الدويلة أو الدويلات في الوقت الذي يرفضون فيه تطبيق الدستور ويرفضون بناء دولة المواطن ويرفضون بناء دولة القانون ويُصرّون على النظام الطائفي الذي يحفظ لهم مواقعهم وحصصهم.
إن لبنان في الحقيقة ليس أمام معضلة أي قانون انتخاب يريد ليكون الأنسب، بل إنه أمام معضلة أكبر تتمثل بالسؤال: هل يريد اللبنانيون دولة ووطناً يتساوى فيها المواطنون؟ أم يريدون المحافظة على الدويلات الطائفية القائمة والتي تصحّ في تسميتها «الإمارات الطائفية اللبنانية الفيدرالية»، هل يريدون إقامة الجمهورية اللبنانية ذات النظام الديمقراطي الذي ينصّ عليه الدستور أم المحافظة على فيدرالية الطوائف القائمة بالعرف خلافاً للدستور؟
أما الجواب فيكون عملياً من خلال قانون الانتخاب، فإذا استمرّ القانون النافذ حالياً بذاته أو بصيغ التحايل عليه لإعادة إنتاجه ليخدم أهداف دولة الطوائف، فإننا لن نشهد إصلاحاً ولا إنتاجاً لدولة، أما إذا تمّ اعتماد نظام انتخابي عادل ليس في تمثيل الطوائف فحسب، بل في تمثيل المواطن قبل الطوائف، فنكون على الطريق الصحيح لبناء جمهورية حقيقية. إذ لا يجوز أن يكون للمواطن في منطقة من لبنان قوة صوت تؤدي إلى إيصال 10 نواب وفي مكان آخر لا يتمكّن بصوته من إيصال أكثر من نائب أو نائبين. وليس مقبولاً في دولة تدّعي أنها جمهورية يتساوى فيها المواطنون أن يُحرم 85 من المواطنين من فرصة الوصول إلى رئاسة الجمهورية أو وظائف محددة في الفئة الأولى، أو يُحرم 68 من اللبنانيين من فرصة الوصول إلى رئاسة مجلس النواب أو رئاسة الحكومة أو مناصب الفئة الأولى المخصّصة لطوائف حصراً.
ان الحل للخلل السياسي والحقوقي في لبنان لا يكون إلا في تطبيق الدستور واعتماد نظام المجلسين واحد للطوائف وبالتساوي بينها وآخر للمواطنين وبالتساوي بينهم، ويكون نظام الانتخاب القائم على النسبية في الدائرة الواسعة أو لبنان كله دائرة واحدة او نظام صوت لكل مواطن، وينجح مَن استحصل على الأصوات الأكثر، وفي حين ينتخب مجلس الشيوخ الطائفي من قبل الطوائف ومجلس النواب غير الطائفي من قبل المواطنين اللبنانيين هذا إذا أردنا قيام دولة، وكل ما عداه سيكون تعمية عن الحقيقة وهدراً للوقت وانتظاراً لانهيار الدولة المظنون قيامها.
المصدر: البناء