أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


المطران عودة: أصبحنا بلدًا يدمن تضييع الوقت.. يتهربون من التدقيق الجنائي ترى هل يخشى البريء من المحاكمة؟


إنهيار مالي وإقتصادي، وما من مسؤول واضح..


ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، قداسا إلهيا في مطرانية بيروت بحضور عدد من المؤمنين.

وبعد القداس ألقى المطران عودة عظة قال فيها: “خصصت كنيستنا المقدسة الأحد الرابع من الصوم لتذكار القديس يوحنا السلمي كاتب كتاب السلم إلى الله. لا نعرف الكثير عن هذا القديس الناسك، إلا أن غالبية ما نعرفه مقتبس من كتابه.

في السادسة عشرة من عمره تتلمذ يوحنا على أحد آباء دير سيناء، وقد قال عنه أحد شيوخ الدير إنه سيكون أحد أنوار العالم. في سن العشرين تنسك في الصحراء، حيث قضى أربعين سنة مجاهدًا جهاد التوبة والصلاة، ومختبرا شتى أنواع التجارب التي تعلم كيف يحاربها ويناجي الرب. أثناء الأربعين سنة، قام برحلة إلى الإسكندرية وزار أحد أديرتها. كان يستقبل الآتين إليه للاسترشاد من رهبان وعلمانيين، ويزور المرضى من المتوحدين، وقد شفى راهبا من تجربة شيطانية مزمنة، وأنقذ تلميذه من الموت. بسبب نشاطه، أصيب بعض الرهبان بالحسد والغيرة، فنعتوه بالثرثار، لذا صمت صمتا تاما مدة سنة كاملة، إلى أن جاء إليه الذين افتروا عليه راجين إياه أن يتكلم مجددا كلاما مخلصا للنفوس. في نهاية الأربعين سنة، انتخب يوحنا رئيسا لدير جبل سيناء، وهناك كتب كتابه “السلم إلى الله”. قبل رقاده، إستقال يوحنا من رئاسة الدير وعاد إلى حياة النسك. نعيد له، في الأحد الرابع من الصوم، وفي 30 آذار، ذكرى رقاده”.

أضاف: “كلمة السلم مستوحاة من رؤيا يعقوب الواردة في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين. رتب القديس يوحنا في كتابه “السلم إلى الله” ثلاثين درجة، إشارة إلى سني الرب يسوع الثلاثين قبل ظهوره للعالم. ترجم الكتاب، بسبب أهميته الروحية، إلى عدة لغات، وكان أساسا للحياة الرهبانية شرقا وغربا.

من الأمراض الروحية التي يتحدث عنها القديس يوحنا، الكبرياء. يقول: “الرجل المتكبر يطمع بالرئاسة، ولشدة تمسكه بها لا يهلك إلا بسببها”. كثيرون يكونون أناسا محترمين، عابدين الله، محبين للآخر، مدافعين عن الحق والحقيقة. لكن، عندما يدخل مرض الكبرياء إلى نفوسهم، يبدأون بالإنحدار نحو نهايتهم الحتمية إذ يسعون وراء الرئاسة والظهور في الصفوف الأمامية، ويعملون على محو الآخر الذي كانوا يحبونه، وينسون الله، لأن سعيهم إلى حب الرئاسة والظهور ينسيهم أن الله هو الضابط الكل والرئيس الوحيد، فيسمحون لأنفسهم بما لا يسمح به الله، كي يصلوا إلى غايتهم ويشبعوا أناهم وكبرياءهم”.

وتابع عودة: “يحذر القديس يوحنا كل من وصل إلى رئاسة من أي نوع كانت قائلا: إن كنت قد وهبت عينين قادرتين على رؤية العاصفة من بعيد، فأخطر ركاب السفينة حسبما تقتضيه الحال، وإلا كنت وحدك سبب الغرق ما دام الجميع قد أوكلوا إليك قيادة السفينة، وألقوا عنهم كل هم”. إذا، لا يستطيع المسؤول أن يستخدم عبارات مثل: “لا أعرف”، و”لم أكن أعلم”، و”لم يخبرني أحد”. المسؤولية تقتضي أن يكون حاملها عينا ساهرة على الكل ومراقبة كل ما يمكنه إغراق السفينة. الرئاسة والمسؤولية ليسا قالب حلوى، بل صليب يحمله المسؤول بوعي ومحبة وتواضع وتضحية.

يحذر القديس يوحنا أيضا قائلا: بقدر ما يرى الرئيس أن ليس أبناؤه فقط، بل الغرباء أيضا، يولونه ثقة كبيرة، بهذا المقدار عليه أن يحترس كل الإحتراس في كل ما يفعل ويقول، عالما أن الجميع ينظرون إليه كإلى مثال يحتذى، ويعتبرون أقواله وأفعاله قياسا يعمل بمقتضاه”. المسؤول مثال وقدوة. كل حرف يخرج من فم المسؤول يحاسب عليه، وكل وعد يقدمه يسجل له. العيون مفتحة على كل ذي سلطة ومسؤولية، لذلك إن وعد عليه أن يفي، وإن أساء عليه أن ينتظر المحاسبة. إذا، المسؤولية كما يراها قديسنا، ليست مكانا للافتخار والكبرياء ومعاداة الجميع من أجل الحفاظ على العرش. المسؤولية خدمة، وقد علمنا ربنا يسوع المسيح، أنها غسل أرجل وصلب وموت. يقول القديس يوحنا: لست أعلم كيف تخفى حال معظم المتكبرين عن عيونهم، فيظنون أنهم قد تحرروا من الأهواء، ولا يدركون فقرهم إلا عند الرحيل. الكبرياء تعمي صاحبها، فيمر عمره وهو يظن أنه يفعل الخير، فلا يستمع إلى من يقدم له النصح، بل يعمل بما تمليه عليه أناه، ولا يعرف حقيقة نفسه إلا عندما يغادر هذه الأرض ويقف أمام الديان العادل. لذلك، على المسؤول الحقيقي أن يتسم بالتواضع، ويسمع كل كلمة توجه إليه، من أي كان، ويحاول العمل بالنصائح، عوض تجييش مناصريه، وفي عصرنا جيوشه الإلكترونية، بغية إسكات الآخرين، مدفوعا من كبريائه القاتلة”.

وأردف: “وصية أخيرة من القديس يوحنا يقول فيها: إن إدانة الآخرين اختلاس وقح لمقام الله، والحكم عليهم هلاك للنفس. في بلدنا، لا نسمع إلا مسؤولين يدينون بعضهم بعضا ويتبادلون الإتهامات. هل أصبحت المسؤولية إدانة للآخر بدلا من العمل معه من أجل الخير العام؟ جميعهم يتذمرون من الوضع ويشكون من الفساد، لكنهم يتهربون من التدقيق الجنائي ومن كل تدقيق ومحاسبة. ترى هل يخشى البريء من المحاكمة؟ لم يتضع واحد منهم ليتحمل مسؤولية أي إساءة بحق المواطنين. ثمانية أشهر مرت ولم يعرف مفجرو بيروت. سنوات من الظلمة، ولم يعلن عن المسؤولين عن غياب خطط لإنماء قطاع الكهرباء. إنهيار مالي وإقتصادي، وما من مسؤول واضح. الشعب موجوع، مريض، جائع، يائس، لذا عليه محاسبة كل مسؤول، وعدم الإنجرار وراء الزعماء بطريقة لا واعية. المسؤول، كما يقول القديس يوحنا السلمي، يمتلك الوداعة التي هي سكون للنفس، وتقبل الإهانات والكرامات بحال واحد على السواء. فغضب المسؤولين لا يسمح به، لأنهم لو كانوا يعملون حقا، لما وجدوا وقتا للتفاهات الناتجة من الغضب، كردود الفعل والردود المضادة، بل لكانوا افتدوا الوقت وجدوا في سبيل إيجاد المخارج الناجعة، والنافعة للجميع، ولكنا أصبحنا مثلا يحتذى في القيادة واستغلال الطاقات بأحسن الطرق، عوض أن نتصدر الأخبار كمثل عن تفشي وباء الفساد والإستزلام والفتك بالشعب وطاقاته”.

وقال: “لقد كان لبنان واحة الشرق بجمال طبيعته، وجامعة الشرق التي يقصدها طالبو العلم والمعرفة من كل صوب، ومستشفى الشرق الذي يداوي محيطه. كان موئل الأحرار ومثال الإنفتاح والتنوع والحرية والديموقراطية. أين هو الآن؟ إنه بلد مفلس، منهار، مظلم، فاسد، معزول عن العالم، مؤسساته التعليمية والاستشفائية مهددة بالإغلاق، تجاره مفلسون، شعبه يائس، أطباؤه وممرضوه وشاباته وشبابه يهجرونه ويلمعون في آفاق الأرض، لأن فرصا كثيرة تعطى لهم، فيما هم مقموعون في وطنهم. نحن نفقد طاقاتنا التي هي عماد الوطن وركيزة الاقتصاد. أصبحنا بلدا يدمن تفويت الفرص وتضييع الوقت. أصبحنا عاجزين حتى عن تأليف حكومة تتولى زمام الأمور وتقوم بالإصلاحات الضرورية لضخ بعض الأوكسجين في رئتي البلد”.

وختم عودة: “أملنا أن تثمر الإتصالات الجارية فتبصر الحكومة النور في أسرع وقت ممكن، كي لا يستمر المواطنون في دفع ثمن خلافات السياسيين. وإذا كان الجميع متفقين على حكومة أعضاؤها إختصاصيون مستقلون منسجمون متناغمون، لم الإختلاف إذا على الحصص؟ أليست الكفاءة والإختصاص والخبرة هي التي سيعطى الوزراء الثقة على أساسها؟ أم تريدونهم أتباعا مأمورين؟، لنتعظ من نصائح القديس يوحنا السلمي، ولتكن الأعمال أكثر من الأقوال وردود الفعل، علنا نصل إلى قيامة بلدنا من تحت ركام الفساد، فنفرح ونتهلل معا بعيد الأعياد، وعودة الحياة والإزدهار والفرح إلى ربوعنا، آمين”.