قَولُ المَشهورُ لِبونابرت: “On gouverne mieux les hommes par leurs vices que par leurs vertus ، تُلَخِّصُ استراتِيجيَّةَ الشَّيطانِ الّتي يُعثِرُ بها البَشرَ ويُسقِطُهُم، وهذا سببُ سُقوطِ كثيرينَ عَن سُلَّمِ الفَضائل.
فاللهُ لم يَخلُقِ الإنسانَ عَبَثًا، أو لِيكونَ شارِدًا، بل أوجَدَهُ لِيقتَبِلَ الإلهِيَّاتِ ويتقَدَّس..
(الأب أثناسيوس شهوان)
عندما أنظُرُ إلى أيقونةِ كِتابِ “السُلَّمُ إلى الله”، لِكاتِبِه القِدّيسِ يُوحنّا السُّلَّمي، (منتصف القرن السّادس ميلادي)، أتخيَّلُ نَفسي في مَعرَكةٍ أسمعُ فيها طُبولَ الحَرب.
مشهدٌ مِن الآباءِ الصَّاعدينَ على سُلَّمٍ تَنتَصِبُ مِنَ الأرضِ إلى السَّماء. مِنهم مَن وَصَلَ ويَستَقبِلُهُ الرَّبُّ يسوعُ المَسيح، ومنهم ما زال في بِدايَةِ الطَّريقِ، ومِنهم في الوَسَط. وعلى يَمينِ السُلَّمِ ويَسارِها، شَياطينُ يَشُدُّونَ آباءٍ لِيُوقِعُوا بِهم في جَهَنَّم.
كمَا نُشاهِدُ في أسفَلِ الأيقونةِ مجموعةً مِنَ الأشخاصِ الّذين اصطادَهُم عَدُوُّ الإنسانِ أي الشّيطان.
هَذِه الأيقُونَةُ الرَّائِعَةُ تُلخِّصُ خُبرةَ أبٍ قِدّيسٍ، طُلِبَ مِنه أن يَكتُبَ جِهادَهُ الرُّوحيَّ بَعدَ سَنواتٍ طِوالٍ، تعدَّتِ الأربَعين سنةً مِنَ النُّسكِ، أمضاها في جبلِ سِيناءَ، حيثُ تَكثُرُ المَناسِكُ والأديار.
مُدوَّنتُهُ هذه كانت ثَمرَةَ التَّقشُّفِ والسَّجداتِ والصَّلواتِ والأصوامِ وتَنقيةِ النَّفسِ مِنَ الأهواءِ الّتي عاشَها وخَبِرَها إيمَانًا وحياة. فأتى كتابُهُ بِمثابَةِ كَنزٍ لِكُلِّ عاشِقٍ للهِ ومُجاهِدٍ عن حَقّ.
إستَوحى القِدّيسُ يُوحنّا كِتابَهُ مِن رُؤيا حَدثَت في العَهدِ القَديمِ مَعَ يَعقُوبَ: “وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا”(تكوين ١٢:٢٨-١٣).
هَدَفُ الكِتابِ التَّدرُّجُ في الفَضائِلِ، وَضَعَها الكَاتِبُ في ثَلاثِينَ دَرَجَة تُوافِقُ عَددَ سَنواتِ عُمرِ الرَّبِّ يسوع بالجَسَد، قبلَ بدئهِ بالتّبشير الّذي دامَ ثلاثَ سنوات.
ونَظَرًا لِأهميّةِ جِهادِ هَذا القِدِّيسِ، خَصَّصَتِ الكَنيسَةُ الأحدَ الرَّابِعَ مِنَ الصَّومِ على اسمِهِ، لِيكونَ تَعليمُهُ استراتيجيَّةً ينبَثِقُ مِنها أمرُ عَمليَّاتٍ، يَتَّبِعُهُ كُلُّ مَن يُجاهِدُ لاكتِسابِ الفَضائل.
فكُلُّ إنسانٍ إكليريكيًّا كان، أم راهِبًا أم عِلمَانيًّا إن صحَّ التّعبيرُ، هَدفُهُ القَداسة. فاللهُ لم يَخلُقِ الإنسانَ عَبَثًا، أو لِيكونَ شارِدًا، بل أوجَدَهُ لِيقتَبِلَ الإلهِيَّاتِ ويتقَدَّس.
ويكتُبُ بولسُ الرَّسولُ في بُلوغِ هذا الهَدفِ المَنشُود: “لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ”(٢كورنثوس ١:٧).
أن يَتَطهَّرَ الإنسانُ بِالكُليَّةِ ليسَ بِالأمرِ السَّهل، إنّها مَعركَةٌ بِكُلِّ ما لِلكلِمَةِ مِن مَعنىً، لا بل هِيَ أصعبُ المَعاركِ وأشدُّها بِحَسبِ ما أكَّد الآباءُ القِدّيسون.
بُولُس كان شاولَ، والمُقاتِلَ الشَّرِسَ، والفَرّيسيَّ المُتَزمِّتَ، قَبْلَ أن يُصبِحَ رسولَ المَسيح. صحيحٌ أنّهُ باتَ خَليقَةً جديدةً، إلّا أَنَّهُ استَعملَ خُبُراتِهِ السَّابِقَةَ كُلَّها لِمعرَكَةِ الإنجيل. عَزمُهُ وصلابَتُهُ واحتِمالُهُ المَشقّاتِ، ومَهارتُهُ كُلُّها أصبَحت في خِدمَةِ طَريقِ الرَّب، ولا ريبَ أن نَجِدَ كثيرًا مِنَ العِبارَاتِ العَسكَرِيَّةِ في رَسائِلِه.
كِبارُ القَادَةِ العَسكريّينَ في العَالَمِ دَوَّنوا مُلاحَظاتِهم في الحُروبِ العَنيفَةِ الّتي خَاضُوها. ومِن جُملَةِ ما لَفَتَنِي مِنها ما عدَّدَهُ “نابوليون بونابارت”، عن أَهَمِّ عَناصِرِ الانتِصَارِ في المَعارِك وهي: التّدريبُ الجَيّدُ واليَقظةُ والخُبرَة، بالإضافَةِ إلى السِّلاحِ والدَّعم. ويُكمِلُ أنَّ الاستراتيجيَّةَ تكونُ في وَضعِ الخُطَطِ والسَّهرِ على تَنفيذِها بِتَكتيكٍ دَقيق ومَدرُوس.
لا عجب أنَّ كلَّ هَذا مَذكورٌ في الإنجيل، ولَكِن لِخَلاصِ الإنسانِ وتَألُّهِهِ. فنَقرأ في رِسالَةِ بُولُسَ الرَّسولِ إلى أَهلِ أفسُس، والتي كتَبَها عندمَا كان في السِّجنِ في رُومية، خُطَّةً عَسكريَّةً رُوحِيَّةً كامِلة، تُساعدُنا في الوُصُولِ إلى أعلى السُلَّمِ، إذ يَطلُبُ مِنّا أن نَلبَسَ سِلاحَ اللهِ الكامِلِ لِنغلِبَ إبليسَ: دِرعَ البِرِّ وتُرسَ الإيمانِ وخُوذَةَ الخَلاصِ وسَيفَ الرُّوحِ الّذي هُوَ كَلِمةُ الله. والدَّعمُ يَكونُ في الصَّلواتِ والطِّلبات: “سَاهِرِينَ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ”(أفسس ٦).
ويُؤكِّدُ أنَّ مُصارَعَتَنا الحَقيقيَّةَ هي ضِدُّ جُنودِ الظّلامِ وسَلاطِينَهُ. وحَذارِ التَّراخي قَبلَ العُبورِ إلى الحَياةِ الأبَدِيَّة.
فإذا كان نابوليون قد حذَّرَ جُنودَهُ مِن الخَطرِ الكَبيرِ بالاستهانة بالعدوّ لحظةَ بُلوغِ الانتِصار، نَجدُ أنَّ القِدِّيسَ مَكاريوسَ الكبيرَ مِنَ القَرنِ الرَّابعِ ميلاديّ، يَتجنَّبُ الوُقوعَ في فَخِّ نَشوةِ النَّصرِ وهُوَ يَلفُظُ رَمقَهُ الأخِير، وبَقِيَ يُجاهِدُ بِقُوَّةٍ حتَى لحظَةِ خُروجِهِ مِن هَذا العَالَم، إذ أتَاهُ إبليسُ مُجَرِّبًا إيَّاه: “لَقد غَلبتَني يا مَكاريوس”. فأجابَهُ القِدِّيسُ: “ليسَ لي أن أُعلِنَ الظَّفَرَ بل رَبِّي وإلهي”. جَوابُهُ هذا أنقَذَهُ مِن أُمِّ الخَطايا ألا وهِيَ الكِبريَاء.
فعِندمَا تَحتَدِمُ المَعارِكُ لا يَعودُ هُناكَ مِن مَجالٍ لأيّ هُدنَةٍ أو تَراجُع، فَالجَميعُ على أُهبَةِ الاستعدادِ إلى أن تنتهي المعارِكُ بِغالِبٍ ومَغلُوب.
المسيحيُّ مُحارِبٌ شُجاعٌ ومِقدَامٌ، لا يَعرِفُ الهَزيمَةَ لأنَّ في يَسوعَ الغَلبَة. وحَياتُنا هِيَ صِراعٌ دَائِمٌ لا مَجالَ فيهِ للتَّراخي والاستِسلام.
فَهذا القَولُ المَشهورُ لِبونابرت: “On gouverne mieux les hommes par leurs vices que par leurs vertus ، أي “نَسودُ النّاسَ بِرذائِلِهم ولَيسَ بِفَضائِلِهم”، يُلَخِّصُ استراتِيجيَّةَ الشَّيطانِ الّتي يُعثِرُ بها البَشرَ ويُسقِطُهُم، وهذا سببُ سُقوطِ كثيرينَ عَن سُلَّمِ الفَضائل.
فَليَكُن شِعارُنا “غَيْرَ مُتَكَاسِلِينَ فِي الاجْتِهَادِ، حَارِّينَ فِي الرُّوحِ، عَابِدِينَ الرَّبَّ” (رومية ١١:١٢)، وإن سَقَطنا نَقومُ ونُكمِلُ الجِهادَ لأنَّ التَّائبَ هُوَ أعظمُ مِنَ الّذي يُقيمُ المَوتى(القدّيس اسحق السرياني).
المصدر: النشرة