من كتابات وأقوال القديسة ماري ألفونسين: حياتها – وصف لبعض الظهورات..
ماري ألفونسين غطاس هي راهبة مسيحية ولدت في القدس باسم سلطانة عام 1843، وانخرطت في سلك الرهبانية عام 1860 وأبرزت نذورها الابتدائية عام 1863، وقامت بعد إبرازها النذور بتعليم اللغة العربية لمدة سنتين في القدس، أسست خلالها “أخوية الحبل بلا دنس” و”أخوية الأمهات المسيحيات”.
نقلت بعد القدس إلى بيت لحم، وخلال تواجدها هناك، ظهرت لها السيدة العذراء طالبة منها إنشاء رهبانية جديدة باسم “راهبات الوردية المقدسة”، ووافق بطريرك القدس اللاتيني آنذاك على طلبها، فتأسست على يدها “راهبات الوردية المقدسة” عام 1883 برفقة ثمانية فتيات أخريات. وقد تمت الموافقة على قوانين الرهبنة عام 1897 ونمت بسرعة وازداد عدد المنتسبات لها، ثم أصبحت عام 1959 رهبنة حبريّة أي تتبع مباشرة للكرسي الرسولي.
جالت الأم ماري ألفونسين في مناطق عدة ضمن مهمة التدريس والإرشاد في كل من مدينة الناصرة ومدينة السلط في الأردن وغيرها من الأماكن، وأخيراً في بلدة عين كارم حيث توفيت بعد أن أسست داراً للأيتام. وقد تميّزت بالحب والتواضع والصمت والبذل والعطاء.
تم إعلانها طوباوية للكنيسة الكاثوليكية في 22 تشرين الثاني 2009، بعد موافقة البابا بندكتس السادس عشر على أنها عاشت “الفضائل المسيحية” وهي المحبة والإيمان والرجاء خلال حياتها الأرضية، ونسبت أعجوبة شفاء لشفاعتها؛ وقد تم قداس التطويب في بازيليك البشارة بمدينة الناصرة. وأعلنت قديسة في 17 أيار 2015 في الفاتيكان.
من كتابات وأقوال الطوباويّة ماري ألفونسين
“الطويل الأناة يصبر الى الوقت الملائم،… الى الوقت الملائم يكتم كلامه، وشفاه الكثيرين تخبر بفطنته“. (سي 1/ 23-24) هذه الحكمة من سفر يشوع بن سيراخ تلاقي صداها في خبرات العديد من القديسين الذين عاشوا في الخفاء ثمّ ضجّت شفاه الناس أجمع بالحديث عنهم.
هوذا القديس شربل، الصّامت المتأمّل، السّكران بالله، الهارب من ضجيج العالم وضوضائه الى هدوء محبسة ينعم فيها بسماع همسات الروح. فها هو بعد وفاته بعقود كثيرة، تضيق به جدران المحبسة، لا بل حدود لبنان، فيعلن عاليًا مجد الله وكلمته الشافية على لسان من يطلبون شفاعته في كلّ أصقاع العالم.
وها هي القديسة تريزيا الطفل يسوع والوجه الأقدس، القديسة الصغيرة، راهبة تخفيها جدران دير الكرمل مدّة حياتها القصيرة على الأرض، لتصير بعدها، طيلة الأبديّة، سفيرة للنّعم الإلهيّة في كلّ العالم، وتصبح كلماتها المدوّنة بأمر الطّاعة أناشيد تسبيح لله وإرشادات ملفانة في الحياة الروحيّة لكلّ المؤمنين.
والسلسلة تتتابع الى ما لا نهاية بالقدّيسين أمثالهم…
إنّما نتوقّف هنا للتأمّل بشخصيّة جديدة آثرت الصمت المقدّس على الكلام طيلة حياتها وإذ بها تحفظ لنا كلمات مدوّية الى ما بعد الممات؛ هي الطّوباويّة ماري ألفونسين، عاشت بصمت وخفاء، وحفظت في قلبها سرّا دفينًا طيلة 53 سنة بأمانة وكتمان كليّ، فلم تخبر أحدًا عدا مرشديها عن “هذه الأشياء الصعبة التي لا إسم لها” كما تسمّيها في المخطوط الأوّل. ولولا تدخّل العناية الإلهيّة من خلال مرشدها الخوري يوسف طنّوس يمّين الّذي أمرها بتدوين كلّ ما رأت وسمعت، لكنّا ربّما اليوم نجهل كلّ شيء عن اختبار روحي فائق الطبيعة وعن حقيقة تأسيس رهبانيّة الورديّة. فالشكر لله الّذي لا يرضى بأن “يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، بل على المنارة، فيضيء لجميع الّذين في البيت”. (متى 5/ 15).
أن نتكلّم عن أقوال الأم ماري الفونسين، وهي الصّامتة صمت أبيها الروحي القديس يوسف، مهمّة شبه مستحيلة. فكلّ ما وصل إلينا من أقوال تنسب إليها لا يتعدّى بضع عبارات تقصّاها الأب مبارك ستولتس من راهبات وعلمانيين عايشوها وأوردها في كتاب “أزهار الورديّة”، أوّل كتاب يروي لنا سيرة أمّنا الطوباويّة. وفي هذه العبارات أيضًا لا يمكننا أن نغفل إمكانيّة أن يكون الكاتب استحسن أن يروي الأحداث بصيغة الحوار فيكون بذلك حافظ على جوهر القصّة واضعًا على لسان الأم ماري ألفونسين أقوالاً لا يمكننا الجزم بأنّها تلفّظت بها حقًّا.
ويؤكّد الأب كمال بطحيش، مترجم الكتاب الى العربية، أنّه بدوره أضاف بعض الحوارات، “حيث رأى في الحوار إمتاعًا، من غير أن يشوّه الجوهر”. إذن، ليس للأم ماري ألفونسين أقوال شفهيّة متناقلة موروثة يمكننا التأكيد عليها. أمّا كتاباتها، فتقتصر على مخطوطين، وقطعة بالية من الورق سجّلت عليها بضع عبارات روحيّة ووصيّة أخيرة. هذا كلّ ما بقي إرثًا ثمينًا لرهبانيّتنا وللكنيسة الجامعة وللعالم بأسره من حياة روحيّة تفوح بعطر القداسة وتنعم بالحضور الإلهي المجيد، احتفظت أمّنا الطوباويّة بسرّه مكتومًا بحرص شديد حتّى وفاتها سنة 1927، كما تؤكّد بنفسها في مخطوطها الأول إذ تقول: “وكنتُ أحفظ كلّ هذا سرًّا حتى لا أحد يفهم ما الّذي حدث لي”.
ولأنّ روح العالم يخاف من نسيم السّماء، كاد المخطوط الأوّل، الّذي يحوي قصّة ظهورات العذراء للأم ماري ألفونسين، أن يمضي طيّ النسيان من جديد باحتراقه. إلا أنّ الأم البتول كانت ساهرة بحرص على إتمام مشروعها، فألهمت الأم أوغسطين عرنيطة، معلّمة الابتداء آنذاك، أن تشجّع المبتدئات على نسخ المخطوطين للارتواء مما يحتويانهما من غنى روحي ومثال رهباني أصيل يدعم تنشئتهنّ. حصل ذلك قبل احتراق الدفتر الأوّل، الّذي بقي لنا منه اليوم نسختان، واحدة بخطّ يد الأم حنة دانيل شقيقة الأم ماري ألفونسين، والثاني بخطّ يد الأخت جولييت عتيق التي كانت آنذاك في عداد المبتدئات. وقد احتفظت بهذا الدفتر كنزًا ثمينًا وجوهرة نفيسة تنقله معها من دير الى دير، إلى أن سلّمته للأم براكسيد سويدان في 15- 10- 1985، خدمة لدعوى تطويب الأم ماري ألفونسين. هذا المخطوط الأوّل يُعرف باسم مخطوط الظهورات. يتألّف من 64 صفحة. دوّنته الأم ماري ألفونسين بأمر من مرشدها الخوري يوسف طنّوس يمّين، وبدأت ذلك – كما تذكر في الصفحة الأولى منه – في 8 تشرين الثاني 1879. تروي فيه كلّ ظهورات مريم البتول لها والاختبار الروحي الفائق الطبيعة الّذي عاشته بين عامي 1874 و 1880. بالإضافة لرواية انتقالها من رهبانيّة القديس يوسف للظهور الى رهبانيّة الورديّة الناشئة، ومراحل التأسيس ونذور الفوج الأوّل من الراهبات وبدء الانتشار للرسالة في رعايا البطريركيّة اللاتينيّة في القدس.
أما المخطوط الثاني فما زال محفوظًا في أمانة سرّ الرهبانيّة بخطّ يد أمّنا المؤسّسة. وهو دفتر من 17 صفحة، وفيه تروي الأم ماري ألفونسين تأسيسها للإرساليات الأولى واختبارات الرسالة التي عاشتها في طور التأسيس، وصعوبات الفقر والعوز التي واجهتها بفرح وتسليم. وأبرز ما تخبره في هذا المخطوط هو قصص الشفاءات والأعاجيب التي نالتها من الأم البتول بفضل ورديّتها، وكيف انتشرت عبادة الورديّة وإكرام مريم العذراء نتيجة ذلك.
في ما يلي، يطيب لنا أن نشارككم، أعزّاءنا القرّاء، ببعض ما كتبت أمّنا الطوباويّة في المخطوطين، نجمعها بحسب موضوعاتها من وصف لمريم العذراء كما ظهرت لها وروايتها لبعض الظهورات، الى عباراتها الروحيّة ومشاعرها تجاه الأم البتول، وشرحها لبعض النّعم والمفاعيل الروحيّة لهذا الاختبار الفائق الطبيعة في حياتها، ثمّ كلمات لها في عيش الفضائل والمشورات الإنجيليّة. ثم نورد بعض عباراتها الروحيّة التي وجدت على قطعة الورق في غرفتها بالإضافة لنصّ وصيّتها الأخيرة. آثرنا في ذلك الأمانة لأسلوب الأم ماري ألفونسين في كتاباتها، مع ما يميّزه من بساطة وعفويّة تمزج أحيانًا بين اللغة المكتوبة واللغة المحكيّة، وبالرّغم ما يعتريه في بعض الأحيان من أخطاء في الإملاء، لكي نتفادى أيّ احتمال خطأ في تقديم الفكرة أو تغيير للمعنى، آملين أن تحمل كلمات أمّنا الطوباويّة غذاءً روحيًّا لكلّ من يطالعها، وتمكّنه من التعرّف أكثر الى هذه النفس القدّيسة المولعة بحبّ الله ومريم العذراء، للاقتداء بمثلها.
🙏♰🙏
I- من كتابات الطوباويّة ماري ألفونسين في المخطوطين الأوّل والثاني.
1- وصفها لبعض ظهورات مريم البتول لها
– الظهور الأوّل في السادس من شهر كانون الثاني سنة 1874، يوم عيد الغطاس: “حسّيت قلبي قد اضطرم ملتهبًا بمحبّة أمّي مريم البتول، وظهر لي بغتةً نور عظيم بهيّ ما يمكن وصفه، وبه ظهرت لي بغتةً الأم الحبيبة سيّدة الورديّة، كما أنّي فيما بعد أبرزتها في الصورة… أعني واقفة في وسط غيم متلألئ، باسطة يديها، ولونها أبيض لميع صافي لا شرح له، ولا تشبيه لوصف جماله، والمسبحة الورديّة كانت معلّقة في الصليب الّذي كان على صدرها والمسبحة نازلة على يديها وعلى طولها بهيئة مدوّرة، وكانت البيوت نور نجوم محلّ العلامات وفي وسط كلّ نجمة السرّ المختصّ بها، …، وكان فوق رأسها إكليل نجوميّ مركّب من خمسة عشر نجمة، وتحت قدميها في الغيم، كان سبعة نجوم وبهم أسرار افراح مريم البتول، وتحتهم في الغيم كان سبعة نجوم أخر وبهم أسرار أحزان مريم أمّي،…”
– في اليوم الأوّل من الشهر المريميّ، “…، إذ كنت متوجّهة الى مغارة السيّدة أمّ الحليب (في بيت لحم)، ومن حيث عادتي أن أتلو الورديّة حتى في الطريق، وحين كنت ألفظ “السلام لك يا مريم” سمعت صوتًا حلوًا يجيبني: “السلام لك يا مريم”، فرفعت عينيّ نحو السّماء ورأيت أمّي الحبيبة وكان قلبها مفتوحًا…”
– حينئذٍ أمي كانت تسرع لمعونتي، وتظهر بواسطة عدّة أنوار ساطعة تتلألأ ببهاء وجمال ما له تفسير، بيدها الورديّة، وموجودة بين أنوار أسرارها، وتلهمني أنّ الورديّة سلاحي وقوّتي وكنزي مع الله. ولمّا كانت تضعف قوى نفسي، كنت أتلو الورديّة، وأحسّ باتّكال على أمّي الإلهيّة فأجد نعمة وقوّة.”
2- مقطع من حوار بين الطوباويّة ماري ألفونسين ومريم البتول عندما أعطتها العلامة عن المرشد الّذي اختارته ليساعدها بالتأسيس، وهو الخوري يوسف طنوس يمّين: بمنامي كانت أمّي الحلوة واقفة بقربي، وكان يسوع على يديها طفلاً، فقلت لها:
– “يا أمّي، أسعفيني ونوّريني”.
– فأجابتني: “أما فهمتِ! هذا هو المرشد، كان إلهام لكِ في وقت الرؤيا، وأنا أقول لكِ الآن، هذا هو الأب المحترم يوسف طنوس، الّذي وضعت الاكليل النجومي على وجهه، فهو أعطيكِ إياه مرشدًا ومدبّرًا لك مني، أنا أعينه وأضع في قلبه اهتمام ومعونة لتدبير رهبنة الورديّة.”
– أجبتها بدالّة: “كيف يا أمي، تختاريننا نحن الفقراء المزدرى بنا؟ لماذا ما تعملي هذا في بلاد الأغنياء في اوروبا؟”
– فضحكت قائلة: “أذكري يا ابنتي أن من بين الشوك يخرج الورد، اني في هذه البلاد فرحت وحزنت وتمجّدت، فمنكم وبكم أظهر قوّة يدي.”
3- من أقوال مريم العذراء للطوباويّة ماري الفونسين
– إنّ الورديّة هي كنزك، اتّكلي على رحمتي والجود الإلهي القدير وأنا أدبّرك.
– اعملي هذه الرهبنة وأنا أعينك واعلمي واعرفي أنّ أخويّة ورهبنة الورديّة تنجح وتثبت الى يوم الدينونة، إن باشرتها حسب أمري وإلهامي لك.”
4- شرح الطوباويّة ماري الفونسين لحالتها الروحيّة والنفسيّة نتيجة الظهورات
– “لمّا عيني نظرتها المرّة الأولى، فقد سكبت الدموع الغزيرة، وانشغفت بمحبّتها، ويدي انفتحت وارتفعت لمعانقتها وضمّها داخل قلبي. ولمّا كنت بهذه العواطف فهي كانت تزيد لمعانًا وأشعّة واقترابًا إليّ، …، وأوهبتني هدوءًا وحريّةً لكي أتأمّلها جيّدًا”.
– “بعدئذٍ غابت، وتركتني بهدوء وسلام وتعزية روحيّة لا يمكنني وصفها، واشتياق عظيم لرؤيتها، ورغبة شديدة لممارسة أشياء عظيمة وكثيرة من الفضائل للخير العام حبًّا بها، وخصوصًا الاماتة الداخليّة القلبيّة، …”
– ” وصارت لي الأشياء المرّة حلوة، والعذابات نعيم ولذّة الانفراد فردوسًا، والطاعة بهجة لقلبي وروحي.”
– “وتركتني على هذه الأرض جريحة محبّتها، إنّما بعد هذه الزيارة العجيبة أبقت فيّ شيئًا عجيبًا قد انطبع في عينيّ نور مريمي، لا يمكنني إلا السكوت عنه لأنّه لا يتفسّر بشرح الكلام. ومما حدث بي فهمت معنى هذه الكلمات، وهي: الذي هو غير ممكن عند الناس هو ممكن عند الله.”
– صرت أنظرها في أوقات لا تعدّ ولا تحصى في كلّ مكان وبكلّ أوان، وخصوصًا وقت احتياجاتي. فتسرع حالاً بنوع منظور مني لمعونتي وانقاذي. وكانت بنوع مفهوم مني واشارات منظورة، تعرفني بعض أشياء مستقبلة. وقد سكبت عليّ عبادة حارّة نحو يسوع إلهي في القربان الأقدس وتلاوة المسبحة الورديّة، وممارسة دورة درب الصليب. وكنت أرغب أن أميت ذاتي وألاشي جسدي لأجل محبة ذاك الإله الذي لاشى ذاته ومات لأجلي.
– وصارت لي منذ ذلك الوقت الاماتات راحة، وكلّ الاضطهادات فرحًا وكنت أسمع التوبيخات كأنّها إكرامات ومديح، وصرت ليس أحتمل بصبر فقط، بل أفتّش على فرصة للاحتمال والعذاب. – وكان حبّي ليسوع ومريم أمّي ملتهبًا سعيره ضمن فؤادي، وكثيرًا أمّي تزورني وتعزّيني وتقوّيني، وبمراحمها جعلت عزلتي فردوسًا، وفقري سعادة، وعذابي وتعبي حلوًا.
5- عواطف روحيّة وصلوات
– ” يا لها من أمّ جميلة لا يمكنني وصفها ولا صورة تشبه إشارة من بهاء جمالها!”
– “يا أمّي كيف تتنازلين وتزورينني؛ هل نسيتِ أنّي خاطئة عظيمة والوفًا الوفًا من الخطايا أنا فعلت؟”
– “أخاف من أن يكون هذا غشًا أو تجربة، لأني مقتنعة أني عديمة الاستحقاق لهذه الأنعام السماويّة.”
– …هذه لي حسرة قلب عظيمة، لأني أتنهّد أسفًا وأقول: “أواه، لو كنت أبدأ حياتي، لكنت بعونه تعالى أعيش أحسن مما عشت…”
– “إنّ جودة أمّي مريم لا حدّ لها، وما يوجد ألسنة تشرحها ولا كتب تسع تفسيرها. ولا صورة تشبه جمالها.”
– إن كنت أريد أن أكتب جودة الله وكرم أمّي نحوي، فما أقدر ولا أعرف ولو فنيت جميع أيامي بالشرح والشكر عنها ولها، فما تكفيني لذلك إلا الأبديّة السّعيدة التي أترجّاها من مراحمه تعالى لكي أمجّده سرمدًا.
– “أواه! يا ربّي! أهكذا تجود وتعزّي الخطأة الغير مفتّشين عليك! أفما عسى تكون محبّتك نحو أصدقائك وأصفيائك؟”
– آه! من يفهمك يا مريم أمي ومن يدرك جودة إشفاقك على بنات جنسك وخصوصًا الحائرات في عيشتهنّ.
6- في الفضائل
– حين كنت أتأمّل عظم سموّ فضائل أمّي مريم، وكنت أخجل من عدم اقتدائي بفضائلها. فصرت أطلب منها نعمة فعّالة تجعلني أقتدي بها في الحياة الباقية من عمري …
في المحبّة
– حينئذٍ سكبت قلبي بالمحبّة لها. وتمتّعت برؤياها الحلوة العجيبة في ذلك الوقت. هي وحدها تعرف العواطف التي كانت في قلبي نحوها، والمحبّة الملتهبة بي من كرمها. فغابت وتركتني كأنّي في فردوس سماوي وصارت حالتي حالة المحبّة التي لا يمكنني شرحها.
– وصرت جريحة محبّتها، وصارت عيوني تسكب دموعًا غزيرة وقلبي الجريح يعصر دمًا من كثرة المحبّة لله ولها.
– فنظرت إليّ (الأمّ البتول) بعواطف الشفقة والحنيّة، وملأتني من البهجة والنور. حينئذ ما علمت ماذا حدث لي فذاب قلبي من المحبّة ومن يحبّ يفهمني…
في التواضع:
– تقول لإحدى أخواتها الراهبات: “أما تعلمين أنّ علينا أن نشتري الجنّة بالتواضع!؟”
– “يا أمّي: ما لكِ تتساهلين وتزورينني؟ هل نسيتِ أنّي خاطئة عظيمة ارتكبت آلافًا من الآثام؟”.
– أخاف من أن يكون هذا غشًّا وتجربة لأني مقتنعة بعدم استحقاقي لهذه الانعامات السماويّة.
7- في المشورات الانجيليّة
– فكنت أنظر هناك (أي في الدير) جميع الراهبات يمارسن طاعة تامّة اكرامًا لأسرار أفراح مريم، وفقرًا كليًا اكرامًا لأسرار أحزان مريم، وعفّة وطهارة نقية اكرامًا لأسرار أمجاد مريم. وبهذه الثلاث فضائل كنّ يكرّمن سيدة الورديّة.
في الطاعة:
– وصارت لي الطاعة بهجة لقلبي وروحي. وكنت أتمّم كلّ أوامر رؤسائي ومراسيمهم بسهولة ومحبّة لا توصف،…
– ولولا انّ الطاعة منعتني كنت قطّعت ذاتي ولاشيتها حبًا بيسوع إلهي.
– عن إرشاد كاهن بيت لحم القاسي لها تقول: “انا خضعت بقلب سليم لكل هذا وتمّمت كلّ ما أمرني به. ولكن حسّيت بشدّة الألم والعذاب وكنت أتنهّد قائلة: ما أقسى هذا الإرشاد! يا لقهر قلبي! لكن الأب قاسٍ وأما الأم حنونة على ضعفي.”
– وكنت أتمّم كلّ أمر مرشدي بتدقيق، ودائمًا تتميم أمر الطاعة كان تعزيتي وعذوبتي وفردوسي. وهذه النعمة منحتني إياها أمي من حين حداثتي كرمًا منها.
– فبعد كلّ هذا صرت حائرة في حالي، كيف اترك أخويّتي التي كنت أحبّها جدًا أي رهبنة مار يوسف، وكنت بها مشتركة من مدّة ثلاث وعشرين سنة بغاية الراحة والتوفيق، مع رؤسائي وأخواتي ومدارسي وبنات أخويّتي. لكن حبًّا بمريم واكرامًا لها قصدت أطيع صوتها، وأقدّم ذاتي ذبيحة في رهبنة الورديّة المقدّسة، متّكلة على معونة أمّي.
– بعد طاعتي لمرشدي بتحرير كلّ ما نظرت وسمعت وأمرت، بأمر رهبنة الورديّة المقدّسة، شعرت براحة ضمير وطمأنينة لا يمكن وصفها، وشكرت مراحمه تعالى وأمي البتول،…
في الفقر
– في فقرنا وضيق محلّنا كانت تعزيتنا وبسطنا.
– يا ما أحلى وأريح عيشة الفقر.
– أما أمّنا الحنون فكانت تعزّينا بوفور عبادتها الحلوة، ونقول لحضرة أبونا (أي الأب يوسف طنوس): “لا تحزن علينا، نحن نقول أبانا الّذي في السماوات فهو يرزقنا.”
– تعزيتنا كانت عظيمة بفقرنا الزايد الحدّ. وكنّا نقدّم احتمال هذا الفقر تعويضًا لما ينقص ويخالف بنذر الفقر في رهبنتنا. ونفرح مسرورات بفقر العيلة المقدّسة، في البلد ذاتها التي بها احتملت عذاب الفقر الكليّ. يا لسعادتنا بنول هذه النعمة من كرم الطفل يسوع.
– شكرًا لأمّنا الحبيبة التي تنازلت وأشركتنا بعذابها هذا، وعدم وجودها في هذه البلاد المقدّسة سوى مغارة فقيرة جدًّا لسكناها. يا ما أحلا عذاب عيشة الفقر التي لدينا حلوة بالاشتراك بفقر العيلة المقدّسة.
8- الحوار الأخير بين الطوباويّة ماري ألفونسين والأب يوسف طنوس يمّين قبل وفاته كما يرد في دفترها الثاني.
قبل وفاته بساعة، كلّمني وحدي مدّة ساعة، وقال لي: “خذي بركتي الأخيرة، وأسفا عليكِ إن كنتِ تبقي طويلاً في هذه الحياة بعد موتي، لأنهنّ يعذبوكِ جدًا يا مسكينة بينهنّ”.
فجاوبته: “لا بأس من عذابي، أنا ذبيحة الورديّة، أرغب فقط أنك تكون مرتاح في الديار السماويّة، وراحتك هي راحتي، إنّ أمّنا الحبيبة التي خدمتها في الحياة تأتي وتساعدك في هذا الوقت.”
جاوبني: “ما أحلى الموت، فقط مريم طوّلت، متى تجيء يا ترى؟”
فباركني والتفت نحو صورة العذراء، وشهق وسلّم روحه بيد الله. وصارت عيونه تلمع كضوء الشمس.
II- أفكارها الروحيّة التي وجدت على ورقة في غرفتها:
– “يا يسوع، دعني أهيم في حبّك”.
– “الحب قوي كالموت. الحبّ يجعلنا نقدّر الفقر ونصبر على الجوع والبرد ونسرّ بالاهانة ونرضى بالمرض ونقاوم التجربة ونحتمل الاضطهاد. الحبّ يحثّنا على مساعدة القريب في جميع احتياجاته.”
– من يعيش من الحبّ، فلا يترك واجباته التقويّة وقت الجفاف الروحي بل يستطيع أن يقول مع الرسول: “من يفصلنا عن محبّة المسيح؟” (رو 8: 35).
– يا لتعزية النفس التي تجتذب قلوب الآخرين الى محبّة الله.
– في محبة يسوع ومريم توجد السعادة والسلام والفرح الحقيقي ولا سيّما الصبر والشجاعة والثبات.
– يجب أن نملك فضيلة عظيمة لكي نعطي منها للآخرين.
– الكفر بالذات يجلب النعم العظيمة كالرغبة في الصلاة المستمرّة، ووداعة القلب والفرح الداخلي والاتّضاع الحقيقي والاقتداء بمعلّمنا الإلهي الذي عاش في الأماكن الّتي نعيش فيها.
– الحمد لله على هذه النعم التي لا نستحقّها والتي لم تعطَ لنا لمنفعة شخصيّة بل لاشراك الآخرين فيها.
– يجب أن نسعى الى القداسة وأن نجذب إليها اخوتنا في المسيح.
تشاركنا، في هذه الصفحات، بضع كلمات من عصارة مسيرة روحيّة مزجت الضعف البشري بالفضائل الإلهيّة والانسانيّة، وصهرتها بخبرة روحيّة فائقة الطبيعة. ولعلّ أبلغ كلمة لها هي صمتها المصلّي، المدوّي في ذاكرة الكنيسة وفي ضمير الرهبانيّة، شاهدًا على عمق بنوّتها لمن “كانت تحفظ كلّ شيء وتتأمّله في قلبها”.
وفي الختام، نترك كلمة النهاية للطوباويّة ماري ألفونسين في وصيّتها الأخيرة، آملين ان تحمل لنا بداية مسيرة متجدّدة بالروح القدس، شاكرين الله على جعلها قدوةً لنا وسائلين شفاعتها.
“باسم الآب والابن والروح القدس. آمين. ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امح مآثمي. يا نفسي، استودعي ذاتك يدي مريم سلطانة الورديّة أمك واتّحدي بقلب يسوع عروسك الى دهر الدهور. آمين.
اني أموت مسيحيّة وراهبة ورديّة حقيقيّة. وأرجو مغفرة خطاياي باستحقاق دم يسوع الثمين وبشفاعة أمي سلطانة الورديّة المقدّسة والقديس يوسف، اني اتّكل على صلوات أخواتي في الرهبانيّة وعلى الثلاثة والثلاثين قدّاسًا التي ستقدّم بإذن الرؤساء لراحة نفسي، باسم يسوع ومريم. آمين.”
الأخت ماري ألفونسين
راهبة الورديّة
بقلم الأخت غادة نعمه – راهبة الورديّة