يأتي ترسيم الحدود بين بلدين أو أكثر بعد نزاعات طويلة وتغييرات سياسية وعسكرية كبيرة تطرأ وتغيّر معها الجغرافيا. قد يحدث ذلك إمّا عن طريق الإتفاق بالطرق الدبلوماسية أو عن طريق القوة بالطرق العسكرية. فبعد محاولات عدة لترسيم الحدود بين لبنان و”إسرائيل”، أصبح اليوم هذا الموضوع جديًّا ليسجل ١٤ تشرين ٢٠٢٠، اليوم الأول لبدء المفاوضات بين الجانبين اللبناني و”الإسرائيلي” بوساطة أميركية ومراقبة دولية في الناقورة، جنوب لبنان. بدأت الأصوات تعلو بعد انطلاق عملية المفاوضات احتجاجًا على فكرة الترسيم الذي يعتقدها البعض أنها تطبيع أو تمهيد لإتفاقية سلام. فهل ترسيم الحدود يقع لصالح لبنان أم هو خدعة إسرائيلية لجرّ لبنان إلى التطبيع؟
بعد تأكيد وجود النفط والغاز في أعماق بحر لبنان، وبعد ترجيح وجود أكبر مخزون نفطي واقع في البلوك رقم ٩، أصبحت الحاجة اليوم للتنقيب أكثر من أي يومٍ مضى نظرًا للظروف الإستثنائية التي يمرّ به لبنان إقتصاديًّا وماليًّا. إن التنقيب عن البلوك ٩ في جنوب لبنان دون التوصّل إلى إتفاق ترسيم الحدود بين لبنان والإحتلال الإسرائيلي سيؤدي إلى تفاقم التوتر الأمني الواقع بين الطرفين وذلك لتعدي إسرائيل على جزء من المياه الإقليمية اللبنانية وعلى البرّ علنًا عبر احتلالها مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. فهذا التوتر لم ولن يستقطب شركات النفط الكبرى عالميًا خوفًا من أي اشتباك ممكن بين لبنان وإسرائيل قد يحوّل الإستثمار إلى إستهلاك للموارد البشرية والمالية دون أي مقابل. لذلك، فإن ترسيم الحدود أصبح حاجة ملحّة للتوصل إلى إتفاق يستطيع لبنان من خلاله أن يرسّم حدوده البرية والبحرية ليحمي خيراته وسيادته من طمع وجشع العدو.
في العام ٢٠١٢، أتى الموفد الأميركي “فريديريك هوف” ليقترح على لبنان “خط هوف” الذي رسمه وبموجبه يحصل لبنان على حوالي ٥٠٠ كلم مربع، أما العدو الإسرائيلي فيحصل على ٣٦٠ كلم مربع من المساحة التي تُعدّ من حق لبنان. إن هذا الإقتراح أتى بالرفض التام من قبل السلطات اللبنانية ولكن صداه لا تزال محفورة حتى اليوم في عقول اللبنانيين. صحيح أن كيان مغتصب لن يقبل بإتفاقية إلّا وأن تكون لصالحه، ولكن اليوم، وبعد ٨ أعوام، اختلفت الظروف، وخط “هوف” لم ينجح مع الأميركيين والإسرائيليين وبالتالي الفرض ليس وسيلة للتوصل للإتفاق بل التفاهم عبر الطرق السلمية والدبلوماسية. فلبنان اليوم بهذا التفاوض غير منكسر وغير ضعيف، بل هو يطالب بحقه الطبيعي دون الرضوخ للضغوطات الخارجية التي أتت بخط “هوف”، كما أن نظرة الولايات المتحدة الأميركية للشرق الأوسط الجديد تختلف عن الشرق القديم الذي سادته الحروب بل هي تريد الآن الإستقرار (ليس بالضرورة السلام) وذلك لتنفيذ مشاريعها الإستثمارية والتجارية دون أي عرقلة أمنية أو جغرافية. في الخلاصة، إن ترسيم الحدود ليس تطبيعًا ولا سلامًا بل هو إتفاقية تحت إشراف الأمم المتحدة يتسلّح من خلالها لبنان بالقانون الدولي لإسترداد حقه ولا حاجة لحملات التخوين بين اللبنانيين عند طرح هذه المسألة لأن لكل طرف نظرته المختلفة، ولكن حتمًا للبنان نظرة سيادية غير قابلة للنقاش في حال تعلّق الأمر بسلب جزء من أراضيه.
أخيرًا، إن اللغة الدبلوماسية السائدة مطمئنة وطالما أن المشرفين على هذا الترسيم أتوا بعقلية الإتفاق وليس بعقلية الفرض وإجبار لبنان، فهذا إنتصار يُسجّل للبنانيين على موقفهم الصلب والواضح. أمّا الخوف الذي يقع اليوم فهو في حال عدم الإتفاق مجددًا واستخدام العدو ورقة تجويع اللبنانيين وتركيع لبنان إقتصاديًا للضغط بالتفاوض وإجبار لبنان أن يتنازل عن أرضه مقابل الأمن الغذائي، فهل تكون المعادلة حينها: “تضربوننا إقتصاديًا، نضربكم عسكريًا”؟