عَ مدار الساعة


*من يهرب تجده القذيفة…* 😉 (القديس باييسيوس)


في الحروب (الأزمات) وعند سقوط القذائف (المصائب) ينكشف من يفكّر بنفسه أو بالآخرين.

القلبُ يشبهُ آلةً تُشحن وكلّما اشتغلت شُحنت.. والموت يرتعد من الأبطال..

جزءٌ يسير ممّا فعله باييسيوس في الجندية..

لا يتذوّق الناس الفرح الناجم من التضحية ولذلك هم في عذاب. يفتقرون الى الغايات السامية ويستثقلون العيش. الشجاعة ونكران النفس حافز قوّة للإنسان. قديمًا كانوا في القرى يتسللون تحت جنح الظلام لشقّ طريقٍ وفتحها دون إحداث ضجّة ليترحّم عليهم الناس بعد مماتهم. أين روح التضحية هذه في عصرنا الحاضر؟

… لا شيء كالنبل في التصرّف والتضحية يؤثّر بالله. أمّا في هذا العصر فيندرُ النبل لأنّ الأنانية تستبدّ بالإنسان. كل عملٍ صادرٍ عن القلب لا يُتعب. القلبُ يشبهُ آلةً تُشحن وكلّما اشتغلت شُحنت. الفرحُ الأسمى وليدُ التضحية. ومن يضحِّ يُقم علاقةً مع المسيح لأن المسيح هو التضحية.

أنا لم أفعل شيئًا من أجل المسيح. لو فعلتُ من أجل المسيح جزءًا يسيرًا ممّا فعلته في الجندية لكنتُ الآن أترح العجائب. لذلك عندما دخلت الحياة الرهبانية قلتُ لنفسي: “لقد تكبدّتُ مشقاتٍ كثيرة في الجندية من أجل الوطن فماذا أعملُ اليوم من أجل المسيح؟”

هل تَعلمْنَ الأصوام التي كنّا نقوم بها في العمليات العسكرية؟ كنّا نأكل حبّات الثلج. وقد أعاقني حملُ الجهاز اللاسلكي والبطاريّة عن التفتيش عن شيء صالح للأكل، لذلك بقيتُ صائمًا لمذّة 13 يوم لم آكل في خلالها سوى كسرةٍ من الخبز ونصف علبة سردين. كنت أشربُ من المياه الراكدة في مواضع وطئتها حوافر الدواب وكانت المياهُ موحلة. ذات مرة عطشتُ عطشًا شديدًا فرأيتُ موضعًا وطئته أقدام حيواناتٍ تجمعّت في مياه صفراء، فشربتُ وشربتُ. لذلك فإنني اليوم في الحياة الرهبانية أشربُ الماء ولو سبحت فيه بعض الحشرات الصغيرة وأعتبرها بركةً عظيمة.

في أحد الأيام من شهر كانون الأول 1948 انقطع الخطّ فصدرت الأوامر بعد الظهر بالذهاب إلى القرية التي تبعدُ مسيرة ساعتين لإصلاح الخط والعودة. كان التعبُ والإرهاق الشديدين قد نالا من الجنود فبدوا غير متحمسين لإنجاز هذه المهمة خاصة مع إقتراب حلول الظلام وصعوبة العثور على الخط وسط ثلوج كثيفة. انطلقنا ورحنا نفتح الطريق بالرفوش وتقدمّنا قليلاً. سرت في المقدمة وطلبتُ من الجنود عدمَ إضاعة الوقت. أبدى الجنود معارضة لأن المهمة محفوفة بالمخاطر وهم معرّضون للموت في كل لحظة. تقدمتُ وغرقتُ في الثلج مرات وانتشلتُ مجددًا . استعنتُ بسيف كان بحوزتي للحفاظ على التوازن حيث يكون الخطّ في الجو. أخيراً وصلنا الى قريةٍ انتشرت فيها جلول الصخرية وقد غطّتها الثلوجُ الكثيفة التي يحملها الهواء.. لا تسلنَ كيف هبطنا هذه الجلول وكم مرة غرقنا في الثلوج حتى وصلنا الى القرية في ساعة متأخرة. تمّ إصلاح الخطّ الذي وُجد مقطوعًا في إحدى الحفر.. بقينا في أحد المنازل وقُدمت لنا لبطانيات وخصّني الآخرون بشيءٍ من الدفء لأنني دفعتُ الثمن تعرضًا للبرد وبللًا للثياب. ومع ذلك فلم أشعر بحياتي بفرحٍ كذلك الفرح الذي حظيتُ به تلك الليلة.

أخبركم عن الحوادث التي جرت لكي تعرفن معنى التضحية. لا أطلب تصفيقًا وإنما أريدُ أن تفهمنَ كيف يبزغ الفرح الروحي.. في مكتب الإتصالات، كان أحدهم يكذب عليَّ قائلاً: “لقد جاء جاء والدي وعليّ رؤيته فاجلسْ مكاني قليلًا”. وآخر يدعي أن أخته حضرت وعليه واجب رؤيتها. كنت أنوب عن هؤلاء وأضحّي. فضلاً عن ذلك كنت أحمل المكنسة وأنظّف كلّ الغرف معللا السبب بأنني في الخدمة والمكان مقدّس بطريقة ما ويجب أن يكون نظيفًا مرتبًا.. كان رفاقي يعيّرونني مطلقين عليَّ لقب “خادمة”. لم أعر هذا الكلام اهتمامًا ولم أفعل ذلك استدرارًا لشكرٍ أو استحسانٍ إنما لشعوري بضرورة القيام بذلك والشعور بالفرح النابع من الداخل.

في الحروب وعند سقوط القذائف ينكشف من يفكّر بنفسه أو بالآخرين.

من يفكّر دومًا بنفسه يُعرض عنه الآخرون ولا يقدّمون له المساعدة. يخسرُ المساعدة البشرية المساعدة الإلهية. أمّا الذي ينكرُ ذاته ويفكّر بالآخرين يفكّر به الله على الدوام. من ينسَ ذاته يتذكّره الله.

جميع الجنود في الجيش كان لديهم هدفٌ مشترك. كانت التضحية القاسم المشترك الذي يجمع بينهم بغضّ النظر عن إيمانهم بالحياة الأبدية أم لا. التضحية التي كان يقوم بها هؤلاء هي أشرف وأعظم من تلك التي يقوم بها إنسانٌ مؤمن.

من يهرب تجده القذيفة. لذلك على الإنسان أن لا يفكّر بالهرب عندما يكون ذلك على حساب الآخرين. جندي حاول أن ينجو بنفسه في زمن الحرب فلم يُقم وزنًا لأحد وبقي مختبئًا في بيته في الوقت الذي كان الآخرون يعرّضون أنفسهم للمخاطر لمساعدة الآخرين. عندما جاء الإنكليز قابل هذا الرجل القائد “زيرفا” وحصل منه على إذنٍ بالذهاب الى أميركا كونه يحمل الجنسية الأميركية. ما إن وصل الى أميركا حتى وافته المنيّة. مات في حين أن رفاقه الذين خاطروا بأنفسهم وضحّوا ظلّوا على قيد الحياة.

.. أمّا البعض الآخر فبحفنة من الطحين كانوا يبلّغون عن الأشخاص الذين يملكون البنادق… الذين يموتون بشجاعة لا يموتون… من يعقد العزمَ على الموت لا يخاف شيئًا لأن الموت ضمانةٌ… عندما يتحرّك المرء ليُضحّي فانّ الله يحيطه بعنايته.

.. الموت في الحرب يكفّر عن الخطايا لأن الواحد يُضحّي كي يحمي الآخرين. ومن يضحّ بدافع المحبة النقية من اجل حماية الآخرين يماثل المسيح. هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون لأنهم يتّحدون الموتَ بالمحبة فيرتعدُ الموت منهم.. ويتقدمون بخفّة نحو الغبطة الأبدية.

المصدر: الناسك المغبوط باييسيس الآثوسي – اليقظة الروحية – دير الشفيعة الحارة الحرش بدبا – الكورة القسم الثالث * الشجاعة الروحية (ص: 176 – 186)