أخبار عاجلة

عَ مدار الساعة


صانعو التّحرير 13 – الحرب العالميّة 2: الإِنكليز والتّحدّي الوجوديّ

   لم يتمكّن الأَلمان مِن احتلال بريطانيا العُظمى، خلال الحرب العالميّة الثّانية، بفضل المعنويّات الّتي زرعها رئيس الوزراء ونستون تشرشل في نُفوس المُواطنين الإِنكليز. فبعد دُخول الأَلمان فرنسا، وصل “الموس” إِلى ذقن الإِنكليز، وباتت بريطانيا العُظمى قاب قوسَيْن أَو أَدنى مِن الاحتلال!. صحيحٌ أَنّ الوضع في ذلك الوقت كان صعبًا للغاية، غير أَنْ لا خيار للإِنكليز سوى الذّود عن وطنهم…

   لقد كانوا في انتظار الهُجوم الأَلمانيّ بين لحظةٍ وأُخرى، لكنّ روح الصُّمود الملحُوظة على مُحيّاهُم، قد جعلت مِن كُلّ إِنكليزيٍّ، مُقاومًا شرسًا لا يهاب الموت!. وتفشّت عدوى المُقاومة بينهُم كالنيّران في الهشيم، فصار كُلٌّ منهم قدوةً لغيره، وراحُوا يستعدُّون للقتال حتّى النّهاية، إِن لزم الأَمر، وإِن قرّر أَدولف هتلر الهُجوم على أَرضهم. فالقضيّة ما عادت مُشاركةً بريطانيّةً في الحرب العالميّة الثّانية كطرفٍ، بل غدت مسأَلةً وطنيّةً بامتيازٍ، لا بل وجوديّة!.

   لقد صارت بريطانيا العُظمى وحيدةً في الميدان، بعد تساقُط الحُلفاء دولةً تلو الدّولة، وآخر المُستسلِمات فرنسا.

   وما زاد مِن صُعوبة الوضع ودقّته، السُّقوط الفرنسيّ السّريع أَمام “الطّحشة” الأَلمانيّة. بيد أَنّ معنويّات الشّعب الإِنكليزيّ بقيت مُرتفعة على رُغم كُلّ شيءٍ!. حتّى أَنّ التوقّعات أَصابت… فأَعطى هتلر، في “التّوجيه رقم 17″، التّعليمات إِلى جُنوده بمُهاجمة الجُزر البريطانيّة عبر الجوّ، تحضيرًا لاحتلالها… وقد ضرب موعدًا لبداية الحملة العسكريّة تلك، هو السّادس مِن آب 1940، أَو بُعيد هذا التّاريخ. وفي تلك الفترة تحديدًا، ابتدأَت المعركة الفاصلة بين استمرار التّقهقُر أَمام الآلة العسكريّة الأَلمانيّة أَو كبح جماح اندفاعتها المَهولة!.

   وفي هذا السّياق لا بُدّ من التّوقُّف عند الزّيارة الّتي قام بها رئيس الوزراء البريطانيّ آنذاك ونستون تشرشل، إِلى “قاعدة سانت مرغريت” وبعض المواقع العسكريّة، وقد لمس حينها الوضع العسكريّ الميدانيّ البالغ الصُّعوبة. فعلى شاطئ “سانت مرغريت” الأَكثر تعرُّضًا للقصف، لم تكن تُرابض سوى 3 قطع مُضادّة للدبّابات، لحماية 5 أَميالٍ مِن الشّاطئ. وتزامُنا كان عاد إِلى بريطانيا بعد معركة “دنكرك”، وفي سياق حرب تحرير فرنسا، زهاء 144،000 جنديّ بريطانيّ، مع عتادٍ لم يعُد يصلُح منه سوى 9 دبّابات مِن أَصل 600، و12 مدفعًا مِن أَصل 100. وما كان لدى بريطانيا بأَكملها سوى 786 مدفع ميدانٍ، 167 مدفعًا مُضادًّا للدبّابات، و178 دبّابةً خفيفةً و81 دبّابةً مُتوسّطةً. وبهذه الإِمكانات العسكريّة الهزيلة، كان على البريطانيّين أَن يحموا مساحاتٍ شاسعةً مِن أَرض وطنهم، مع الإِشارة إِلى أَنّ المساحة الصّالحة لتنفيذ القوّات الأَلمانيّة إِنزالا، لا تتجاوز الـ 500 ميلٍ، ولكن في الإِمكانات العسكريّة البريطانيّة، مِن المُستحيل حماية أَكثر مِن 70 ميلًا من الشّاطئ تقريبًا، مع استخدام شبكات الأَسلاك الشّائكة، وحُقول الأَلغام، والشّباك العموديّة… وأَمّا ما تبقّى من مساحة الشّاطئ فسائبة… لقد دفع هذا الواقع العسكريّ المرير، النُّقّاد العسكريّين، إِلى الاعتقاد بأَنّ أَيّام الجزيرة البريطانيّة باتت معدودةً. بيد أَنّ المَعنويّات كانت تتجاوز كُلّ هذه المُعطيات العسكريّة الميدانيّة، على صُعوبتها، وكذلك تتجاوز كُلّ التّوقُّعات.

   وفي 14 أَيّار 1940، وجّه القائد البريطانيّ أَنطوني إِيدن، نداءه الأَوّل إِلى الشّباب البريطانيّين، دعاهُم فيه إِلى الانضمام إِلى الجيش البريطانيّ، فيما أُعلن فيلقٌ مِن المُتطوّعين للدّفاع عن الوطن، وقد كُلّف الإِسهام في الدّفاع عن المُدن والمناطق البريطانيّة، إِذا ما تعرّضت للغزو.

   وبعد ثلاثة أَيّام، مِن نداء أَنطوني إِيدن، كانت الكتائب الأُولى الّتي تشكّلت قد بدأَت تقوم بدوريّاتٍ على الشّواطئ. وبعد أُسبوعٍ، تقدّم 2500 مُتطوّعٍ لخدمة بلادهم، وقد زُرعت الملاعب بالحواجز والعقبات، والطُّرق بالقناطر، اتّقاءً لهُبوط الطّائرات الأَلمانيّة فيها. وللحديث صلة.

رزق الله الحلو – صحافيّ وخبير تربويّ

______

* “صانعو التّحرير في العالم”: سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award”، منقولةٍ عن البرنامج الّذي حمل العُنوان نفسه، وبثّته “الإذاعة اللّبنانيّة” – الفنار، خلال العامين 1989 و1990. مع تحيّات النّاشرين: “جائزة الأَكاديميّة العربيّة”.