محمود ريا –
لا يمكن اختزال عام الصين بمقال، ولا حتى بأقل من كتاب سنوي (year book) يعرض الإنجازات والطموحات، والمشاكل والعقبات، لدولة ـ قارة، تسير في طريق طويل نحو زعامة العالم، ولو بعد حين.
وحين تعلن الصين عن الإنجازات التي حققتها خلال عام، فهي لا تُخفي كمّ المشاكل التي مرّت فيها البلاد، ولكن دائماً مع اقتراح الحلول، والعمل على تحقيقها، والتطلع إلى آفاق أرحب، وإلى أوضاع تصبح فيها مشاكل الحاضرمجرد ذكرى من الماضي.
في السياسة، كانت الصين محور حركة عالمية في مختلف المجالات وعلى مستوى القارات، وعلى مستوى العالم أيضاً، فبدأ الرئيس الصيني العام بجولة في منطقة غربي آسيا زار خلالها السعودية ومصر وإيران، كما قام بزيارات إلى العديد من دول العالم ولا سيما في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا، واختتم العام بجولة في أميركا اللاتينية، تزامناً مع حضوره قمة منظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا-المحيط الهادىء (ابيك) في ليما.
ومع هذه الجولات الشاملة للرئيس الصيني، قام كبار المسؤولين الصينيين بزيارات لعدد كبير من دول العالم، ما أعطى الصين صفة الدولة العالمية، التي تنتظر دول العالم أن يحط المسؤولون الصينيون في مطاراتها، حاملين معهم الدعم السياسي وفرص التعاون الاقتصادي، وهما الصفتان الأبرز اللتان تعطيهما بكين لتعاملها مع مختلف الدول.
ومع هذه الزيارات الخارجية، استضافت الصين العديد من رؤساء دول العالم، وكذلك كبار المسؤولين من أنحاء الكرة الأرضية. ولعّل الحدث الأبرز الذي شهدته الصين هو احتضانها في شهر أيلول/ سبتمبر لقمة الدول العشرين في مدينة هانغجو.
ومن أبرز الأحداث في مجال علاقات الصين الخارجية الرفض القاطع الذي أبدته الصين لحكم محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي حول قضية الجزر في بحر الصين الجنوبي والذي جاء منحازاً بشكل كامل للفيليبين، وذلك بدعم واضح من الولايات المتحدة الأميركية. واللافت أن علاقات الصين مع الفيليبين انقلبت رأساً على عقب بعد انتخاب الرئيس الجديد رودريغو دوتيرتي الذي قام بزيارة لبكين بعد انتخابه، واتخذ إجراءات قاسية تجاه الولايات المتحدة ومحاولاتها لتوتير الأوضاع في جنوب شرق آسيا.
وفي شأن “التمدد الصيني” في عالم اليوم يبدو لافتاً الفيتو الصيني الجديد في مجلس الأمن الدولي، بالشراكة مع روسيا حول قرار يتعلق بسوريا، وبالتحديد حول الوضع في حلب. وقد شكّل هذا الفيتو ـ الخامس للصين على مدى الأزمة السورية الحالية ـ دليلاً على اتخاذ الصين سياسة خارجية مستقلة، بعيداً عن أسلوب الممالأة للسياسة الأميركية الذي كان معتمداً بطريقة أو بأخرى على مدى سنوات ماضية.
ومقابل هذا التقارب الكبير مع روسيا في المجال السوري، وفي الكثير من المجالات الأخرى، كانت العلاقات الصينية الأميركية تتعثر في أكثر من مكان، وجاء انتخاب الرئيس الجديد دونالد ترامب ليضع هذه العلاقات في دوامة جديدة بين هبة باردة وهبة ساخنة، ارتباطاً بتصريحات وتدوينات ترامب التي تستهدف الصين بشكل خاص، على خلفية الوضع الاقتصادي القائم بين البلدين.
ومن البوابة الاقتصادية يمكن الولوج إلى الوضع الصيني الداخلي، حيث يتعرض الاقتصاد الصيني للعديد من الضغوط ويعاني من الكثير من المشاكل التي تعمل القيادة الصينية على حلّها، وعلى رأسها بعض الاضطراب في قيمة العملة الصينية اليوان، وفائض الانتاج في العديد من المجالات، وغير ذلك من المشاكل. إلا ان كل هذه العقبات لم تمنع الصين من تحقيق رقم النمو المستهدف لهذا العام والذي يتراوح بين 6.5 و7 بالمئة، حيث وصل النمو حتى أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 6.7 بالمئة.
وإلى جانب همّ الاقتصاد كان هناك هم آخر يشغل القيادة الصينية، وهو همّ الإصلاح الداخلي، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى الحزب، وقد تم اتخاذ العديد من الإجراءات الفعالة في هذا المجال، واتخذت العديد من القرارات البارزة على صعيد محاسبة الفاسدين من جهة، ووضع قواعد تضيّق المجال أمام حصول حالات فساد جديدة. وقد ركّزت القيادات الصينية المختلفة، وعلى رأسها رئيس الدولة وأمين عام الحزب شي جينبينغ، على كون الإصلاح الهيكلي للدولة، ومحاربة الفساد بشكل فعّال وحاسم هما الطريق الأقصر للنهوض بالصين وللقدرة على تحقيق خطط النمو الطموحة.
هذا المسار الإصلاحي انسحب أيضاً على القوات المسلحة الصينية، حيث اتخذ القرار بجعل هذه القوات أكثر رشاقة وأقوى فعالية، وتمت إعادة تقسيم المناطق العسكرية بطريقة تمنح الجيوش الصينية المزيد من الحيوية.
ومن القرارات المهمة التي اتخذت في الصين ابتداء من أول العام التخلي عن “سياسة الولد الواحد” والسماح للأسر الصينية بإنجاب ولد ثانٍ ضمن بعض الضوابط والشروط. إلا أن بعض الإحصائيات أوضحت أن نسبة كبيرة جداً من الأسر الصينية لم تتفاعل مع هذا السماح، وهي مصرة على الالتزام طوعياً بالاكتفاء بولد واحد.
ولعل من القضايا الأكثر أهمية لدى الصينيين خلال العام الحالي كانت قضية تلوث الهواء التي فرضت نفسها بقوة على القسم الشمالي من الصين، بما فيه العاصمة بكين. وينتج هذا التلوث بشكل أساسي من استخدام الفحم في التدفئة، فضلاً عن استخدام الوقود الأحفوري بكثافة في مجالات الصناعة المختلفة. وقد اتخذت السلطات الصينية العديد من الإجراءات الهادفة إلى الحد من التلوث، من أهمها تعزيز الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة والتقليل من الاعتماد على الفحم في الصناعة.
ومن القضايا الهامة التي شغلت الصين هذا العام مسألة هونغ كونغ، المدينة التي تخضع لنظام خاص، والتي تواجه محاولات لزعزعة استقرارها وإثارة اضطرابات فيها من قبل بعض المجموعات الداخلية المدعومة من قوى خارجية. وقد جرت في هونغ كونغ انتخابات تشريعية في شهر أيلول/ سبتمبر، أظهرت نتائجها أن القوى المعادية للصين لا تتمتع بشعبية في صفوف مواطني هونغ كونغ.
وبالرغم من أن القضايا التي اهتمت بها الصين هذا العام لا تقف عند هذا الحد، إلا أنه لا بد من التوقف هنا، وذكر بعض الأخبار المبشّرة، حيث حققت الصين خلال هذا العام إنجازات علمية عديدة ولافتة أهمها:
ـ تم تشغيل تلسكوب “فاست” اللا سلكي الكروي في أيلول/ سبتمبر عام 2016 في منطقة جبلية في مقاطعة قويتشو بجنوب غربي الصين. ويبلغ القطر الدائري لهذا التلسكوب 500 متر، ما يعتبر أكبر تلسكوب لا سلكي في العالم.
ـ إكمال الصين إنتاج أكبر طائرة برمائية في العالم “اي جي 600″ في تموز/ يوليو عام 2016، وعرضها في الدورة الـ11 لمعرض الملاحة والفضاء الجوي الدولي.
ـ إرسال قمر صناعي ومركبة الى الفضاء على متن أحدث الصواريخ الحاملة الثقيلة لونج مارش-5 في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2016. ويمثل الصاروخ لونج مارش -5 أعلى مستوى للابتكار العلمي والتكنولوجي الصيني فى تطوير الصواريخ الحاملة، كما يجعل قدرة حمل الصواريخ الصينية تبلغ مستوى متقدماً في العالم.
ـ أطلقت الصين أول قمر صناعي كمي”ميسيوس” في العالم على رأس الصاروخ الحامل مارش-2 دي من مركز إطلاق الأقمار الصناعية في جيوتشوان شمال غرب الصين في آب/ أغسطس من عام 2016.
ـ حصول جهاز صن واي تايهو لايت الصيني على لقب أسرع آلة في العالم مجددا في كانون الأول/ ديسمبر عام 2016،بحسب الطبعة الأخيرة من قائمة أبرز 500 حاسب آلي التي تصدر كل ستة أشهر.
هذه الإنجازات ـ وغيرها الكثير ـ تضع الصين في مقدمة الدول المبتكرة في العالم، وتنقل البلاد من كونها “مصنع العالم”، إلى مرحلة كونها قائدة عملية الإبداع على مستوى الكرة الأرضية. وهذا هو مدماك أساسي في مسيرة بناء الدولة العظمى، تلك الدولة التي تسعى أن تكونها الصين بالفعل، وليس فقط من خلال الألقاب والأحجام.
المصدر: العهد