غابت شعارات مستهلكة مثل “الوطنية”، “التوافق”، “وقف العد”، “الحوار”، “العيش المشترك” و”الميثاقية”..
أبو نجم.. عن تمسّك السنية السياسية.. وطموح الثنائية الشيعية.. المسيحيون بشقيه التيار والقوات لا يملكان الترف.. مسار دولة المواطنة العلمانية تراجع أمام تقدّم حضور وهواجس ومخاوف الطوائف.
إنها لحظة سقوط الأقنعة. سقوطها عن المشاريع الحقيقية للأحزاب اللبنانية التي تمثِّل المجموعات الطائفية بوجدانها وهواجسها وشهيتها المفتوحة على السلطة وتناتش مواقعها، وسقوطها أيضاً عن المصالح الكامنة للقوى الجديدة الوافدة بعنوان ما يُعرف بـ”قوى المجتمع المدني”.
حين حان موعد إعادة ترتيب طاولة النظام السياسي وتوزيع المواقع وأحجام اللاعبين، غابت مصطلحات وشعارات مستهلكة في الخطاب السياسي اللبناني مثل “الوطنية”، “التوافق”، “وقف العد”، “الحوار”، “العيش المشترك” و”الميثاقية”، وحل محلها كشف الأوراق الحقيقية للجالسين حول الطاولة، ما جعل مشاهدة اللعبة مكشوفة ومشوقة.
تخلى اللاعب الشيعي عن قناع رفض المثالثة أو قناع التعفف الكاذب عنها، بعدما حان وقتها ونضجت ظروفها. وبغض النظر عن الترجمة أو الترجمات العملية للمثالثة، لكن التمسك بتوقيع وزير المالية على مراسيم السلطة التنفيذية، إضافةً إلى حيازة رأس السلطة التشريعية والسلاح، هو المفتاح الأساس لهذه المثالثة “التنفيذية”، لكأن الشيعية السياسية تريد الوصول إلى المثالثة بطريقة القضم التدريجي منذ اتفاق الدوحة، وإلا فليكن التلويح بقلب الطاولة على التقسيم الطائفي والمذهبي الحالي لرئاسات السلطات الدستورية وعمره من عمر الجمهورية الأولى… أو إشهار سلاح “الدولة المدنية”!
في المقابل، تخوض السُنية السياسية قتالاً دفاعياً عن مكتسبات أعطاها لها إتفاق الطائف. نادي “رؤساء الحكومات السابقين” هو التعبير الأفصح عن هذا المسار، باستشراسه ليس في الدفاع عن الطائف بل عن الموقع السُني الأول في السلطة التنفيذية، الأمر الذي يذكرنا، في بعض جوانبه، بتعنت المارونية السياسية من مطلع السبعينيات وحتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، إلى أن تم التوصل إلى إتفاق الطائف، مع فوارق متصلة بالحواضن الإقليمية وصراعات المحاور ودينامية إنتاج الزعامات السياسية، في ظل شعور عميق يكتنف وجدان المكوّن السُني بفراغ يتأتى من مصادر عدة، أبرزها الإفتقاد للمرجعية العربية والزعامة المحلية.
وثمة مفارقة تتمثل في تلقف النخبة السياسية السُنية للحظة الضغط الدولي على حزب الله. تريد إستثمارها لمحاولة تأخير “القَدر” الشيعي الزاحف وإعادة مد الموقع السُني الأول في النظام بمخالب هجومية لا تتلاءم وشخصية مصطفى أديب الوسطية الآتية من خارج النادي السياسي التقليدي، في الوقت الذي تحاول فيه الشيعية السياسية تحويل هذا التهديد الأميركي إلى فرصة لترجمة قوتها الديموغرافية والجيوبوليتيكية والسياسية.
لا تملك المسيحية السياسية بجناحيها التيار والقواتي، وفي مقابل اختيار البطريرك بشارة الراعي عنواناً ذات ارتباط بالدور الخارجي للبنان ووظيفته الإستراتيجية هو “الحياد”، ترف التَورية إزاء الشهية المتعاظمة لتناتش ما تبقى لها بعد اتفاق الطائف، وهي التي تراقب النزيف الديموغرافي المتمادي وعمق أزمة المواءمة بين حق المواطن – الفرد في الدخول إلى إدارة الدولة أياً كان انتماؤه الطائفي، وبين كيفية تثبيت الحضور وعدم التخلي عن المواقع، بما تعتبره ضماناً تقليدياً لدورها في دولة اختارت الإبتعاد عنها بعد العام 1990.
خذوا ما تريدون من السلطة المركزية واستنِدوا إلى الغلبة العددية، لكن دعوا لنا الوجود والحضور والموارد المالية، في اللامركزية.. “إبتعدوا عنا قدر ما تستطيعون”، يقول المزاج المسيحي الدفين للشركاء المسلمين، بجناحيهم السُني والشيعي، وما عكسُ ذلك ليس إلا كذباً، كما الشعارات “الوطنجية” للطوائف الأخرى
في الأساس، كانت طروحات المسيحية السياسية منذ زمن المواجهة في السبعينيات صريحة إلى حد الفجاجة. الفدرالية كانت في تلك المرحلة تعبيراً علنياً لما تعتبره حفظاً للديموغرافيا وللدور السياسي وللخصوصيات. اليوم وبعد هاجس الحفاظ على الجغرافيا إلى حد إصدار قرارات إدارية بمنع تملك مواطنين مسلمين أملاكاً ضمن نطاق بلدية التماس المسيحي – الشيعي في الحدث، يكون للامركزية الموسعة، المالية والإدارية، الهدف نفسه. أي “الإبتعاد” عن الإرتباط السياسي بالبيئة المسلمة، لكن بتسمية “الموسعة” تخفيفاً لوقع الفدرالية على مزاج إسلامي عربي يقوم على الوحدانية، تماماً كما تم استعمال مصطلح الدولة “المدنية” تخفيفاً لوقع العلمانية على هذا المزاج. بمعنى آخر، خذوا ما تريدون من السلطة المركزية واستنِدوا إلى الغلبة العددية، لكن دعوا لنا الوجود والحضور، والموارد المالية، في اللامركزية… “إبتعدوا عنا قدر ما تستطيعون”، يقول المزاج المسيحي الدفين للشركاء المسلمين، بجناحيهم السُني والشيعي، وما عكسُ ذلك ليس إلا كذباً، كما الشعارات “الوطنجية” للطوائف الأخرى.
الإشكالية الأعمق في موازاة رهانات الطوائف في لحظة البحث في أحجامها في النظام السياسي، هي في مدى حضور الحالة المدنية التي ترفع شعار تجاوز الطائفية لحساب تشكيلات عابرة لها، وهذه الحالة أوسع وأعمّ من قوى المجتمع المدني المولودة من الدعم الأميركي والغربي بهدف ضرب الأحزاب وخلق حالة موالية للغرب وأجنداته أفضل من تلك التي يمكن أن تجسدها القوى الحليفة تقليدياً للأميركيين. فخلال تحركات انتفاضة 17 تشرين/أكتوبر، ولا سيما في موجتها الأولى، أبعدت دينامية التلاقي على عناوين اقتصادية واجتماعية مطلبية جامعة لكل أطياف الشعب اللبناني، عناوين مواقع الطوائف وصلاحيات ممثليها في السلطة إلى الخلف، في لحظة وطنية هادرة بعفويتها، من دون أن تلغيها بطبيعة الحال في مجتمع متعدد طائفياً. بات هاجس الناس كيفية تحقيق إصلاح مالي واقتصادي في ظل شبح الإفلاس، لكن عاطفية اللحظات التاريخية – كما في أوهام لحظة 14 آذار 2005 نفسِها – شيء، والقدرة على تجاوز ما هو عميق في الوجدان، وحضور القوى العميقة، أي تلك المتجذرة في المجتمع والبيئات الطائفية وبالتالي في السلطة والمتحكمة بالقدرة على الفعل، شيءٌ آخر.
الرهان المدني أو “الثوري” نسبة لـ 17 تشرين/أكتوبر، لديه بذوره الكامنة في تعطيل مشاريع وطنية إصلاحية تغييرية بالممارسات والإستهداف الذي قادته بعض الدوائر من داخل الحراك الشعبي للتركيز تحديداً على رئاسة الجمهورية ورمز استمرارية “حالتها السياسية”، أي جبران باسيل.
المقلق في كل تلك الصورة، أن الرهان على التوازي بين تعديل أحجام الطوائف وتصحيح هذا النظام بتعديلات دستورية تمنع تعطيله وشلله من جهة، ومن جهة ثانية تشقُ طريقاً إلى دولة المواطنة العلمانية، لا يزال ضعيفاً في ظل تجذّر القوى العميقة المعاندة للإصلاح بأشكاله كافة…
وهذا الضعف هو نفسه الدافع الأول لأي قوة أو مرجعية للمبادرة في المئوية الأولى للبنان الكبير، فهل من مبادرين؟
المصدر: https://180post.com/