جورج عبيد – إصابة رئيس إمبراطوريّة آحاديّة في العالم بالكوفيد-19 كشفت خلوًّا من جدل سلطان هذا الوباء وقدرته على الهيمنة الفعّالة في أعتى الدول وعند مسؤوليها. ظلّ دونالد ترامب يسخر بموجوديّة الكوفيد-19 إلى أن غدا فريسة له، وغدت بلاده ترتجف عظامها من كثرة الإصابات والوفيات الناتجة عنه.
يجدر بنا بداءة أن نعترف بأنّ هذا المرض عاصف في العالم كلّه يحصد القتلى ويصيب الناس بالعوارض المؤلمة. في مقابل هذا الاعتراف يدفع العالم ضريبة الصراع بين الدول والشركات بسبب التبلّد والتأخّر في إنتاج لقاح قويّ قادر على أن يمنح الإنسانية فرصة النجاة منه والتجدّد بالنعمة والحقّ.
السؤال الذي يواجهه العلماء بلا استخفاف ولا استسخاف بقوّة هذا الفيروس. هل ثمّة قرار قائم بعدم إنتاج لقاح سريع بسبب ربطه بمجموعة تسويات سياسيّة واقتصاديّة ونفطيّة؟ ثمّة شكوك تناجي العقل وتحاكي الفكر مع مشاهد حروب تتنقّل من مكان إلى آخر تنذر بسقوط أنظمة وولادة أنظمة أخرى. قد يبدو في الآفاق بأنّ التبلّد يبيح التلبّد، والتلبّد رحم للعواصف الهوجاء. ليس المسرح الكونيّ مفتوحًا على شكوك مرضيّة بعمقها السيكولوجيّ. غير أنّ السؤال الوجيه المصاحب لمسلكيّة الاستكشاف، هل الكوفيد-19 ظهر كحاجة وضعيّة هادفة مبيدة لنظام قديم ومبيحة لنظام جديد؟
إلى الآن ثمّة جواب واضح تسلمناه من بعض العلماء والمفكرين، ويبدو راسخًا في مسرى التطورات الحادثة والحاصلة، بأنّ عالم ما بعد كوفيد-19 مختلف بالكليّة عما كان قبله. يشي الجواب المقول على ألسنة كثيرين، بأن الفيروس قد غدا المفصل المتداخل في أحداث العالم والمسبّب لانهيارات عديدة، وهو الفيصل القاطع لانتقالنا من ضفّة إلى أخرى.
الواضح إلى الآن بأنّ الصراع السياسيّ بين الدول حائل دون الوصول إلى لقاح جديّ شاف، ويجعل، تاليًا، الإنسانيّة حائرة حول معاني العلاجات المطروحة والتي لم تنتج شيئًا بل على العكس تمامًا لقد ارتفع منسوب الإصابات، وغدونا في وسط بحر متلاطم بأمواجه وأنوائه، بعضنا يبيت في الخوف وبعضنا الآخر يتحدّاه. بعضنا لا يراه خطرًا إلى الغاية وبعضنا الآخر يجزم بأنّه فعليًّا إله الموت الذي يفتك بالجميع بلا رحمة.
لننسى قليلاً المحور العالميّ وننكبّ على واقع الكورونا في لبنان. في مقال له في جريدة لنهار، حذّر الصديق الحبيب البروفسور غسان سكاف من تحوّل هذا الوباء إلى عاصفة جارفة مع ارتفاع منسوب الإصابات في لبنان. على غراره حذّر الصديق الآخر والاختصاصيّ بهذا الحقل البروفسور جاك مخباط من احتمال شطر لبنان بالكوفيد، وحذّر الدولة كغسان من التقاعس في المواجهة الجديّة له.
العلماء والعقلاء والنخب متفقون في الشكل والمضمون بخطورة هذا الوباء على اللبنانيين وانعكاسه على مستقبل لبنان ودوره، وهو متدحرج إلى أعماق الجحيم ماليًّا واقتصاديًّا. غير أننا يجب أن نتفّق بأنّ ثمة عاملاً خطيرًا للغاية يجعل الحلول عسيرة ومتعثّرة، وهو انحجاب الضابط الأخلاقيّ وغياب الناظم القانونيّ القادرين على تشكيل وعاء متين يمنع بعضهم من سرقة الأموال المخصّصة للعلاج الكامل والشامل، ويواجه احتكار الأدوية وحجرها في المستوعبات والمستودعات، ويمنع المستشفيات من التمادي في الاعتداء على المريض واسترخاص حياته، بإذلاله وعدم استقباله وتقديم العلاج له.
يسوغ لنا، وبهذا التشخيص القيميّ، بالقول بأنّنا في لبنان، وبسبب صغر مساحته الجغرافيّة، قادرون على الغلبة على الكوفيد-19، والبلوغ نحو تحقيق إنجاز حقيقيّ وكبير من دون انتظار للقاح. قبل البلوغ نحو إبداء رؤيتنا فإنّنا بحاجة إلى استعادة الرادع الأخلاقيّ والسلّم القيميّ والأخلاقيّ. لقد قدم لنا البنك الدوليّ مبلغًا قدره 45 مليون دولار أميركيّ لمكافحة الكوفيد-19، وإلى الآن لا أحد يعرف أين وكيف صرف هذا المبلغ في حين أنه بإمكانه تغطية 4 ملايين لبنانيّ في الفحوصات العشوائيّة PCR، إنطلاقًا من خطة عمليّة ضمن خيارين كنا قد ساهمنا باقتراحهما وهما إمّا الإقفال الشامل على مدى أسبوعين أو ثلاثة أسابيع مع فحوصات عشوائيّة على عدد اللبنانيين أي أربعة ملايين لبنانيّ مقيم، أو تجزئة الإقفال فتقفل كلّ محافظتين على حدة مع الفحص العشوائيّ، فتحصى الإصابات وترصف على عدد الشعب اللبنانيّ فتتبيّن حينئذ مدى الخظورة من عدمها.
قبل الإشارة إلى مواجهة الدولة للكوفيد-19، ثمة مسؤوليّة ملقاة على عاتق اللبنانيّ في الاندراج بقيم المواجهة. البداءة الأولى الاحتراز من الوباء من دون الخوف والهلع. في المراحل الأولى والمتوسطة لانتشار الوباء، عملت وسائل الإعلام في لبنان على ترسيخ ثقافة الرعب والخوف والهلع تحت عنوان واحد: “خليك بالبيت”، وقد نتج من جرّاء ذلك انهيار كبير وخطير لسيكولوجيّة الفرد والأسرة، ممّا أفقد الفرد والأسرة المناعة النفسيّة المتينة، وهي المنطلق للغلبة على كل مرض واسترخاء يعصفان بنا. لقد عاينت شخصيًا من باب الصداقة رجلاً أصيب بداء السرطان، وقد أصابه في مكان قاتل، وعلم الرجل بأنّ له شهرين فقط ليعيش. انتفض الرجل على ذلته ورفض الهزيمة، لم يترك عمله البتّة وهو صاحب مصنع، ثمّ أدمن على الرياضة بكلّ أنواعها، وعندما كانت العوارض تحاول اقتحامه كان توًّا ينزل إلى الشارع ويمشي، متبعًا حمية غذائية مفيدة. بعد ثلاثة أشهر ذهب إلى المستشفى، وأجريت له الفحوصات لاستكشاف وضع المرض، فإذ بالأطباء قد انذهلوا لاكتشافهم بأنّ جسمه قد تحرّر من وطأته. عاش من بعد ذلك عشرين سنة ثم توفي بنوبة قلبية. سردت هذه القصّة لأكشف للقرّاء الكرام بأنّ التماسك النفسيّ ضمن بنية واحدة واحدة يؤدّي حتمًا إلى مناعة قويّة تبطل الضعف الجسديّ.
كان هنري برغسون الفيلسوف الفرنسيّ العظيم (1859-1941) يشّدد على التماسك النفسيّ كمنطلق للمواجهة والشفاء من الأمراض. واعتبر في قراءاته بأن أوجاعنا الجسديّة سببها ما نعيشه من تأزم نفسيّ ينعكس على أبداننا. ما يسري على الأمراض يسري على هذا الوباء. التماسك النفسي والرضى الذاتي مصدران لمناعة تمنع الكوفيد-19 من اختراقك، وبحال الإصابة به فالغلبة تكون لك وليست له. القضيّة بأنّ الإعلام في لبنان قد أخذنا إلى الموقع الخطأ، وبالتحديد إلى الموقع المتفلّت، والمترجّح ما بين الخوف والفوضى. لقد استطاع الوباء من هذه الناحية اختراقنا وتحطيم المناعة وضرب وحدة العائلة وسحق التعاطف الإنسانيّ والاجتماعيّ بسبب الخوف والرعب. وبسبب من ذلك، وهنا الخطورة القصوى، بالمعنى الأخلاقيّ والقيميّ، تمّ تحويل الإنسان إلى ذئب وآلة موت بوجه أخيه وصديقه الإنسان. وهذا عينًا ما سبّب مجموعة انشقاقات خطيرة في المجتمع وخصومات متراكمة بين الأفراد والعائلات. والأشدّ إيلامًا أنّ المصاب بالكورونا يفترض عزله بعيدًا، فيبقى مقصيًّا في أرض غربة سحيقة بعيدًا عن المحبّات المنثورة حوله.
غير أن الأخطر من كلّ ذلك، أنّ الكوفيد-19 قضى على التعاطف بين الناس لا سيّما في الأحزان. يستدلّ على ذلك بالتوجّه الجديد والسمج في ترتيب الجنازات. من النبل أن نسمع عددًا من العائلات تطلب من الأصدقاء المواكبة عبر الصلاة والاتصالات فتتوقف مراسم العزاء. كاهن صديق أسرّ لي خلال فترة التعبئة العامة حيث كان البلد بالكامل مغلقًا، بأنّه اضطر مرتين لحمل النعش مع الأهل في جنازتين بسبب اقتصارهما على الأهل فقط. وصديق آخر توفي والده وهو وحيد كما أبوه، اضطرللاتصال بعدد قليل من أصدقائه الشباب لمواكبته في المأتم إلى جانب الكاهن حتى لا يبدو وحيدًا.
خطورة الكورونا أنه خرق عاداتنا، وأجبر رؤساء الكهنة بالطلب من وزارة الداخليّة على فرض نمط غير مألوف وهو اقتصار الجنازات على عدد قليل من الناس، والامتناع عن التعازي في صالونات الكنائس. لقد بات لزامًا على المعنيين التعديل في هذا القرار لا سيّما في الأحزان. ذلك أنّ الصالون إذا تم تعقيمه والناس التزمت بمساحات الوقاية المعقولة مع التعقيم فما الذي يمنعهم من تقبل التعازي في لحظات الوفاة؟ ألا تفهمون بأنّ التشدّد في هذه المسائل سيؤدّي إلى التمثّل بالأنموذج الغربيّ، حيث الإنسان قد يموت وحيدًا من دون معرفة جيرانه، وإذا مات بحضور عائلته أو من تبقّى منها فيدفن من دون حضور أحد ولا يتم تقبّل التعازي به. قيمة مجتمعنا في لبنان وسوريا وفلسطين بأنّنا وعلى الرغم من ضعفاتنا مجتمع متماسك ومتعاطف، وهذا التعاطف يكسبه فرادة تجعله قويًّا بالمحبّة وهي أقوى من جميع المحن.
الدولة معنيّة في تجسيد الحماية المجتمعيّة بتمتين الأمن الطبيّ الوقائي، لكنها غير معنية بتحويل الحماية إلى مشروع خوف وهلع وإبطال ما هو عزيز وطيب ومعزّ للناس. فالحماية تكون بإرشاد الناس على الوقاية بل على التشدّد في الوقاية، ودعوتهم إلى عدم التخلّي عن تقاليدنا المباركة بشرط التشدّد في الوقاية الحامية والمطلوبة.
من هنا السؤال المطروح على معالي وزير الصحة الدكتور حمد حسن، ما هي المنهجيّة المتّبعة في إحصاء المصابين، وكيف يتمّ مسح الإصابات؟ هل معاليك واثق من صحة الإحصاء ودقته وهل الأعداد صحيحة في ظلّ نقد يوجهه عدد من الاختصاصيين اعتبروا بأنّ الأرقام مضخّمة، وخلف التضخيم مآرب أخرى. هل معاليك على دراية بأنّ الوفيات التي تتمّ بسبب أمراض أخرى أو عوارض مفاجئة كالنوبة القلبية يتمّ تسجيلها على أنها ناتجة من الكوفيد-19؟ فهل أنتم تحققون بهذا الأمر، وقد تبيّن بأن هدف تسجيل الوفيات بهذا الشكب قبض مساعدات مالية من الخارج؟
أمّا قرار وزير الداخليّة اللواء محمد فهمي، فلم نفهم إلى الآن فحواه ومحتواه وأهدافه. فإذا كان القصد تخفيض منسوب الإصابات فقد ثبت فشل هذه المنهجيّة وبطلانها، وفي الوقت عينه لماذا القرار استثنى طرابلس وصيدا كمدينتين يسكنهما الفيروس وبشدّة، ولماذا إغلاق قرى لم تعرفه البتّة أو طابت منه. ولعل المنهجيّة الصائبّة والصحيحة هو التصاحب الضروريّ والتلازم الأكيد بين الإغلاق والفحص العشوائيّ. فلو افترضنا بأنّ الدولة لا تملك ثمن التغطية الكاملة في المناطق والمدن المغلقة، فلماذا البلديات لا تقوم بفحص عشوائيّ على جميع أبناء القرى وسكانها، وهذا الفحص أهمّ بكثير من مشاريع بالإمكان تأجيلها إلى مراحل أخرى. القرار الذي أخذه وزير الداخلية وبناء على توصية من اللجنة الوزارية المختصة لا معنى ولا قيمة له في ظلّ غياب الفحوصات العشوائية المطلوبة إذ بمجرّد أن تفتح المناطق سيعاود الوباء هجومه من جديد. وقد ظلمت قرى وبلدات عديدة ليس فيها إصابات من هذا القرار ومنها قريتي سوق الغرب، حيث سجلت فيها منذ أسبوعين ثلاث إصابات شفي أصحابها وطابوا.
ما يهمنا أن يتكرّم معالي وزير الداخلية ويتراجع عن قراره غير الصائب والذي لا جدوى منه في غياب ما اقترحناه. والرجل الكبير هو من يدرك بأنّ النقد البنّاء من أجل خير البنيان، ألا كان الله مع لبنان.
المصدر: ليبانون فايلز