* “صانعو التّحرير في العالم”: سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award”
ذات يومٍ، قال الجنرال شارل ديغول: “ما مِن بلدٍ يستطيع أَن يصمد أَو أَن يقف على قدميه، رافع الرّأس، مِن دون قيمةٍ عسكريّةٍ وفضيلةٍ لدى حملة السّلاح، وآلامٍ يُعاني منها الجُنود، وخدماتٍ يُؤدُّونها”.
لم تكُن أَعمال التّحرير في فرنسا – شأَن المفهوم العمليّ للمُقاومة والتّحرُّر
في العالم كلّه – تتمّ في أَجواء مُريحةٍ أَبدًا، بمعيشة طبيعيّة، أَو تسودها الرّفاهيّة…
وإِنّما المُقاومة الأَساسيّة هي مُقاومة الجوع بعد انقطاع لُقمة العيش، ومُقاومة العتمة
عبر اختبار العيش في الظّلام، وعدم توفّر المحروقات وغيرها مِن أَساسيّات الحياة اليوميّة
العاديّة… هي اختبار البطالة، وصعوبة الاتّصال والتنقّل… غير أَنّ المُقاومة ستسمرّ
على رُغم كلّ شيء!.
الآلام الفرنسيّة في هذا المجال، طاولت الطّفل، الأُمّ، الوالد والشّيخ المُسنّ
على حدٍّ سواء… والكُلّ سواسيةٌ أَمام مُخلّفات الاحتلال الأَلمانيّ لفرنسا، وهذا
ما ينسحب أَيضًا على كُلّ احتلالٍ لأَيّ بقعةٍ تُقاومه على امتداد الكُرة الأَرضيّة
جمعاء. وإِضافةً إِلى مُقاومة الجيش الأَلمانيّ المُحتلّ، كان على الفرنسيّين أَيضًا
مُقاومة مُخلّفاته، حياتيًّا ومعيشيًّا، إِفساحًا في المجال أَمام السُّلطة الفرنسيّة
المركزيّة، لتُمارس وظيفتها في شكلٍ طبيعييٍّ. وميدانيًّا ينبغي العمل على إِيصال
“الأَوامر” إِلى كُلّ منطقةٍ، والسّهر على تنفيذها، وهذا ما كان يحول الاحتلال
دون تنفيذه. ولذا فقد بقيت العاصمة الفرنسيّة باريس، ولأَسابيع طويلةٍ، محرومةً مِن
وسائل الاتّصال بين المُقاطعات. وتعرّضت الخُطوط التّلغرافيّة والهاتفيّة لتقطُّعاتٍ
لا تُحصى… ومحطّات “الرّاديو” طاولها الخراب في مُجملها، في حين أَنّ الطّائرات
الفرنسيّة لا يُمكنها الهُبوط على مُدرّجاتٍ كثيرة الحُفر، والخُطوط الحديديّة شبه
مُجمّدة، إِذ مِن أَصل 12،000 قاطرةٍ، لم تبقَ إِلَّا 2800 فقط صالحةً للاستعمال. وحتّى
الصّالح منها، فإِنّه غير صالحٍ لمُغادرة “باريس” في اتّجاه “ليون”،
أَو “مرسيليا”، أَو “تولوز”، أَو “بوردو”، أَو
“نانت”، أَو “ليل” أَو “نانسي”… ولا قطار قادرٌ على
اجتياز نهر “اللوار” بين “نيفير” و”ساحل الأَطلسيّ”،
أَو اجتياز نهر “السّين” بين “مانت” وبحر “المانش”.
حتّى أَنّ العُبور مِن “ليون” إِلى البحر الأَبيض المُتوسّط، كان غير واردٍ.
والطُّرق البريّة بدورها، لم تكُن حالها بأَفضل، مِن دون أَن ننسى أَنّ الأَلمان
قد “نسفوا” حوالي 3000 جسر عُبورٍ، كما وأَنّ مِن أَصل حوالي ثلاثة ملايين
سيّارةٍ في فرنسا في ذلك الوقت، لم يكُن صالحًا للاستعمال سوى حوالي 300 أَلف سيّارةٍ
فقط. وفي طبيعة الحال، لا ضرورة للحديث عن النّقص الحادّ في الوقود حتّى كاد التّنقُّل
بالسيّارة أَن يُصبح شبيهًا بمُغامرةٍ بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. وحتّى وسائل نقل الموادّ
الغذائيّة والمعيشيّة والموادّ الأَوّليّة والمحروقات والمصنوعات… قد انعدمت بالكامل.
وهُنا لا بُدّ من طرح الأَسئلة:
* لأَيّ مدى تبقى رواسب الاحتلال تفتك بقطاعات
الوطن كلّها؟
* واستطرادًا، ما الخُطوة التّالية بعد تحرير
الأَرض؟
* وهل يُمكن اعتبار الإِدارة الفاسدة توازي
الاحتلال، انطلاقًا مِن أَنّ آثار الفساد ومُخلّفاته على الوطن والمواطنين، هي مُخلّفات
الاحتلال نفسها، كما وأَنّ مُحصّلة الاحتلال الأَجنبيّ تُوازي تلك المُتأَتّية مِن
الفاسدين والعابثين بخيرات الوطن وأَرزاق ناسه؟…
وللأَسئلة الثّلاث سياقٌ واحدٌ للجواب، إِذ إِنّ رواسب الاحتلال، لا تُزيلها
سوى نُفوسٌ أَبيّةٌ وطنيّةٌ، تتحلّى بالقيم الخُلقيّة والإِنسانيّة… كما وأَنّ الكلمة
– المُفتاح لتعافي الوطن مُجدّدًا بعد نكبة الاحتلال ووباء الفساد، هي في “تحرير
النُّفوس”؟… لذا ينبغي في مرحلةٍ ما،
التّركيز على تحرُّر النّفوس بعد تحرير الأَرض. وللحديث صلة.
رزق الله الحلو
– صحافيّ وخبير تربويّ
______
* “صانعو التّحرير في العالم”:
سلسلة مقالاتٍ يعرضها تزامُنًا موقعا “أَغوراليكس” و”Arabic Academy Award”، منقولةٍ عن البرنامج
الّذي حمل العُنوان نفسه، وبثّته “الإذاعة اللّبنانيّة” – الفنار، خلال العامين
1989 و1990. مع تحيّات النّاشرين: “جائزة الأَكاديميّة العربيّة”.